لا بد من مسحة جنون في عقل الحكيم - أرسطو
1- مقدّمة:
لم يعرف الفكر الإنساني نظيرا للسمو الأخلاقي الذّي
نجده في فلسفة كانط وأعماله، وقد لقب بفيلسوف الواجب الأخلاقي لإبداعاته الرّائدة
في تقديم نظرية أخلاقية لا مثيل لها في تاريخ الفكر الإنساني. وقد تجلت مواقفه
الفلسفية الأخلاقية في جليل أعماله وعظيم مؤلفاته ولا سيّما في كتبه: "أساس
ميتافيزيقا الأخلاق ((1785 ونقد العقل العملي (1788) ، وميتافيزيقا الأخلاق (1797).
وبرز هذا الاتّجاه أيضا في كتابه "رسالة في الأخلاق والدين"، كما تناول
هذا الجانبَ في كتابه المعروف" في التربية"(On education) وكرّس أهم محاوره للتربية الأخلاقية، وقد اتّضحت هذه الأخلاق في
كتابه السلام الدائم "Perpetual
Peace"(1795). وكان
هذا الموضوع الأخلاقيّ متواترا في معظم أعماله غالبا عليها بصورة مستمرة وثابتة،
لذلك استحقّ لقب فيلسوف الأخلاق بكلّ جدارة وامتياز كنتيجة طبيعة للجهود الجبارة
الّتي بذلها في هذا المجال.. ومن الطبيعي أن نظرية كانط الأخلاقية بلغت أرقى مستوى
من مستويات التفكير الأخلاقيّ الذي يبحث في الفضيلة وشروطها الإنسانية. وقد جعل من
الأخلاق غاية الوجود بل غاية الخلق الكوني للطّبيعة والإنسان. وعلى هذه الصورة من
الإنتاج السامي في مجال الأخلاق والواجب تبدو نظرية كانط وكأنها دعوة نبوية رسولية
إلى تمثل الأخلاق كدين عالمي.
ولكن على الرّغم من هذا السّموّ الأخلاقيّ الّذي
وسَم فلسفة كانط وحمله على أن يجعل الإنسانَ غاية قصوى والقانونَ الأخلاقيّ قيمة
إنسانيّة عليا، وعلى الرّغم من قوّة الدّعوة إلى السّلام الإنسانيّ والتّآلف بين
البشر من أجل نصرة هذه القيم، فإنّ هذا الفيلسوف لم يستطع أن يُخفي البعد العنصريّ
الّذي رشح بوضوح في فلسفته الأنثربولوجية. ولم يكن للسماء الصافية في فلسفة كانط
إلاّ أن تتلبّد بغيوم سوداء مخيفة تمثلت في مواقف عنصرية مُشينة في تفكيره. ولا
يخفى على من اعتاد أن يتأمل في السمو الأخلاقي لفلسفة كانط أن يصاب بالذهول
والصدمة عندما يتعرّف إلى أفكاره العنصريّة التي أثارت عاصفة من النقد والتحليل
والتفكير. والمشكلة الكبرى التي تواجه القارئ قبل الفيلسوف أنه لا يمكن التوفيق
إطلاقا بين نقيضين متطرفين لا يمكن الجمع بينهما أبدا؛ أي بين السمو الأخلاقي الذي
عرفت به فلسفة كانط والأنثروبولوجيا العنصريّة الّتي صرح بها في بعض مقالاته
وأعماله.
وقد مثّلت آراء كانط العرقية العنصرية صدمة أيضا للمفكرين
والباحثين الّذين حاولوا بشتى الطرق أن يجدوا تبريرا مقبولا لهذا الانشطار الهائل
ما بين القيمة الأخلاقية التي يجسّدها كانط والتوجهات العرقية التي ظهرت بوضوح في
بعض أعماله الفكرية. وتبعث مثل هذه المفارقة الحادّة المُحيّرة على الشّكّ في
فلسفته بمجملها.
2 - نزعة عنصريّة صريحة:
شابت أعمال كانط الأنثروبولوجية كثير من الإشارات
العنصرية التي لا تليق بمقامه الفلسفي السامي. وتتمثل هذه النزعة العنصرية في
دعوته إلى تصنيف الأجناس البشرية بحسب المعايير العرقية وفق سلم سيكولوجي وفيزيائي
يحتل فيه أصحاب البشرة البيضاء المكانة العليا في مراتب التفوق والذكاء، مشيرا إلى
أنهم أكثر الأنواع البشرية ذكاءً وفاعلية ومقدرة على بناء الحضارات. ثم يأتي أصحاب
اللون الأصفر في الدرجة الثانية، ويأتي أصحاب البشرة السوداء في الدرجة الثّالثة،
وفي الأسفل الهنود الحمر الذين صنفهم على أنهم أسوأ الأجناس وأقلهم تطوراً وذكاءً
. وعلى هذا النّحو يقسّم كانط البشر إلى أربعة أعراق متباينة في سلم انحداري من
حيث القدرة والقدر:
1-العرق الأبيض أو ذوو البشرة البيضاء الّذين لديهم كل المواهب
السيكولوجية وكل السمات العقلية والقوى الحافزة على بناء الحضارة وفهم العالم
عقليا.
2-العرق الآسيويّ أو ذوو اللون الأصفر، وهم يمتلكون قابلية للتعليم
المجسد وليس للتعليم الفلسفي المجرد.
3-العرق الأسود، هم من أصحاب اللون السود الذين يمكن تعليمهم
بوصفهم خدما.
4-العرق الأحمر، وهم السكان الأصليّون لأميركا غير القابلين للتعليم على الإطلاق.
وعلى الأرجح فإنّ هذا الهرم العرقي هو أكثر الجوانب
وضاعة في تفكير كانط عن العرق، وبالرغم من غموض نوايا كانط لتصميم هذا الهرم
وإطلاقه فإنه لا يمكن لأحد أن ينكر حقيقة أن هذا الهرم يقرّ بالأفضلية للعرق
الأبيض. ويبدو أن هذا التّصنيف قد تمّ تحديده ليس على أساس اللون فحسب بل على أساس
المواهب الفطرية المختلفة بين الأعراق الإنسانية، ويشرح "آيز" (Emmanuel Chuckwud Ieze) هذه النقطة جيدًا فيقول:
“الموهبة
حسب المفاهيم الكانطية في العرق والأخلاق هي عنصر تضمنه الطبيعة للعرق الأبيض؛ فهم
الأعلى مراتب فوق كل الأنواع البشرية والمخلوقات الأخرى، يليهم بعد ذلك “الصُّفر”،
ثم “السُّود”، وأخيرًا “الحُمر”. يمثل لون البشرة عند كانط العامل الفارق الذي
سيحدد ما إن كان العرق مستقرًا في درجة عليا أو دنيا، ويحدد كذلك الموهبة من
انعدامها، وأيضًا القدرة على استيعاب المنطق وإدراك الفكر الأخلاقي. لذلك لا يمكن
القول إنّ لون البشرة عند كانط ما هو سوى جزء بسيط يشكل المظهر الخارجي، بل العرق
بالنسبة إليه بمثابة الدليل لمثلٍ أخلاقية ثابتة وغير قابلة للتغيير، قد يُحرم
الإنسان الأسود على سبيل المثال من وصفه كـ” إنسان كامل” بما أن الإنسانية الكاملة
لدى كانط تنطبق فقط على الأوروبيين البيض" . ثم يصرح كانط بذلك في كتابه
“الجغرافيا الطبيعية” إذ: “تتجلى الإنسانية بشكلها الأمثل في العرق الأبيض. الهنود
الصُّفر لديهم قدر أقل من الموهبة، والزّنوج أقل من الصُّفر منزلة، والأدنى مستوىً
بينهم هم الأمريكيون".
ومثل هذه الصورة العرقية - وهي صورة تقليدية - تدل
بوضوح على أن كانط، الملقب برائد التنوير والنقد، لم يستطع أن يمارس النقد أو
التفكير العقلي النّقديّ في هذه الوضعية، ولم يستطع أن يكون على مستوى الفكر
التنويري في هذا الجانب بل كان متأثّرا بالنزعة العرقية الشوفينية، وغرق في نزعة
تفوّق الرجل الأبيض. وفي هذا الأمر إدانة لفلسفته الأخلاقية برمّتها، لأنّ التقسيم
العرقي القائم على احتقار بني البشر وازدرائهم لا يليق بالنظام الأخلاقي والقيم
الأخلاقية التي نادى بها كانط في مختلف أعماله الفلسفية ولا سيّما الأخلاقية منها.
فأي أخلاق هذه التي يزدري فيها الفيلسوف الأعراق البشرية ويحقرها ويدنس طهارتها؟
وقد كان كانط فظا متوحشا في هجومه على الأعراق الأخرى ولا سيّما العرق الأسود،
فاستخدم أفظع النعوت وأبشع الصفات في وصف العرقين الأسود والهنود الحمر. وقد جاء
في كتابه "الإحساس بالجميل والجليل " وصف مؤذ ومخيف للسّود بقوله:
“زنوج
القارة الإفريقيّة بطبيعتهم لا يملكون إحساسا يدفعهم للارتقاء فوق التفاهة
والوضاعة. السيد هيوم يتحدى أن يأتي أحد بمثالٍ واحد على زنجيٍ أظهر أدنى قدر من
الموهبة، كما أنه يؤكد أن من بين مئات الألوف من السود الذين انتقلوا من مواطنهم
(وبالرغم من أن الكثير منهم قد تحرر من العبودية) لم يبرز أيٌ منهم، ولو فردًا
واحدًا، أو يطرح ما فيه منفعة للمجال العلمي أو الفني، أو متضمنًا لما يستحق
الإشادة به. وبالرغم من أن الكثير من البيض كانوا من طبقاتٍ فقيرة، فإنه من خلال
مواهبهم الفذة نالوا مكانةً محترمة في العالم".
ويُشتَهر عن كانط موقف مخجل يكشف سعارا عرقيّا
أبداه عندما قام بتقييم تصريح أدلى به رجل إفريقيّ، فأعرب بتهكم شديد اللهجة
قائلا: "كان ذلك الوغد أسود البشرة بالكامل من أعلى رأسه إلى أخمص قدميه، وهو
أكبر دليل على غباء ما قاله. وهذا يعطي تفسيرًا منطقيًا لِمَ نعتنا ما قاله هذا
الرجل الأسود بالغباء أو الجهل..... لذلك، لا يمكن المجادلة بأن لون بشرة كانط كان
مجرد خاصية فيزيائية. بل هو، بالأحرى، دليل على صفة أخلاقية ثابتة وغير قابلة
للتغيير".
وعلى هذا الأساس يستنتج كانط وبطريقة مهينة للإنسان
والإنسانية "أن زنوج إفريقيا لا يثيرون في النفس الإنسانية أيا من المشاعر
الراقية، وهذا يجعل التخلص منهم أمرا لا تهتز له المشاعر الإنسانية، ومن ثم لا
يمكن تجريم ما يفعله المستعمر الأوروبيّ في إفريقيا " . ويتمادى كانط بشكل
استفزازي ومقرف في هجومه العرقي ضد السود وينصح بأن يُجلَدوا “باستخدام عصا
البامبو أفضل من السوط، حتى يعاني الزنجي آلامًا مضاعفة، فجلد الزنوج سميك ولن
تضنيه ضربات السوط الخفيفة، والحرص واجب في حال استخدام البامبو حتى لا يموت".
ويبدو لنا أن كانط كان وفيا لنظرية ديفيد هيوم
العنصرية التي يعلن فيها تحقيره للعرق الأسود وللأفارقة. وهو ما يوضّحه قوله
المذكور سابقا في كتابه "ملاحظات" في عام 1764. ويقول كانط في سياق آخر
"إنني ميال إلى الظن بأن الزنوج متدنون بشكل طبيعي عن البيض، فنادرا ما سمعنا
عن أمة متحضرة تنتمي لهذا البشرة، ولا أيّ فرد بارز في نطاق الفعل والتأمل العقلي،
وليس ثمة صناع مبدعون بينهم، ولا فنون ولا علوم، ومن ناحية أخرى فإن أكثر الشعوب
غلظة وبربرية بين الجنس الأبيض كالألمان القدامى والأتراك الحاليّين لا يزال لديهم
شيء سام"، ولعلّه يتبين أن هيوم يستبعد السود من دائرة البشر، ولا يتصور أن
يخرج من بينهم مبدعون ".
ولم يتوقف هجوم كانط المتوحش ضد السود فقط، إذ لم
تسلم منه أي من الأعراق الأخرى، وهو يطعن في السمات الأخلاقية والسيكولوجية للآخر
من بوابة الإشادة والتمجيد بالعرق البيض منتج الحضارة والتاريخ.
ويقول مؤرخ العبودية مايكل زيوسكي (Michael Olszewski): “إذا كان المرء جاداً في توضيح العنصرية، وهدم آثارها، يجب عليه
أيضاً أن يعيد النظر في فلسفة كانط؛ لأن هذا الفيلسوف أسهم في كتاباته
الأنثروبولوجية في تأسيس العنصرية الأوروبية". في الواقع، ميَّز كانط بين
العديد من “الأجناس”، وأصدر أحكاماً قيميّة حول تفوّق العرق الأبيض وقدراته
الفكريّة، مشيراً "إلى أن العرق الأبيض يتميز بقدرته على تحقيق كمال النوع
الإنساني لأنه يسمو على باقي الأعراق ويتفوق عليها. وقد تناولت بولين كلينغيلد (Pauline Klingeld) أستاذة الفلسفة في جامعة غرونينغن (University of Groningen) هذه المسألة وبينت بوضوح بأن الغاية الأولى من تقسيم كانط
للبشرية إلى “أعراق” كان في البداية من أجل استكشاف الخصائص الفيزيائية للكائنات
الإنسانية، مثل: القضايا المتعلقة بلون البشرة والعيون والشعر والطول وحجم الدماغ
والسمات الفيزيائية والفيزيولوجية الأخرى.
ويحثنا رونيه أوغيغا (Renee Ogiga) على التساؤل في هذا السياق: ما الذي يجب أن يتبادر إلى أذهاننا
ونحن نُفكر في فيلسوف ندين له بأعظم نظرية في الأخلاق عندما يعلن أن السود “ليس
لديهم شعور بالطبيعة”، وعندما يشدد على القول بأن الأمريكيين الأصليين ليست لديهم
القدرة على التحضر . وماذا يخطر في بال المتلقي إذ كان فيلسوف الأخلاق ينال أيضا
العرق الأصفر ويطعن في أهل الصين، ويقلل من شأنهم ولاسيما عندما ينظر باحتقار
ودونيّة إلى الفيلسوف الصيني "كونفوشيوس" حيث أنكر ذات مرة وجود فلسفة
في سائر بلاد المشرق، وقال إنّ "الكونفوشيوسية" لم تضف أية تعاليم جديدة
على العقيدة الأخلاقية المصممة في الأصل للملوك والأمراء الصينيين. بل ذهب إلى حد
اعتباره أن أيّا من مفاهيم الفضيلة والأخلاق لم يدخل عقول الصينيين أبداً".
ولا يتورع كانط عن مهاجمة الأمريكيين الأصليين (الهنود
الحمر) فيرى "أن مَلكة العقل لديهم ناقصة بطريقةٍ أو بأخرى، ويصفهم في كتابه
الجغرافيا الطبيعية، فيقول: تثقيف الأمريكيين وتعليمهم أمرٌ مستحيل؛ فهم لا يملكون
دوافع تحفيزية، إذ تنقصهم العاطفة والشغف. لا يقعون في الحب وبذلك لا يشعرون
بالخوف أيضًا، لا يلاطفون بعضهم البعض، وكلامهم قليل جدًا، لا يهتمون بأي شيء، وهم
بطبيعتهم كسالى".
ثم يقارن بازدراء بين الأمريكيين الأصليين والزنوج،
فيقول:" يستطيع المرء أن يصف الزنوج بأنهم عكس الأمريكيين تمامًا؛ إنهم
عطوفون وشغوفون، حيويّون جدًا، ويتحدثون كثيرًا. تعليمهم أمرٌ قابل للتحقيق، لكن
كخدم وعبيد فقط. هناك مجالٌ لترويضهم وتدريبهم، فهم يملكون دوافع تحفيزية كما أنهم
حساسون للغاية، ولأن لديهم حِسٌ بالكرامة والشرف فهم يخافون الجَلد" . وما
الذي يتبادر إلى الذهن عندما ينتقل كانط إلى الهجوم العرقي على الهندوس فيقول
أيضا: "أما بالنسبة للهندوس، فإنّ طبيعتهم تقترب كثيرا من طبيعة البيض، لكن
حدودهم تظهر عندما تأتي المسألة المتعلّقة بتعلّم المعارف... ويصفهم كالتالي:
“دوافعهم
التحفيزية قوية لكنهم يقفون عند حد معين من الكمون. جميعهم يبدون كالفلاسفة، ومع
ذلك يمكن القول إنّهم ميّالون لمشاعر الغضب والحب، وهذا سبب تفوقهم في التعليم
بدرجاتٍ عالية، لكن تفوقهم يقتصر على مجالاتٍ معينة كالفنون، أما إجادة العلوم
فليست من مميزاتهم، فقدراتهم لا تسع لفهم النظريات والأفكار المجردة. الرجل
الهندوستاني الناجح هو من وَصلَ لمنزلة رفيعة في الفنون المضللة وحصل على ثروة
طائلة، وعلى الرغم من بدء تعليمهم مبكرًا إلا أنهم دائمًا ما يبقون على حالهم،
فيصلون لمرحلة محدودة من التقدم ليقفوا عندها" . أوليس غريبا أيضا عندما يمضي
فيلسوف الواجب ليطعن عرقيا في سكان تاهيتي واصفا إياهم بالعقم الحضاري، وفي ذلك
يقول: “لم يقم سكان تاهيتي بزيارة مناطق أخرى أكثر تحضرًا، وهكذا مقدرٌ لهم أن
يعيشوا في خمولهم لآلافٍ من القرون. لا يستطيع أي شخص أن يقدم إجابة مرضية للسؤال
(لِمَ هم موجودون في الأساس؟) ويتابع كانط هجومه العرقي الشرس ضد هذه الفئة من
البشر ليقول "فالحال لن يتغير سواء كان سكان هذه الجزيرة مجموعة من الخراف
والماشية أو رجالا منشغلين بالمتعة فقط".
ويُستنتج ممّا تقدّم أن كانط رسخ نمطا من التفكير
العنصري، فجعل من الاختلاف بين البشر اختلافا عرقيا فطريا، وقد شجع على تأسيس ما
يسمى بالبيولوجيا العنصرية، وزعم أنّ الأعراق الإنسانية المختلفة لا يمكنها أن تصل
إلى درجة واحدة من التحضر. وعلى هذه الصورة يبدو لنا أن الفكر التنويري الأخلاقي
عند كانط كان منسوجا إلى حدّ ما بخيوط العنصرية والعرقية البغيضة المتعارضة في
جوهرها مع العقل والتّنوير كليهما.
وقد أودع كانط كثيرا من أفكاره العنصرية هذه في مقال
له نشره في عام 1775 حمل عنوان "في الاختلاف العرقي بين البشر"(On the Different Races of Man). وقد أكّد كانط في هذا المقال على ثبوت
العرق وديمومته، ووضّح كيفية اختلافه مع مفكرين آخرين مثل فولتير . وهذه النظرية
باتت محل شكٍ لدى غالبية العلماء في عصرنا الحالي. ويبدو أن كانط كان يريد أن يقيم
البرهان على أن العرق الأبيض هو العرق الوحيد القادر على الاستئثار دون سائر البشر
بالفضائل العقلية والثقافية فيقول “العرق الأبيض بطبيعته يمتلك كل المواهب
والدوافع، لذلك هو يستحق المعاينة والدراسة عن كثب أكثر من غيره" .
ويتلخص رأي كانط العنصري في العبودية بقوله: "بعض الناس، بطبعهم، غير قادرين
على السعي وراء مصالحهم، ومن الأنسب لهم أن يكونوا "أدوات حية"
ليستخدمها أشخاص آخرون. وقال: "العبد جزء من السيد، جزء حي لكنه منفصل عنه
جسديا".
3 - المأزق العنصري:
كان هذا التّناقض الحادّ في فلسفة كانط بين
التّعالي الأخلاقيّ والانحدار العرقيّ العنصريّ مثار اهتمام العلماء والمفكرين
والفلاسفة حول الكيفية التي يمكن بها النظر إلى هذا الانشطار. وهو الأمر الذي لم
يحدث في التاريخ؛ لأن كانط تميّز بنظريته الأخلاقية على خلاف الفلاسفة العنصريين الذين
لم يقدموا نظرية أخلاقية سامية، فجاءت نزعتهم العنصرية على نحو لا يثير الاستغراب
بالنّظر إلى منطلقاتهم الفلسفية مثل: هيوم (Hume)، وفولتير (Voltaire)، وهيغل (Hegel)، وشوبنهاور (Schopenhauer)، وتشارلز داروين (Charles Darwin)، وآرثر دو غوبينو (Arthur de Gobineau).، ومن بين هؤلاء جميعا ينفرد كانط بفلسفته الأخلاقيّة السامية
فلسفة الفضيلة والحق والواجب. وهنا نقع في مواجهة انشطارية بين العمق الأخلاقي
لنظرية كانط من جهة ونزعته العنصرية من جهة أخرى، وهذا التناقض الحاد قد يؤدي إلى
اهتزاز كبير وخلل عظيم في منظومته الفلسفية، ويشكك متابعيه في القيمة الأخلاقية
لفلسفته على نحو كلي. وقد يتعذر التوفيق ما بين الأمرين وإيجاد الجسور بين جنبات
الانشطار المعرفي: أي ما بين السمو الأخلاقي في فلسفته الصفائية والنزعة العنصرية
في توجهاته الأنثروبولوجية. وإذا كان هذا الأمر يدخل في بوابة الاستحالة فسنجد
أنفسنا أمام موقفين أحلاهما مرّ: إما أن نرفض كانط كليا كنتيجة طبيعية للانشطار
الفكري والتعارض المطلق ما بين العنصرية والفضيلة، وإما أن ننظر في ثنائية
النزعتين العنصرية والأخلاقية وكأننا أمام فيلسوفين مختلفين في شخص واحد، أي كانط
فيلسوف الأخلاق أو كانط فيلسوف العنصرية.
ويوقعنا هذا الأمر في إشكال مأزقي معقد يأخذ الصورة
التالية: إذا رفضنا كانط بكليته كنتيجة لهذا التناقض الانشطاري بين الخير والشر في
فلسفته، فإننا سنخسر القيمة الفلسفية الهائلة التي يتضمنها فكره الفلسفي، ونضيّع
ما حققه من إنجازات مذهلة في مجال الفكر الفلسفي، ولا سيّما الفكر الأخلاقي الذي
يتميز بسموه ومطلق نزعته إلى الخير والحق والفضيلة والجمال. وليس هذا مرغوبا أبدا،
إذ لا نملك إلاّ أن نعجب بما قدمه كانط للفلسفة والمعرفة الفلسفية. أمّا الخيار
الباقي أمامنا فهو يتمثّل في الأخذ بكانط الأخلاقي وتجاهل كانط الشرير. وهذا ما
يحدث عمليا، فأغلب المفكرين والباحثين يقومون بتجاهل مقصود للجانب العنصري الشرير
في فلسفة كانط.
وهذا ما خبرناه نحن أنفسنا في جامعاتنا، فعندما
درسنا في الجامعة في قسم الفلسفة في جامعة دمشق كان كانط الأخلاقي حاضرا، وتم
إسدال الستار من قبل أساتذتنا على الجانب العنصري في شخصيته. وعندما اكتشفنا هذا
البعد الشرير في شخصه انتابتنا موجة من القلق والصدمة والتّوتّر، حتى إنّني كنت من
الّذين لم يصدّقوا بأن كانط كان على هذه الصورة الشريرة في نزعته العرقية.. لقد
كان كانط يومض في قلوبنا وعقولنا على صورة منارة أخلاقية تتوهج بالفضيلة، وفجأة
اكتشفنا بعد تخرجنا من الجامعة أن جانبا آخر شريرا يتلبس شخصه كانط، وأنّه يرتدي
ثوبا مخيفا مختلفا عن الصورة المثالية التي رسمناها له.
وعلى خلاف أساتذتنا، رأينا نحن ألاّ نخفي هذه
الحقيقة عن طلابنا ومريدينا، فقدمنا كانط في صورته الأخلاقية، وأردنا أن يعرفوا
ويعرف قرّاؤنا أنّ هذا الفيلسوف العظيم وقع في إثم العنصريّة المقيتة ولم يستطع
التّحرّر من ردائها الثّقافيّ، ولم نغفل هذه الخلفيّة لدى فلاسفة التنوير في القرن
الثامن عشر.
ومن الطبيعي أن يقوم بعض المفكرين بتطهير كانط من
أدرانه الأخلاقية وتقديم الأعذار المتمثلة في السياق التاريخ والثقافي للعصر الذي
عاش فيه مع هيمنة الثقافة العنصرية التي كانت قائمة، ومثل هذه الأعذار الّتي
تُصطنع لا تستطيع أن تصمد أمام حقيقة أخرى وهي أن كانط كان فيلسوف النقد والتنوير،
وهو الذي حثّنا على تحكيم العقل ورفض التقاليد الفكرية القائمة التي لا يمكنها أن
تصمد أمام العقلانية والعقل المتوقد، وقد كان يتهكم من هؤلاء الذي لا يُعملون
عقولهم ولا يفكّرون بطريقة نقدية.، وها هو الفيلسوف العملاق لم يستطع أن يفكر
نقديا أو علميا أو حتى أخلاقيا في الظاهرة العنصرية فكرّسها، بدلا من أن يقوم
بنقدها وتصفيتها ومهاجمتها من منطلق أن العنصرية العرقية أمر شرير وقاتل وخطير،
ولا يمكن أن يقبل في العقل الموضوعي والأخلاقي. وكما أن هذه الفكرة تتناقض كلّ
التّناقض مع فكرة الإخاء الإنساني التي نادى بها كانط وأشاد بعظمتها. وفي كل
الأحوال نحن لا نريد أبدا للفكر أن يضيّع ذلك الوميض الأخلاقيّ والفكري الجميل
المتوهج في فلسفة كانط النقدية والتنويرية. ويقتضي منّا تمشّينا في هذه السّبيل أن
نكون على حذر في طَرق المسألة لنوضّح أبعادها ولنُبقيَ على القيمة الفكريّة
الأخلاقيّة لهذا الفيلسوف الرّائد.
حاول بعض المفكّرين تبرئة كانط فذهبوا إلى أن
مواقفه العنصرية جاءت في مرحلة من مراحل تفكيره، وإلى أنّه قد تراجع في مراحل
لاحقة عن هذا النمط من التفكير العنصري الّذي شكل ثغرة كبيرة معيبة في فلسفته. وقد
أشارت بولين كلينغيلد إلى أنه بينما كان كانط بالفعل مدافعًا قويًا عن العنصرية
العلمية (Scientific racism) في معظم حياته المهنية، فإن "آراءه
حول العرق قد تغيرت بشكل كبير في الأعمال المنشورة في العقد الأخير من حياته على
وجه الخصوص، لقد رفض كانط بشكل لا لبس فيه الآراء السابقة المتعلقة بالتسلسل الهرمي
العرقي والحقوق المتضائلة أو الوضع الأخلاقي لغير البيض في السلام الدائم " .
ففي السلام الدائم يقدم كانط حججا قويّة ضد الاستعمار الأوروبي، ويرى أن هذا
الاستعمار يتناقض مع الأخلاق ويتعارض مع الحقوق المتساوية التي يتمتع بها السكان
الأصليون. وترى كلينغيلد" أن هذا التحول في وجهات نظر كانط في وقت لاحق من
الحياة غالبًا ما يتم نسيانه أو تجاهله في الأدبيات حول الأنثروبولوجيا العنصرية
لكانط، وأن هذا التحول يشير إلى اعتراف متأخر بحقيقة أن التسلسل الهرمي العرقي كان
غير متوافق مع إطار أخلاقي عالمي . وتقول كلينغيلد في هذا السياق: “لقد دافع كانط
عن التسلسل الهرمي العرقي، على الأقل حتى بداية تسعينيات القرن الثامن عشر”. ولكن
لاحقاً، ابتعد عن هذه الفكرة، في عمله "نحو مشروع السلام الأبدي” (1795)، وفي
“ميتافيزيقا الأخلاق” (1797) انتقد الاستعمار وقدم فئة جديدة من “المواطنة العالمية"..
وهنا أيضا يمكن اللجوء إلى المنهج الانتقائيّ فنسقط كانط الفيلسوف الشاب ونحيي
كانط فيلسوف الكهولة والمشيب فنتغاضى عن طيشه الشبابي باستحضار حكمته الّتي وجدها
في مشيبه فغفرت له قديم خطاياه.
ومن اللاّفت للاهتمام أن كانط قضى معظم حياته
العلمية يحاضر في الأنثروبولوجيا والجغرافية، وقد درّس هذين المقررين في الجامعة
على مدى اثنين وسبعين فصلا دراسيّا كاملا. والغريب في الأمر أن كانط نفسه لم يبتعد
عن مدينته الصغيرة "كونيغسبرغ" (Königsberg) التي ولد فيها وعاش ومات، ومع ذلك يعطي لنفسه أهلية الحكم على
الشعوب وتصنيفهم عرقيا دون أن يشاهد أيا من هذه الشعوب في الواقع والميدان ليختبر
ذكاءها ويرسم سماتها السيكولوجية ويحدد قدراتها العقلية ويصنفها في فئات متباينة،
وليحكم على بعضها بالعقم الحضاري والسقوط العرقي.
ويؤخذ على كانط في هذا السياق أنه اعتمد كليا على
الروايات والحكايات والأساطير والصحف والرحالة الذين كتبوا عن عادات الشعوب
وأخلاقهم. ومنهجية الحكايات غالبا ما تكون باطلة كليّا ولا يُعتدّ بها علميا في
تقرير خصائص الشعوب وتحديد مصائرها العرقية. وقد عرفنا منهجيا كيف يرحل
الأنثروبولوجيون بعيدا إلى مقار الشعوب ومناطق سكنها البعيدة ليعيشوا ويتعايشوا مع
السكان الأصليين لهذه الأمم والشعوب والقبائل سنين طويلة، بغرض دراستها واستكشاف
عاداتها واستلهام ثقافاتها. من أمثال: إدوارد بيرنت تايلور ( E. B. Tylor)، وجيمس فريزر(James George Frazer)،
وفرانز بواس (Franz Boas)، وبرونسيلاف مالينوفسكي (Bronislav Malinowski)، ورادكليف براون ( Radcliffe Brown)، ومارغريت ميد (Margaret Mead)،
وزورا نيل هيرستون (Zora
Neale Hurston)، وروث
بندكت (Ruth Benedict)، وكلود ليفي ستروس(Claude Levi-Strauss)، وكليفورد جيرتز (Clifford Geertz).
هؤلاء الذين قضوا حياتهم يتعايشون مع الشعوب البدائية البعيدة حتى أصبحوا جزءا
منها، وبعضهم ضحى بحياته من أجل التماس الحقيقة وفهم ثقافات الشعوب التي درسوها.
وما يراد قوله هنا إن الأنثربولوجيا الحقيقية هي هذه التي تلتمس حياة الشعوب
وتلامس ثقافتهم وتغوص في ملابسات حياتهم ووجودهم، وليست هي الأنثروبولوجيا
المتعالية على الواقع، كهذه التي رأيناها عند كانط والتي تبدو لنا أنها تسبح في
فضاء عاجي فترى الكون على صورة سراب أرضي أو سديم سماوي.
والغريب أن أنثروبولوجيا كانط لم تكن أكثر من
حكائيّة تقوم على تصورات واهية وغير علمية على الإطلاق. ومن المتعارف عليه علميا
أن الأنثروبولوجيا تعتمد منهجا علميا أساسه التفاعل بين الباحث وموضوع دراسته، وهو
المنهج الذي ينطلق من أن اكتشاف الحقيقة لا يكون إلا بالتعايش معها، وأنّ إدراكها
لا يكون إلا عندما يصبح الباحث نفسه جزءا من الحقيقة. ويقصد بذلك حالة التماهي بين
الباحث وموضوع دراسته. ولكن أنثروبولوجيا كانط قد سجلت ودونت في غرفته الصغيرة
التي تطل على واجهة القلعة في مدينته الصغيرة. ومهما يكن الأمر فإن هذه
الأنثروبولوجيا لم تكن إلا عرقية واهمة قائمة على الأساطير والحكايات والأوهام
العنصرية الماثلة في عقل كانط.
فالمصادر التي اعتمدها كانط كانت قاصرة ومحدودة، إذ
كان يكتفي بمنشورات السفر التي عُرفت بنمطيتها منذ ذاك الوقت، لدرجة أنّه هو نفسه
اعترف بضعف دقتها، يقول مكارثي: في هذا السياق “كان كانط يتكالب على قراءة تقارير
الرحلات كافة، سواء كانت مكتوبة من قبل مستكشفين، أو تجار، أو مبشرين، أو
مستوطنين، أو مَن كان على اتصال مباشر مع نفوذٍ من خارج البلاد. كانت هذه التقارير
حينها المصدر الأساسي في أوروبا لمعرفة طبيعة البلدان الواقعة وراء البحر. وقد
حذّر كانط مرارًا من ضعفها، إلا أنه استند إليها في أفكاره العرقية.
ومن المؤكد أن كانط كان منغمسا في الثقافة الفلسفية
التي سادت في زمانه، في حين كان من المتوقع لفيلسوف النقد هذا أن يوظف أدواته في
تمحيص هذه الظاهرة والكشف عن أبعادها العنصرية ورفضها لتتناسب مع نظريته الأخلاقية
المتسامية، ولكن كانط فوت هذه الفرصة ووضع نفسه تحت رهان الاغتراب الثقافي
والعنصري الغالب على عصره، وكأنه كان يريد أن يتفوق على هيوم في رؤيته العنصرية
ويبزه في هذا الميدان. ومن مخاطر هذه الرّؤية العنصريّة عند كانط أن قارئه سيتأثّر
بما في هذه الرّؤية من انفعاليّة وتجنّ، فيتّخذ بصفة مطلقة موقفا سلبيّا من مجمل فلسفته.،
وقد يجر هذا الكثيرين المهتمّين بهذا الشّأن إلى احتقار الفلسفة والفلاسفة ولا
سيّما الفلاسفة العنصريّين الذين سقطوا في الحضيض.
ليس لنا أن نتجاهل إذن تأثير السّياق التّاريخيّ في
تلوين التّفكير الكانطيّ بصبغة عنصريّة. لكنّ قَصْدَنا أن نرى مسألة التّعارض
المشار إليه - بين سموّ كانط الأخلاقيّ وانحطاطه العنصريّ - من جانب آخر يتيح حلّ
الإشكال أو على الأقلّ التّخفيف من حدّته. ومن ثمّ المساعدة على قراءة فكر هذا
الفيلسوف بما لا يُفقد وميضه وألقه.
لقد اجتهد المفكرون في إلقاء حبال الإنقاذ لانتشال
كانط من سقطته الأخلاقية المميتة. وظهرت مئات المقالات التي حاولت أن تعيد
الاعتبار للفيلسوف وأن تقدم له طوق النجاة.، وتركزت هذه المحاولات في المقارنة بين
كثير من الفلاسفة العمالقة الذين قدموا تصورات عرقية ومع ذلك بقيت فلسفتهم شامخة
ولم يؤثر ذلك التقليل من قيمة الفيلسوف أو فلسفته، وخير مثال على ذلك الإشارة إلى
أرسطو (Aristotle) الذي كان متشبعا بالأفكار العنصرية ضد
المرأة والعبيد والأمم الأخرى. ويشار إلى أن أرسطو كان يدافع عن العبودية ويراها
ضرورة حضارية، ووصل به الأمر إلى اعتبارها مفيدة للعبيد، أما نظرته إلى المرأة
فكانت مخيفة في عنصريتها، إذ كان يرى أن "المرأة من الرجل هي بمثابة العبد من
السيد وكالعمل اليدوي من العمل العقلي، وهي رجل ناقص توقف نموه في مرحلة دنيا من
مراحل التطور الإنساني، والذكر متفوق بالطبيعة على المرأة، والمرأة دون الطبيعة،
والأول حاكم والثانية محكومة، وهذا المبدأ ينطبق بالضرورة على جميع أفراد الجنس
البشري" (*).
والسؤال هل يجب علينا أن نسقط فلسفة أرسطو لأن
جانبا عنصريا قد تخللها نقطة استفهام . وبناء عليه، هل يجب أن نسقط فلسفة كانط لما
تخللها من عيوب عنصرية؟ ألا يؤدي هذا الإسقاط إلى خسارة كبيرة في الفكر الفلسفي
بما يحمله من قيمة معرفية أصيلة؟
هل يجب أن نسقط فلسفة أرسطو وأفلاطون وهيوم وفولتير
وهايدجر وهيغل والآخرين لأنهم كانوا عنصريين في بعض توجهاتهم الفلسفية؟ ألا يعني
ذلك إسقاطا للفلسفة برمتها؟ والإجابة بالطبع أنه لا يمكن للتوجهات العنصرية التي
تخللت هذه الفلسفات بل لابستها أن تؤدي إلى إسقاطها كلّيّا؛ فالقيمة المعرفية
لهؤلاء الفلاسفة العنصريين أكبر بكثير من أن تتعرض للسقوط كنتيجة لوجود جوانب
عنصرية فيها. وجل ما يمكن أن نقوم به هو أن نتجاهل هذا البعد العنصري، وننطلق في
رحاب هذه الفلسفة استكشافا لما تنطوي عليه من قيم معرفية عظيمة. علينا أن نسائل
الفلسفة الكانطيّة بالأدوات النّقديّة الّتي نستلهمها منها، فنصير قادرين على
تنزيلها في سياقها والتّمييز بين جوانبها المختلفة المضيئة والقاتمة، وإجراء
الاختيار بين ما هو من متعالياتها وما هو من سقطاتها... وبذلك نساهم في تجاوز
المأزق الّذي يعترضنا ونحن نقرأ آراء كانط وفلسفته العنصرية.
وهناك عدد كبير من هؤلاء الذين انبروا للدفاع عن
كانط وتبرير موقفه المخل بالقيمة الأخلاقية لفلسفته السامية، فذهب بعضهم في هذا
الاتّجاه إلى القول إنّه "لا يُعقل أن نتوقع أن يثبت الفيلسوف دون زلة أو
تناقض في كل مؤلفاته. لذلك علينا أن نعيّن أقاويل كانط العنصرية كأخطاء أو
انحرافات لا بدّ من تجاهلها أمام فلسفته. علاوةً على ذلك، عندما ننظر لشخصية كانط
نرى أنها تعكس فلسفته الأخلاقية وليس فكره العرقي، وهذا ما يجب أخذه بعين
الاعتبار".
كما يوجد من يحاول - في مواجهة هذا المأزق المعرفيّ
الأخلاقيّ - الفصل بين شخصية كانط وفلسفته، وهذا يعني أن الموقف العنصري ينتسب إلى
شخصية كانط وليس إلى فلسفته. وهذا الموقف التبريري يعاني من الضعف ولا يمكن
التعويل عليه أبدا لأنه يأخذنا إلى استنتاجات مضللة، إذ لا يمكن الفصل موضوعيا بين
شخص الفيلسوف وفلسفته، وما قيمة فلسفة لا يلتزم بها صاحبها ولا يأخذها بعين
الاعتبار؟ فالفكر لا يمكن أن ينفصل عن المفكر ولا سيّما في الأنظمة الفلسفية
الكبرى، والنّبيّ ألزم من غيره بواجبات دعوته.
ولعلّ هذه الفكرة الّتي تدعو إلى الفصل بين الإنتاج
الفلسفيّ وصاحبه مماثلة لما يفعله دارسو الأدب البنيويّون في تعاملهم مع النّصّ
الإبداعيّ. إذ هم ينظرون إليه في ذاته ومقطوعَ الصّلة عن صاحبه. بل يذهبون إلى
اعتبار كاتبه كائنا غائبا لا وجود له فلا يُؤبَه له. وكذلك حَقّ - بكثير من
التّجوّز - الإقبالُ على نصّ كانط وتبيّن قيمته، وأمكن الوقوف على عظمة الفيلسوف
كانط بغضّ الطّرْف عن شخصه وتفكيره العنصريّ.
وذهب فريق آخر من الباحثين إلى حل أزمة الانشطار
والتّناقض بين موقف كانط العنصري وموقفه الأخلاقي، معتقدين أن "عنصرية كانط
ببساطة تنطلق من اعتقاده أن الآدمية توجد في العرق الأبيض فقط أما باقي الأعراق
فلا. وهذا يعني أن كل شخص لا ينتمي للعرق الأبيض لا يعتبر إنسانا، وهنا تكمن
الكارثة العنصرية بأكثر مظاهرها الوحشية. وهنا يمكن أن نجد حلا يتمثل في العمل على
تعميم مفهوم الإنسان ليشمل جميع الأعراق دون استثناء. وإذا لم يستطع كانط أن يواكب
مُثل عصر التنوير وقيمه التسامحية كالمساواة، لأنه حصر الإنسانية والكرامة في
العرق الأبيض دون سواه، فإنه ينبغي علينا أن نصحح توجّهه الأخلاقي للنظر إلى
الإنسانية كلها بوصفها عرقا واحدا هو العرق الأبيض، أو أن نوسع مجال فلسفته لتشمل
جميع الأعراق. وهذا يعني أنه يجب علينا أن نسقط الجانب العنصري في فلسفة كانط
لتستقيم هذه الفلسفة وتصبح أكثر فعالية في توجيه الإنسانية نحو الفعل الأخلاقي.
ويستطيع "أصحاب هذا الموقف أن يطرحوا حجة إدراكنا المسبق أنه لا جدال في
حقيقة تساوي الجميع، وإنما يكمن الخطأ في الاعتقاد أن ليس الكل يندرج تحت مسمى
الـ”إنسان”، ويعتبر هذا اعتقادًا بعديًّا خاطئًا، وبهذه الطريقة نكون صُنّا الجوهر
بعيدًا عن الآراء الخبيثة".
4- خاتمة:
لقد حاولنا في هذا العمل تناول الجانب المظلم في
العطاء الفلسفي لكانط فيلسوف النقد والتنوير، وقمنا باستجواب بعض المواقف العنصرية
التي تميزت بالعنف والمشاكسة العرقية. فحاولنا تفسيرَ هذا التناقض الانشطاري بين
فلسفة الواجب في صفائها وأنثربولوجيا التعصب العرقي كنموذج لأكثر الوجوه الظلامية
في المنظومة الفلسفية عند كانط. ومهما يكن الأمر فإن تقييم موقف كانط يجب أن يأخذ
بلا شكّ بمختلف وجهات النظر، والمهم في ذلك كله أن نجعل من فهم التناقض بين السمو
الأخلاقي والسقوط العنصري عند كانط أمرا ممكنا... والشيء الذي يبقى حيّاً في
الأذهان أن فلسفة كانط عصيّة على السقوط لما تتمتع به من حصانة فكرية عالية المقام
فيما يتعلق بسموها الأخلاقي. وعلينا أن نغض النظر – مع التحفظ - عن جانب السقوط
الأخلاقي في مستنقع العنصرية، ونحاول أن نرتقي إلى شموخ الفلسفة الكانطية التي
تشكل قوّة تنوير هائلة لا تغيب عنها شمس الحضارة الفلسفية على وجه الإطلاق ولا
تخبو جذوتها لأنّ الحاجة إليها مستمرّة.
لا بدّ إذن من تقدير متكامل الأبعاد للفكر الكانطيّ
الّذي أضاف إلى الإنسانيّة منهجَ النّقد والتّنوير، ولم يسلم رغم ذلك من الوقوع في
بعض الأخطاء. فأثبت أنّه إنتاج إنسانيّ نسبيّ قابل لأن يُتجاوَز ويُطوّر. ومن هنا
راهنيّته وتحدّيه للقرّاء بأن يسائلوه. ولا يكون ذلك إلاّ بالإمعان في قراءته
وفهمه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق