هَوَسُ التَّفْخِيم والتعظيم في الوسط الأكاديمي / التماهي بالألقاب بين أساتذة الجامعة - علي أسعد وطفة - مدارات ثقافية

احدث المواضيع

الأحد، 16 أبريل 2023

هَوَسُ التَّفْخِيم والتعظيم في الوسط الأكاديمي / التماهي بالألقاب بين أساتذة الجامعة - علي أسعد وطفة


"ندنو من العظمة بقدر ما ندنو من التواضع" (طاغور)

" ليس للرجل سوى مجدٍ واحد حقيقي، هو التواضع". (إلفرد دو موسّيه)

 

عُرِف العلماء بتواضعهم وظرفهم، وعذوبة معشرهم، وحبهم للناس، والميل إليهم، والتقرب منهم ومسامرتهم وتكريمهم. واقترنت الحكمة بالتواضع، واكتنزت بالمحبة، واهتزت أغصان المعرفة بحمولة السلام. وعلى خلاف ذلك ارتهن الجهل بالغرور، واشتّد بالاستكبار، ونما بالغطرسة. وإذا كان العالِم يٌعْرَف بتواضعه فإن الجاهل يتميز بغروره، ويعرف بتبجحه وتعاليه واستكباره. وإذا كانت العلم قرينا للتواضع وهذا أكيد مؤكد فإن الجهل لا يكون إلا صنواَ للغرور والاستكبار وموئلا لمشاعر التضخم المرضية النرجسية.

ينبئنا تاريخ الفلاسفة أن الفيلسوف الإغريقي فيثاغورث (570-495Pythagoras -) ق.م اعترض على تسمية الفيلسوف بالحكيم ونظر إليه على أنه مجرد محب للحكمة، فالحكمة أوسع من أن يقبضها الإنسان الفيلسوف، بل أقصى ما يمكن أن يصل إليه الإنسان هو فضيلة المحبة للحكمة التي تفيض بأنوارها الكونية، ومن هذا المنطلق التأسيسي كان يعتقد بوجود حكيم واحد هو الله لا عيره العارف بأحوال الكون والقابض على أسراره - وما الفلاسفة في النهاية إلا محبو الحكمة وعاشقوها - وفي قوله يكمن سر التواضع الفكري والفلسفي بين العلماء والمفكرين .

وجاء في الأثر أن رجلاً جاء أبا الريحان البيروني مادحا - والبيروني كما يعرفه القاصي والداني كان عبقرية علمية ليس لها مثيل أو نظير في التاريخ العلمي- فأنشده قصيدة مجّده فيه ورفعه فوق كل المراتب ونهض به إلى أعلى الرتب. وقد ضجّ البيروني بالمدح وتضايق ذرعا بمادحه لما كان عليه من عداوة للفخر والاستكبار والتماهي بالألقاب والرتب فأرزج شعرا يقول فيه ردا على مادحه يبسط فيه أعمق دلالات التواضع الفلسفي والإنساني:

وذاكرا في قوافي شعره حسبي .......... والله لست عارفا نسبي

إذ لست أعرف جدي حق معرفة..... وكيف أعرف جدي إذ جهلت أبي

أبي أبو لهب شيخ بلا أدب ... ..... نعم وأمي حمالة الحطب 
 المدح والذم عندي يا أبا حسن ...... سيان مثل استواء لجد واللعب. [1]

ومن أخبار التواضع المهيبة في الفلسفة والحكمة، يروي لنا بانوفسكي (Panofsky E.) أن " الفيلسوف الألماني الشهير بمقولاته التنويرية عمانويل كانط تلقى زيارة من طبيبه قبل وفاته بتسعة أيام، وكان طاعنا في السن، مريضا، شبه أعمى، وما أن رأى زائره حتى قام من أريكته ومكث واقفا، يرتعش من الوهن، يتمتم بكلمات غير مسموعة. وقد أدرك زائره أنه كانط لن يستعيد سكونه ما لم يأخذ مقعدا ويجلس عليه، وهو ما قام به؛ وعندها هدأ الفيلسوف وسكن، وعندما استعاد بعض قواه قال: لم يغادرني حسّ الإنسانية بعد. وبفعل الارتباك، كان سامعاه على وشك البكاء"..

إن أحد أهم الدروس التي تعلمناها في مسيرة الحياة والمعرفة الأكاديمية أن المعرفة تتسم بالتواضع وترتسم فيه وتنهل من معينه، وأن أي معرفة أو يفارق سمة التواضع هو علم خواء ومعرفة فارغة. فالتواضع سمة العلم وشيمة العلماء. وهو كما عرفناه ليس تخلّقا ساذجا يتجمل به العلماء، بل هو قوة ساكنة في الأعماق وإقرار عميق من أهل العلم بأن المعرفة بحر متلاطم الأمواج وأن العارف مهما بلغ من علم لا يعرف إلا قليلا وقل لمن يدعي في العلم فلسفة عرفت شيئا وغابت عنك أشياء. فالتواضع في العلم هو إقرار عميق بمهابة العلم واتساع المعرفة الذي يتجسد في الحكمة التي تقول: وما علمتم إلا قليلا وفوق كل ذي علم عليم. فالتواضع هو إيمان عميق وإقرار راسخ بأن المعرفة بحر لا قرار له ومهما تعلم الإنسان فليس له من العلم إلا قليلا. لقد علمتنا الخبرة الطويلة وتعلمنا أن العلم لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك وهذا الأمر يشكل جذوة التواضع في العلم والمعرفة.

لقد تعلّمنا أيضا عبر رحلتنا الطويلة في رحاب العمل الأكاديمي على مدى أربعة عقود من الزمن وعلّمنا طلابنا أن الحصول على شهادة الدكتوراه لا يعني أكثر من نقطة بداية، أو بداية رحلة طويلة في دروب العلم والمعرفة، وقد تعلمنا في مدارات الفكر الفلسفي أيضا أن الإنسان كلما ازداد علما عرف مدى ما هو عليه من جهل نظرا لاتساع المعرفة وعمقها، وذلك هو المعنى الذي توخاه سقراط في قوله المشهور " إنني أعرف شيئا واحدا وهو أنني لا أعرف شيئا ". والدرس الأهم الذي يتعلمه طالب العلم أن مرحلة الدكتورة هي المرحلة التي يتعلم فيها الطالب أبجديات البحث العلمي ومبادئه الأساسية. وكان أساتذتنا يقولون لنا إن الشهادة هي رخصة تؤكد أن الباحث أصبح قادرا على البحث والتعلم في رحلة طويلة يجب أن يتشكل في هضابها ومدرجاته. وتعلمنا أيضا أن الشهادة هي اعتراف أكاديمي بقدرة الطالب على التجديف في المياه الراكدة وأنه يجب عليه أن يتعلم المزيد من أجل الملاحة في غمار المياه العميقة البعيدة.

وتبين الملاحظة العابرة أن الحصول على الشهادة العلمية العالية ولاسيما شهادة الدكتوراه تأخذ في مجتمعاتنا مكانها المبجل في نفوس الناس، ومرتبتها العالية في عقولهم. وقد لا أبالغ في القول إن كثيرا من الناس يشعرون بالقشعريرة عندما تذكر هذه الشهادة العالية التي تحتل مكانها في أعلى مرتبة في مدارج المعرفة الإنسانية. وتتعاظم هذه الصبغة التبجيلية التمجيدية لتضفي طابعا تهويليا على حامل الشهادة، وإذا كانت الشهادة عظيمة ونبيلة، فإن حاملها سيكون أكثر عظمة وأنبل سموا، ويتدفق هذا الفائض التبجيلي ليَسِمَ الأستاذ الجامعي حامل الدكتوراه بسمة العظمة والتفوق الفارق الذي يضفي عليه حالة من التسامي الطبقي المعظم. فالأستاذ الجامعي يمثل في وعي الناس والمتعلمين قمة المعرفة ودرتها وهو يفوق ولا يفاق عليه، يعلو ولا يعلى عليه إذ يحتل أعلى مرتبة في مراتب العلم ومدارج الشرف حيث يحظى بكل سمات التبجيل وصفات التعظيم والتسامي.

لقد هالني انشِداه بعض أساتذة الجامعة وتعجبهم عندما تحدثت في سياق بحث علمي عن الأمية الأكاديمية في صفوف أساتذة الجامعة، حتى أن كثيرا منهم قال لي بصيغة الاندهاش الشديد إلى حد الصدمة: أَأُميةٍ في صفوف حملة الدكتوراه؟! هل يصدق هذا؟! ومما لا شك فيه أن هذه الطبقة من حملة شهادة الدكتوراه قد اتخذت لنفسها موقعا ومنزلة كبيرة مهابة، ووضعت نفسها في مكانة عالية، بل أحاطت نفسها بكل مظاهر الهيبة والوجاهة والوقار، ووصل الأمر إلى درجة اعتقاد بعضهم – وهم أشدهم جهلا- أنهم يجسدون مطلق الحكمة وغاية العلم ومنتهى المعرفة. وهو الأمر نفسه الذي كان سببا من أسباب في انهيار القيمة العلمية لشهادة الدكتوراه وحامليها. فما أن يحصل عليها الطالب حتى يشعر بأنه وصل إلى غاية العلم ومنتهى المعرفة فيكتفي بشرف الشهادة وحظوتها وفخامتها فيرتد إلى محاضن الجمود الفكري والتصحر العلمي والفراغ الثقافي مع الزمن.

يصف الكاتب اللبناني علي حرب حالة المثقف الجامعي، الذي غُرّ بنفسه ووقع تحت العُجْبَ بذاته، وبلغ حالة الشعور بالعظمة والإحساس الطاووسي بالاستعلاء على غيره من أبناء جلدته، بقوله:" وهكذا يجد المثقف نفسه اليوم أشبه بالمحاصر، وليس السبب في ذلك محاصرة الأنظمة له، ولا حملات الحركات الأصولية عليه، كما يتوهم بعض المثقفين، بالعكس، ما يفسر وضعية الحصار هو نرجسية المثقف وتعامله مع نفسه على نحو نخبوي اصطفائي، أي اعتقاده بأنه يمثل عقل الأمة أو ضمير المجتمع أو حارس الوعي. إنه صار في المؤخرة بقدر ما اعتقد أنه يقود الأمة، وتهمش دوره بقدر ما توهم أنه هو الذي يحرر المجتمع من الجهل والتخلف ...ولا عجب: فمن يغرق في أوهامه، ينفي نفسه عن العالم، ومن يقع أسير أفكاره، تحاصره الوقائع.[2]

و غالبا ما يكون هذا التعظيم إلى حد إضفاء طابع المهابة والقداسة على حامل الدكتوراه ولاسيما الأستاذ الجامعي في المجتمعات المتخلفة. ومن هنا نلاحظ حرص السياسيين والقياديين في المجتمع على حيازة شهادات الدكتورة ووضعها أوسمة ونياشين على صدورهم تجملا في عيون العامة والخاصة من الناس. وكذلك هو حرص أبناء الطبقات الأرستقراطية على التجمل بالشهادات العلمية العالية طلبا لبريق التفوق وسعيا إلى وميض التبجيل. وعلى هذا النحو نجد الناس يعظمون حاملي الألقاب العلمية وشهادات الدكتوراه. حتى أن أصحاب هذه الشهادات أصبحوا يشكلون طبقة اجتماعية أرستقراطية متعالية تحتكر لنفسها كل سمات التمجيد والتعظيم والتأييد. وغالبا ما ينظر إليهم على أنهم متفوقون فارقون خارقون. ويصل هذا التمجيد إلى حد يبالغ به أصحابه فحملة شهادة الدكتوراه يتمايلون إعجابا بأنفسهم ويهتون طربا على أنغام ألقابهم وتشتعل نظراتهم بالفرح والإعجاب في كل موقف ومكان. فاللقب " دكتور" أصبح رمزا للهيمنة والتعالي والإعجاب بالنفس حتى يقع حامله في وهم العظمة والتميز والضياع النرجسي في أوهام الحظوة الطبقية الفارقة. ويمكن القول باختصار إن حملة شهادات الدكتوراه بدؤوا يشكلون طبقة محظية محظوظة رفيعة الشأن في المجتمع عالية المكانة في وعي الناس. وبدأت هذه الطبقة تكتسب خصوصيتها بوصفها تابو متعال متسام يفوق المنتسبين إليها باقي أجناس البشر. وهذا الوهم بالسمو والتسامي يغرر بأصحابه- ونقصد الحاملين للقب الدكتوراه- إذ يرون أنفسهم قامة فوق الآخرين فهم أصحاب العلم والمعرفة والقدوة والنخبة والمصطفين من البشر، إنهم يحملون في أنفسهم وهم هذه الخصائص المعرفية الذكية التي لا يمكن أن يحظى بها غيرهم من أصناف البشر؟ وضمن هذا المسار يشكل أساتذة الجامعة طبقة مدججة بهالة من التفخيم والتعظيم حتى أصبحت "تابو" مرهوب الجانب يُمنع على الآخرين الاقتراب منه أو تداوله أو نقده.

و الآن حان الوقت سوسيولوجيا لتحطيم هذا "التابو" المدجج بالأوهام المرضية الاستعلائية، حان الوقت لتفكيكه وإخضاعه للدرس والتحليل في ضوء المعطيات التاريخية والاجتماعية لتطور العلم والمعرفة. وهنا علينا أن ندرك بأن الشهادات العلمية في زمن الليبرالية الجديدة تباع وتشري حتى أصبح لها سوقا واسعا تزّور فيه الشهادات وتباع في الدبلومات العالية في أسواق النخاسة العلمية دون حسيب أو رقيب. ومما لا شك فيه أن الشهادات العلمية تشكل مؤشرات لا يستهان بها في مجال التحصيل العلمي والمعرفي ولكن المبالغة في تبجيلها وتعظيمها وإضفاء الهالة على حامليها يجعل من الأمر قضية إشكالية يجب أن تعالج وأن تخضع للبحث والتحليل خارج دائرة التقديس والتمجيد. وخلاصة القول إن الحصول على الشهادات العالية لا يعني إبدا الحصول على مطلق المعرفة وأن حملة هذه الشهادات يمكن أن يكونوا على درجة متواضعة من العلم والمعرفة، لأن الشهادة بداية الطريق وليست منتهاها. وأن هذه الألقاب التي تزين صدور حامليها ليس لها أن تجعلهم فوق الآخرين ولا تمنحهم التفوق العلمي والأكاديمي. وأن التفوق مرهون بالنشاط والعمل والتدرج في مراتب المعرفة ومدارج العلم.

اسمحوا لي أنا أعود بذاكرتي إلى عام 1982 عندما قبلت في الماجستير في جامعة كان (Caen) بفرنسا وكان قد ترتّب على أن أقابل أستاذي المشرف. ولما جئت إلى الجامعة أبحث عنه، دخلت بالصدفة إلى قاعة اجتماعات وكانت تغص بالحضور الأكاديمي، حييتهم ثم سألتهم ببساطة أين أجد مكتب الدكتور "بول كليرك" .... نظروا إلى جميعا بدهشة بادية على الوجوه – وكأنني ارتكبت خطأ ما – ابتسموا لي في البداية – ثم انفجروا بضحكات عالية سمع دويها في البهو الخارجي – وأنا في حالة دهشة واستغراب لا أدري ما هو السبب. وكان من الصعب عليهم أن يشرحوا لي حينها وهم في موجة الضحك هذه ما الذي أضحكهم ... ثم بدؤوا يمازحونني ويرددون " الدكتور كليرك ...الدكتور كليرك ..." عندها أدركت بعفوية بأن لقب "الدكتور" مستهجن وغير مألوف في الجامعة، وهو الأمر الذي أثار ضحكاتهم المدوية – وعندها أدركت أيضا أن ألقاب التفخيم والتعظيم لا تحظى بالاحترام في الحياة الأكاديمية في فرنسا وفي البلدان المتحضرة وكانت هذه الحادثة لي درسا في أهمية التواضع لا ينسى.

و على خلاف ما يجري في الغرب فإن الاستغراق في استخدام الألقاب يشكل ظاهرة مستشرية تضرب عمقها في جذور ثقافتنا المتشبعة بألفاظ التفخيم والإجلال والتعظيم. وهناك في العالم العربي آلاف الحكايات التي تدور في أوساطنا الأكاديمية لتؤكد لنا أن ألقاب التفخيم والتعظيم تشكل ركنا أساسياً في حياتنا الأكاديمية، إنها فعلا كارثة تدل على عمق التخلف الذي نعايشه ويعيش فينا.

يصف الكاتب المغربي الحبيب الدائم ربي حضور ظاهرة التفخيم اليوم بقوله " أما اليوم فقد صار الكل كبيرا وعظيما حتى ولو لم يكن كذلك، إلى درجة أنّ ألفاظ مثل دكتور وأستاذ وشيخ أصبحت توزع يمينا وشمالا. فمن دون شواهد ولا دبلومات ألفينا الجزارين والكناسين والبوابين وما إلى غير ذلك، يَغدون أساتذة بقدرة قادر. [3] ويتابع الكاتب حديثه في وصف حدود استخدام هذه الألقاب في بريطانيا وفرنسا بقوله: "فالفرنسيين مشهورون، مثلهم، بصيغ المبالغة في الحكم على الأمور، والإنكليز يجيدون الأساليب “الجنتلمان”. ومع ذلك فإن الشعبين الأخيرين، معا، لا يطلقان، كما نحن، صفة أستاذ أو دكتور إلا على ذويها، أي على الحاملين لهذه الصفات في واقع الحال. بل إنهم في كثير من الحالات لا يطلقونها حتى على هؤلاء. ولا شك أن القراء لم يسمعوا قط بالدكتور فرويد ولا الدكتور أينشتاين وقد لا يجدون كِتابا ينص على أن مؤلفه دكتور أو أستاذ كما هو الشأن عندنا نحن العرب حيث الاعتداد بالنفس قد يصير، أحيانا، أقرب إلى الأعراض المرضية، إذا لنا الصدر دون العالمين أو القبر." [4]

و يتحدث الكاتب العراقي كفاح محمود كريم عن شيوع هذه الظاهرة في العراق بقوله: " أما الدكتور وهذه الصفة التي أهينت وهي بريئة ممن يستخدمها ظلما وبهتانا، فبعد أن كانت صفة للطبيب أو درجة علمية في اختصاص أكاديمي معين، أصبحت هي الأخرى مثل سابقتها الشيخ تمنح لكل من يعرف كم مصطلح أجنبي أو ينظم كم جملة من المصطلحات السياسية ويخرج على مشاهدي التلفزة خبيرا استراتيجيا، أو يشتريها فخريا لأنه فلتة زمانه، وهكذا دواليك في الباشا التي كانت ذات يوم رتبة اعتبارية أيام مملكة بني عثمان وما تلاها من ممالك وإمارات، ثم بدأت بالتلاشي مع ظهور الجمهوريات، لكنها عادت ثانية في أيامنا المهجنة هذه لكي تقدم صفة تجميلية منافقة للعلاقات العامة! [5]

وفي تفسير هذه الظاهرة تقول الأستاذة الدكتورة نادية جمال الدين في تغريدة لها حول هذا الموضوع:" الألقاب هي الرداء لمن لا يملك سواها، رحماكم هناك فرق بين اللقب العلمي وألقاب التفخيم الممجوجة. ماذا تريد من إنسان يشعر داخليا أنه لا يملك شيئا سوى هذا الذي انجزه بمجهوده رغم كل الظروف، انه يا سادة شعور داخلي يحميه من الاستخفاف حينا واللامبالاة به أحيانا..... التجربة في بعض البلاد العربية مريرة حيث الإنسان لا قيمة له إلا بما يغطيه من قشور، ومن هنا يسعى جاهدا للاحتماء بها، والزهو بما تضفيه عليه من المظاهر الخادعة ".

و يصف الأستاذ الدكتور محمد الطبولي أستاذ علم الاجتماع بجامعة بني غازي في تغريدة له حول مسألة الألقاب قائلا: " عندما ذهبت إلى أمريكا، وبعد الانتهاء من كورس اللغة، التحقت ببرنامج الماجستير، وكان في أول كل محاضرة يطلب منا أستاذ المادة أن نناديه باسمه الأول فقط، وبعد ذلك وعندما أصبحت بدوري محاضرا في إحدى الجامعات الأمريكية كان طلابي ينادوني بمحمد، وعندما عدت إلى ليبيا كتبت اسمي في أول محاضرة لي على السبورة بدون ألقاب فساد بين الطلاب أنني أحمل شهادة الدكتوراه والا لكنت قد كتبت لقبي قبل اسمي وهذه واحدة من قصص عديدة.

و يطيب لنا في هذا المقام أن نردف هذه المداخلة بمطالعة توردها الأستاذة أمينة زوجي باحثة في علم الاجتماع حيث إن استخدام الألقاب حتى خارج المجال الأكاديمي مسألة ثقافة بالدرجة الأولى، ففي المجتمعات المتقدمة يتمتع الفرد بتقدير عال لذاته لأنه يشكل قيمة في حد ذاته بوصفه إنسانا ومواطنا، وبالتالي فهو لا يحتاج إلى تأكيد نفسه بفرض الألقاب، في حين أن الدول العربية ودول العالم الثالث والتي مازالت تعاني من الهيمنة والطبقية والتفاضل على أساس العرق والأصول القبلية والعائلية، وبالتالي فالفرد في هذه المجتمعات يظل يبحث عن الاعتراف عن طريق حيازة الشواهد لينادي عليه بأستاذ أو دكتور وقد يقضي حياته في توفير المال للذهاب إلى الحج ليطلق عليه لقب حاج، كما أن بعض الألقاب هي إرث لعصر العبودية مثل "السيد" و"الشريف"...وهناك ألقاب ترتبط بالسن فرضتها الثقافة التقليدية.

و قد أحسن الزميل خالد وليد محمود في تحليله الرشيق لأبعاد ثقافة التفخيم والتلقيب ومعطياتها الضاربة جذورها في الثقافة العربية التي أنتجت نوعا من التعظيم والتفخيم القائم على مفردات اللغة العربية التي استُهلكت بصناعة الألقاب وصوغ الأنساب. فالثقافة العربية أصبحت نسيجاً يعشق التفخيم والتعظيم "وباتت حياتنا الثقافية والأدبية تطفو على بحر من التصنيفات التي تُعطى وتمنح بغير وجه حق. يقول محمود في أنتجت وصف لغة التفخيم " إن كان أحدهم ملتزماً أشير إليه على أنه شيخ، وإن كان مستنيراً أُلحق به لقب الليبرالي، وإن خرج من مكتبة، أو حمل بيده كتاباً، قيل إنه أستاذ! وإن رأيت أحدهم وقد اشتعل رأسه شيباً نادوه "حاجّاً"، وهو لم يصل إلى الكعبة! إذن، بتنا أمام ثقافة ألقاب انجرّ وراء بهرجتها وأضوائها كثيرون، ولم يدركوا حجم المبالغة في تقديرهم ذواتهم، وعبء اللقب الذي يحملونه، متناسين أن حجم الشخص ومعطياته يقفان عند لقب "أبو فلان" أو أم "فلان"، لكنهم تعودوا على الكذب على أنفسهم، وانساقوا وراء الألقاب التي أخذت تسابق الاسم، بينما عمر بن الخطاب، بكل عظمته، كان ينادى بــ" يا ابن الخطاب" أو يا عمر. أما مجتمعاتنا، فلا زالت تكرّس هذه الحالة المتردّية التي جعلتنا نفخّم أنفسنا، وننساق وراء وهم الألقاب وأعبائها".

و هذه الحالة الثقافية المؤسسة للتفخيم والتعظيم تبلغ أوجها في الطبقة الأكاديمية المولعة بالألقاب المفخمة التي تحمل في ذاتها ضجيجا وتترك وراءها فيض عجاج، أداد في وصفه زميلنا الدكتور حمزة الخدام الذي يصف واقع الحال في الجامعة فيقول إذا تمت ترقية عضو هيئة تدريس في الجامعة يجب عليك أن تناديه بلقب أستاذ وإذا لم تفعل فهذا يعني أنك تخاصمه وتعاديه ويبلغ الحد إلى درجة العداء.

و تعيد الباحثة عائشة بليح هذا التفخيم والتعظيم في الجامعة إلى تأثير غادر لثقافة القبيلة التي رسخت في النفوس تفخيم مكانة الشخص بحسبه ونسبه في قبيلته. ولما ظهرت الألقاب الأكاديمية مثل الدكتور والأستاذ والمهندس أصبحت ترسيخا لثقافة التحسيب والتلقيب التي تمتد بجذورها إلى القبيلة. تصف بليح هذه الظاهرة وصفا سرديا عندما تقول: كنت كلما التقي مع أستاذ كان يدرسني أيام ليسانس كنت أناديه أستاذ فكان يتهرب مني وكنت مستغربة لأنني لم أفعل له شيء وذات يوم قصصت الحادثة على صديقة لي فضحكت فقالت أنا نفس شيء إذا ناديته دكتور يتهرب مني فتقصت على أمر فعرفت انه يجب أن نناديه بروفيسور! ويؤكد الحبيب الدائم ربي على البعد الثقافي التاريخي في تأصيل ظاهرة استخدام الألقاب في مجتمعاتنا ولاسيما تأثير الثقافة العثمانية المفخمة التي كانت تستخدم أثناء الهيمنة العثمانية فيقول: " فالعثمانيون كانوا مولعين بألقاب الفخامة والعظمة، عسكريا ومدنيا، من قبيل البيه والباي والباشا والباش مهندس والبكباشي إلخ، فتوغلت إلينا حتى تشربناها مع الوقت فغدت من صلب “علاماتنا المسجلة”. [6]

لقد تنامت ظاهرة التماهي بالألقاب والأحساب بين الأكاديميين العرب بشكل ملفت للنظر، وهي تشكل اليوم ظاهرة مخجلة ومريبة يجب أن تدرس في ضوء معطياتها السيكولوجية والاجتماعية في مجتمعات متخلفة. فأساتذة الفلسفة وما أكثرهم يطلقون على أنفسهم فلاسفة - ويمجدون أنفسهم بكلمات وعبارات التكريم التعظيم. ولكن الهوس الأكبر إبداعا للألقاب وابتكارها نراه عند الأكاديميين في كليات التربية، الذي أبدعوا لأنفسهم ألقابا جديدة ليس لها مكان في الأعراف الأكاديمية ولا تجوز كهذه التي نراها في أوساط الفنانين والمصارعين، وعلى هذا المنوال أصبحت الساحة التربوية مفتوحة للألقاب والأحساب والكرامات - فهذا يطلق على نفسه شيخ المربين العرب - وذاك يطلق على نفسه شيخ الفلاسفة التربويين العرب. وهذا يطلق على نفسه العالم العلامة - والحبل على الجرار - وأخشى أن يأتي يوم نسمع فيه ألقابا جديدة على مبدأ ما يشهده الوسط الفني إذ قد نسمع بألقاب كهذه التي تداعب المشاعر مجال الفن مثل: القيصر، والشحروة، وسيدة الغناء، والعندليب. وعلى هذا المنوال وقد لا يكون اليوم بعيدا لنسمع بألقاب جديدة في المجالات الأكاديمية كأن نقول في المستقبل: قيصر المربين العرب، وشيخ الأنتربولوجيين العرب، وشحرورة الأصول، وسيد التربية العربية على مبدأ - سيدة الغناء العربي - والحبل على الجرار ... 

و نحن نعتقد أن هذه الظاهرة ظاهرة مرضية خطيرة ومخجلة وعفنة وتدل على أخطر مظاهر التخلف الفكري والأخلاقي والعلمي في الحياة الأكاديمية العربية، وهي تتنافى مع كل قيم التواضع العلمي - وكم نتمنى على التربويين والأكاديميين محاربة هذه الظاهرة التي تفيض بكل المعاني السلبية وتدل فيما تدل على الانحطاط الفكري والأخلاقي. فالعلم لا يحتمل كثيرا من الألقاب وأحساب والتمجيد، فقيمة العلم تكون في العمل والإنتاج والإبداع وليس في الألقاب والأحساب فالأعمال التي يقدمها الكاتب والباحث تكفيه شهادة - والمعيار الأخلاقي يجب أن يكون فيما نقدم من معرفة للأجيال دون أحساب وألقاب.

تقول الدكتورة نادية جمال الدين (أستاذة في كلية التربية بجامعة عين شمس) في هذا السياق " أنا من جيل قديم وأتأمل بذهول ما يطلقه الزملاء على بعضهم البعض من ألقاب، وأتساءل كثيرا ماذا أضفنا نحن التربويين حتى نتصور أننا نستحق هذه الأوصاف؟ وتتساءل الدكتورة نادية جمال الدين " هل ترمز هذه الألقاب إلى نوع من الهروب إلى المداراة وقلة الحيلة في أوطاننا أم ماذا؟ وكثيرا ما تحدثت مع من حولي وتساءلت لماذا هذه الأوصاف تطلق على الزملاء الرجال ولم توصف بها زميلة تحمل تاء التأنيث مع بقية الدرجات العلمية، مع ان منهن من هي أستاذة لبعض منهم؟ وتتحدث الدكتورة عن نمط آخر من الألقاب التي تستخدم في الوسط الأكاديمي مثل: جاء عميد العمداء... ويذهب معالي الأستاذ الدكتور ... ويتضمن الأمر استخدام ألقاب أخرى مثل فخامة الدكتور ...الخ. وترى الدكتورة جمال الدين أن هذه الألقاب والتسميات معيبة ولا تستخدم إلا من قبل المستبدين والطغاة والمتسلطين ولا يمكن أن تكون مدادا للثقافة والعلماء والعارفين أهل المعرفة والتواضع.

و سرديات التفخيم والتعظيم التي تسجل نفسها في الجامعة أكثر من أن تحصى وتعد. ويمكن القول فعليا بأن ثقافة التفخيم الأكاديمي أصبحت مرضا سرطانيا يقضُّ مضاجع الحياة الجامعية، ويشلّ الطاقة الإبداعية للعلماء والمفكرين. ومن يراقب وسائل التواصل الاجتماعيـ سيرى بأم العين أن عددا كبيرا من حملة الألقاب الجامعية انصرفوا إلى تمجيد أنفسهم إذا لم يجدوا من يمجدهم. وغالبا ما يوظف هؤلاء وسائل التواصل للحديث عن انتصاراتهم وإنجازاتهم وفهلوياتهم العلمية التي لا تنقطع. وفي عمق هذا التمجيد النرجسي للذات نجد حالة قصوى من التضخم في إضفاء المزيد من ألقاب التفخيم والتعظيم، وقد أصبحت هذه الثقافة ظاهرة مخيفة. فكثير من الأساتذة ينحتون لأنفسهم ألقابا إضافية وقد شاهدنا في الآونة الأخيرة كثيرا منها. فبعضهم ينحت لنفسه ألقابا جديدة أو يهيب بالآخرين من طلابه وتلامذته أن يخلعوا عليه مثل هذه الألقاب ومن ثم يعمل بدورها على تعزيزها. وهذا كله يمثل مرضا ثقافيا من أمراض التخلف المرعب في ثقافتنا الأكاديمية المعاصرة.

و نتأنس في هذه المقالة بقول الدكتور محمد ناجح محمد (أستاذ أصول التربية بجامعة سوهاج) "سيظل الإناء الفارغ يصدر رنينا أعلى من الإناء الممتلئ، وستظل أغصان الأشجار التي تحمل ثمارا تتجه إلى أسفل لثقل ما بها من الخير، بينما ترتفع الأغصان الفارغة إلى أعلى، وسيظل التواضع شيمة من شيم العلماء الذين يستحضرون عظمة من منحهم العلم فيخشونه حق الخشية، وتستحي قلوبهم من أن تشوبها شائبة كبر في حضرة الوهاب العظيم، الذي إن شاء منح، وإن شاء منع، فالعالم الحق هو من يدرك أنه لم يؤت شيئاً على علم عنده، وأنه لم يؤت من العلم إلا قليلاً.

و نختتم إن "الخطأ فضيلة الإنسان والتواضع مجده: وأننا كما يقول طاغور "ندنو من العظمة بقدر ما ندنو من التواضع"، وكما يقول. (إلفرد دو موسّيه) "ليس للرجل سوى مجدٍ واحد حقيقي، هو التواضع" فالتواضع هو الخلق الوحيد الذي لا يستطيع صاحبه أن يفخر به كما يقول أحد الحكماء. ويطيب لنا تتويج العبارة الأخيرة في هذا المقال بترنيمة شعرية تقول "تعلم فليس المرء يولد عالماً وليس أخو علمٍ كمن هو جاهل".

مراجع المقالة:

[1] - ياقوت، معجم الأدباء، جزء 5، ص 2335.

[2] - علي حرب، أوهام النخبة أو نقد المثقف، المركز الثقافي العربي، ط 3، الدار البيضاء، 2004، ص 98.

 [3] - الحبيب الدائم ربي، ألقاب مفخمة، العرب ،السبت 2014/06/28. 

[4] - الحبيب الدائم ربي، ألقاب مفخمة، العرب ، المرجع السابق .

[5] - كفاح محمود كريم، الألقاب وطبقة الفاسدين!، ميدل إيست أو لاين، الثلاثاء 2018/07/17. 

[6] الحبيب الدائم ربي، ألقاب مفخمة، مرجع سابق.

  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق