فَأَمَّا ٱلْنَّفْسُ ٱلْوُضْعَى فَتَبْغِي ٱلْجَوْرَ كَيْ تَقَوَّى فِي أَرْضِ ٱلْعَمَاءْ، وَأَمَّا ٱلْنَّفْسُ ٱلْعُظْمَى فَتَشْتَهِي ٱلْعَدْلَ كَيْمَا تُحَلِّقَ فِي عَنَانِ ٱلْسَّمَاءِ! - أونوريه بَالْزاك
(2)
ذٰلِكَ ٱلْغَبَاءُ ٱلْقَهْرِيُّ ٱلْتَّكْرَارِيُّ، مثلمَا يُدلي بِهِ العنوانُ هكذا بِصَرِيحِ العبارةِ، إنَّما هُوَ دَاءٌ نفسيٌّ عُضالٌ يستحْوذُ أيَّمَا استحواذٍ على ذِهْنِيَّاتِ الطُّغاةِ الفاشيِّينَ كافَّتِهِم، أنَّى تواجَدُوا عَنْوَةً في أصقاعِ هذا العَالَمِ العربيِّ الكئيبِ، وأمثالِهِ في أرجاءِ ذاك العَالَمِ اللاعربيِّ في المقابلِ. فلا غَرْوَ أنْ يتَّصفَ هذا الدَّاءُ النفسيُّ العُضَالُ، والحَالُ هذِهِ إذنْ، باتِّصَافٍ فِطْرَانِيٍّ واتِّصَافٍ خِبْرَانِيٍّ (بالمعنى المُكْتَسَبِيِّ)، في آنٍ واحدٍ. فهُوَ، من ناحيةٍ أولى، دَاءٌ فِطْرَانِيٌّ بطبيعتهِ لأنَّ الطاغيةَ الفاشيَّ المَعْنِيَّ ليسَ فردًا مُتَفَرِّدًا قائمًا في ذاتِهِ ولِذاتِهِ، هكذا كيفمَا اتَّفق، بَلْ فرعًا مُتَفَرِّعًا، في الأساسِ، عن جَذْرٍ تَالِدٍ يتغلغلُ، أو حتى عن جُذُورٍ تليدةٍ تتغلغلُ، في ثنايَا «نظامٍ كُلِّيَّانِيٍّ» Totalitarian Regime، كمَا يتبدَّى للعِيَانِ هكذا، نظامٍ مُفْتَعَلٍ افتعالاً محلِّيًّا ظاهريًّا وكذاك مُصْطَنَعٍ اصطناعًا أجنبيًّا باطنيًّا، في المقام الأول. ذلك لأنَّ أيَّ نظامٍ كُلِّيَّانِيٍّ كهذا، ناجزٍ بأيِّ شكلٍ من أشكالهِ الظاهرِيَّةِ والباطنيَّةِ هذِهِ، لا يعْدُو أنْ يكونَ، في حقيقةِ الأمرِ، شكلَ «نظامٍ أبَوِيٍّ» Patriarchal System، كمَا يتبدَّى للعِيَانِ أيضًا، نظامٍ وِرَاثِيٍّ ومُتَوَارَثٍ أبًا عن جَدٍّ يطمعُ في الدَّوامِ المُطْلَقِ في الحُكْمِ الأبَدِيِّ إلى يومِ يُبْعثُونَ – سواءً تسرْبَلَ هذا النظامُ الوِرَاثِيُّ والمُتَوَارَثُ، في التَّجَلِّي الازدواجيِّ، بِسِرْبالٍ مَلَكِيٍّ أو عَاهِلِيٍّ سَافرٍ أم تقنَّع بِقناعٍ جمهوريٍّ أو حتى «اشتراكيٍّ» طافرٍ. وهُوَ كذاك، من ناحيةٍ أخرى، دَاءٌ خِبْرَانِيٌّ (بالمعنى المُكْتَسَبِيِّ) بتكوينهِ أيضًا لأنَّ الطاغيةَ الفاشيَّ المَعْنِيَّ عَيْنَهُ يَكادُ أنْ يُعيدَ بالعُنُوِّ لِعَيْنِ النَّاظِرِ المنتمي، أو حتى باللاعُنُوِّ لِعَيْنِ النَّاظِرِ اللامنتمي، بِناءَ عَيْنِ المَشاهِدِ السياسيةِ أو المُسَيَّسَةِ بالحذافيرِ واحدًا واحدًا، تلك المَشاهِدِ التي تَجَلَّى فيها مَنْ سَبَقَهُ مِنْ أسْلافِهِ مِنَ الطُّغاةِ الفاشيِّينَ «الأَمَاثِلِ» – سواءً كذاك من حيثُ المَسَارُ الذَّميمُ الذي سَارُوا عليهِ في المُبْتَدَى وهُمْ بَاقُونَ، أو عَائِشُونَ، أم من حيثُ المَصِيرُ الدَّميمُ الذي صَارُوا إليهِ في المُنْتَهَى وهُمْ فَانُونَ، أو سَاقطونَ. وقد ظهرَ العديدُ من الأمثلةِ التاريخيةِ واللاتاريخيةِ الملمُوسةِ بالقَطْعِ حَتْمًا على كلٍّ من توصيفَيِ الغَبَاءِ القَهْرِيِّ التَّكْرَارِيِّ هٰذَيْنِ، أو حتى على كلَيْهِمَا معًا، في مناطقَ مختلفةٍ من هذا العَالَمِ العربيِّ المُنْهَكِ والمُنْتَهَكِ إلى أقاصِي الحُدودِ، وعلى الأخصِّ بدءًا من ظهورِ مَا سُمِّيَ، حينذاك، بـ«حركات التحرُّر الوطني»، أو حتى بـ«حركات التحرُّر القومي»، وذاك بُعَيْدَ آثارِ «الحربِ العالميةِ الثانيةِ» WWII، وانتهاءً، لا بلْ استمرَارًا وإكمَالاً، باندلاعِ الثوراتِ الشعبيةِ «الرَّبيعية» – على الأقلِّ، اندلاعِهَا في كلٍّ من تونسَ وليبيا ومصرَ واليمنِ وسوريا، خلالَ عقدِهَا الدَّمَوِيِّ العصيبِ ذاك من ذاك الزَّمَانِ.
وبالإشارةِ المرئيَّةِ والجليَّةِ، من هٰهُنَا، إلى أَمْدَاءِ ذلك الغربِ «الديمقراطيِّ» بالذاتِ من خلالِ تَجَلِّيهِ الازدواجيِّ أصلاً في نظرتِهِ «المُثْلَى» إلى بلدانِ مَا يُسَمِّيهِ بـ«العَالَمِ الثالثِ»، وكذاك من خلالِ مَا يترتَّبُ على هذا التَّجَلِّي الازدواجيِّ من كَذِبٍ ونفاقٍ ووُصُولٍ وانتهازٍ ومَا إلى ذلك، لم يَحِدْ قطُّ أيٌّ من أمْدَاءِ (هذا الغربِ «الديمقراطيِّ»)، في أيٍّ من عُهودِهِ المعهودةِ تلك، عن السَّعْيِ الحَثِيثِ وراءَ «الإنقاذِ الأَرْيَحِيِّ» لأولئك الطُّغَاةِ الفاشيِّينَ «الأَمَاثِلِ» الذين ابْتُليَتْ بوجودِهِمْ شعوبُ البلدانِ العربيةِ المنكوبةُ هذِهِ من كلِّ حَدَبٍ وصَوْبٍ، وذلك بُغْيَةَ الاستفادةِ من عَمَالةِ هؤلاءِ الطُّغَاةِ الفاشيِّينَ، بمثابةٍ أو بأخرى، قبلَ فَوَاتِ الأوَانِ، وقبلَ أنْ يُرْغَمَ أيٌّ منهم على شَقِّ عَصَا الطَّاعةِ والاتِّزَانِ، وذاك في لحظةٍ عِتْرَةٍ طَفُورٍ من لحظاتِ العُنُودِ والطَّيَشَانِ. ذلك لأنَّ هذا «الإنقاذَ الأَرْيَحِيَّ» المُتَدارَكَ والمُتَدارَسَ بالعَيْنِ كانَ، ومَا زالَ، جزءًا لا يتجزَّأُ من سياسةٍ غَزَوَانِيَّةٍ، أو حتى إمبرياليةٍ أو استعماريةٍ، قديمةٍ قِدَمَ التاريخِ البشريِّ الدَّامِي نفسِهِ، هذا التاريخِ الذي يُرِينَا جَلِيًّا، في جملةِ مَا يُرِينَا، كيفَ أنَّ الحَاكِمَ المغوليَّ الهمجيَّ هولاكو كانَ يَسْتَحْيِي استحْيَاءً «خَيِّرِيًّا» كلَّ طاغيةٍ فاشيٍّ وَضِيعٍ من رَهْطِ أولئك الطُّغاةِ «اللامُسْتَعْصِمِينَ باللهِ»، أو حتى «المُسْتَعْصِمِينَ بالشيطانِ»، عَصْرَئِذٍ، أولئك الطُّغاةِ الفاشيِّينَ الوُضَعاءِ الذين كانوا يُسَهِّلُون عليهِ (أي على هولاكو بالذاتِ) ارتكابَ الجرائمِ والمجازرِ الوَحْشِيَّةِ والحُوشِيَّةِ في بلادِ العراقِ وبلادِ الشامِ على حَدٍّ سِوًى، في بواكيرِ النصفِ الثاني من القرنِ الثالثَ عشرَ. ومَنْ مِنْ مَعْشَرِ أولئك الرَّائِينَ الحُصَفَاءِ لا يدركُ، في هذا السياقِ الدَّامِي ذاتِهِ، ذينك التحمُّسَ والتلهُّفَ اللذين كَانَا إذَّاك يعتريانِ كِيانَ هولاكو عَيْنِهِ كلَّ الاِعْتِرَاءِ إبَّانَ مراسلاتِهِ الاستجدائيةِ، أو حتى الاستخذائيةِ، مع «آمِرِهِ» الملكِ الفرنسيِّ لويس التاسع سنةَ 1262، فِيمَا يتبدَّى – وذلك من أجلِ غايةٍ أشدَّ عدوانيةً وحتى أشدَّ بَعْوًا وبَغْيًا وشهوانيةً في نفسِ مَنْ تنقَّبَ يومَئِذٍ بنِقابِ «يعقوبَ» عن قَصْدٍ وعن عَمْدٍ بإزاءِ البابا ذاتِهِ، ألا وهي: غزوُ مدينةِ القدسِ بالذاتِ (أي بعدَ غزوِ مدينةِ بغدادَ سنةَ 1258، وكذاك غزوِ مدينةِ دمشقَ تاليًا سنةَ 1260)؟ وتمامًا مثلمَا هي الحَالُ ومثلمَا هو المآلُ في تلك السياسةِ الإمبرياليةِ والاستعماريةِ الأكثرِ اِئْتِلافًا بالتَّسَمِّي التاريخيِّ، «فَرِّقْ تَسُدْ» Divide Et Impera في الأصلِ اللاتينيِّ أصلاً، فإنَّ سياسةَ مَا يُمْكِنُ تعريفُهَا الآنَ بالسياسةِ الإمبرياليةِ والاستعماريةِ الأكثرِ إسْهَابًا بالتَّعَدِّي المُعْجَمِيِّ، «أنْقِذْ طاغيةً فاشيًّا عَمِيلاً مُفِيدًا إنقاذًا أَرْيَحِيًّا تَسْتَمِرَّ اسْتِمْرَارًا في ذاتِ السِّيَادِ وفي ذاتِ السَّيْدُودَةِ»،ِ إنَّما هي بالتأكيدِ الوَكِيدِ سياسةٌ لَاإنسانيةٌ لَاإيثاريَّةٌ لَا تأخذُ بعَيْنِ الاعتبارِ، أولاً وآخرًا، سِوى مَا يَجْنِيهِ عَيْنُ الغازي أو عَيْنُ المُسْتَعْمِرِ جَنْيًا من ثِمَارِ أَتْعَابٍ لَهَا اعتبارُهَا الاتِّجَارِيُّ والارتزاقِيُّ الخاصُّ، وذاك من جرَّاءِ هكذا «إنقاذٍ» يظهرُ بمظهرٍ «أَرْيَحِيٍّ»، لا بلْ «خَيِّرٍ»، وحسبُ أمامَ العَالَمِ بأسرِهِ – حتى لو لمْ يَحِنْ للطُّغاةِ الفاشيِّينَ المعنيِّينَ بعدُ أن يتعلَّموا من ذٰلِكَ الغَبَاءِ القَهْرِيِّ التَّكْرَارِيِّ الذي قدْ عَمِيَ، أو قدْ تَعَامَى، بِهِ فَلُّ أسلافِهِمْ من الطُّغاةِ الفاشيِّينَ «الأشاوِسِ»، وقدْ وَاجَهُوا إذَّاك بالقوةِ أو بالفعلِ، أو حتى بكِلَيْهِمَا، مَا وَاجَهُوهُ بالإتْبَاعِ من عَوَاقبَ وخيمةٍ، إمَّا إِقصاءً أو اعتقالاً أو حتى إعدامًا رَسْمِيًّا أو قتلاً هَمَجِيًّا.
مِنْ هنا تحديدًا، يتبدَّى كلُّ سياسيٍّ أو سياسيَّةٍ «مُنَظَّمَيْنِ» مُعَارِضَيْنِ للنظامِ الطُّغيانيِّ الإجراميِّ الحاكمِ في سوريا، على سبيلِ المثالِ لا الحَصْرِ، يتبدَّيانِ حتى أشدَّ غباءً وأشدَّ غباوةً من أولئك الطُّغاةِ الفاشيِّينَ المعنيِّينَ أنفسِهم حينما يُحاولانِ، طَوْعًا أو كَرْهُا، أنْ يَسْتَصْرِخَا كلَّ الاِسْتِصْرَاخِ «ضميريَّةَ» الغربِ «الديمقراطيِّ» وأنْ يَسْتَنْجِدَا كلَّ الاِسْتِنْجَادِ بـ«إنسانيَّةِ» هذا الغربِ مِنْ أجلِ إنقاذِهِمَا وإنقاذِ ذَويهِمَا (على مبدأِ «النفسُ والأقربُونَ أولى بالمعرُوفِ»، إنْ جازَ القَوْلُ)، أولاً، وكذاك مِنْ أجلِ إنقاذِ مَنْ يظنَّانِ أنهُمَا يمثِّلانِهِمْ أيَّمَا تمثيلٍ مِنَ الشعبِ السوريِّ الأعزلِ، ثانيًا، مِنْ أجلِ إنقاذِهِمْ مِنْ آفاتِ القتلِ البهيميِّ والدمارِ الجحيميِّ والتهجيرِ الجماعيِّ التي يقترفُها بحقِّهم دونما انقطاعٍ هكذا نظامٌ طُغيانيٌّ إجرَاميٌّ طائفيٌّ فُلوليٌّ خالٍ كلَّ الخُلوِّ من أيةِ سِمَةٍ إنسانيَّةٍ أو أيةِ سِمَةٍ ضميريَّةٍ، وعلى مرأىً ومَسْمَعٍ من العَالَمِ القريبِ والعَالَمِ البعيدِ كُلِّيًّا وكُلِّيَّةً، بِمَا في هذا العَالَمِ الأخيرِ من هكذا غربٍ «ديمقراطيٍّ»، وغربٍ «إنسانيٍّ»، وغربٍ «ضميريٍّ»، بلحمِهِ وشحمِهِ. ومِنْ هنا تحديدًا، أيضًا، يتجلَّى التَّمَادِي الصَّارِخُ والفاضِحُ في أشكالِ الكَذِبِ والنفاقِ والوُصُولِ والاِنتهازِ وغيرِهَا من تيك الأشكالِ الزَّرِيَّةِ التي تُسْفِرُ بالطبعِ عن ازدواجيةِ هذا الغربِ «الديمقراطيِّ» فضلاً عن توصِيفَاتِهِ الزَّيْفِيَّةِ الأخرى في نظرتِهِ «المُثْلَى» تلك إلى بلدانِ مَا يُصَنِّفُهُ بـ«العَالَمِ الثالثِ»، كَمَا ذُكِرَ آنفًا – وعلى الأخصِّ فيما لهُ مِساسٌ بذلك التناقضِ الأَشَدِّ صَريخًا والأَحَدِّ افتضاحًا بينَ مَا قدْ صَرَّحَ بهِ كلٌّ من الجانبَيْنِ الأمريكيِّ والبريطانيِّ من تصريحَاتٍ تبدو في الظاهرِ جِدَّ جَادَّةٍ حولَ ذلك التَّعَامُلِ «الإنسانيِّ» و«الضَّميريِّ» مع الموضوعِ السوريِّ في حدِّ ذاتِهِ، وبالذاتِ في هذِهِ المرحلةِ المُؤْلِمِ أيَّمَا إيلامٍ والمُوجِعِ أَيَّمَا إيجَاعٍ من تاريخِ سوريا الحديثِ. وباختصارٍ شديدٍ، فإنَّ الغربَ «الديمقراطيَّ» هذا المتمثِّلَ في كلٍّ من جانبَيْهِ الأمريكيِّ والبريطانيِّ (ودُونَمَا غضِّ الطَّرْفِ كُلِّيَّةً عن جانبِهِ الفرنسيِّ بَتَاتًا) إنَّما كانَ، ولَمَّا يَزَلْ، يسْعَى، بكلِّ مَا أوتيَ من قوةٍ ودُرْبَةٍ وحُنْكَةٍ، إلى إبقاءِ النظامِ الطُّغْيَانيِّ الإجراميِّ الحاكمِ في سوريا على قيدِ الحياةِ أطولَ مَا يُمْكِنُ زمانًا وحتى مكانًا، لا لأجلِ سَوَادِ، أو حتى «زَرَاقِ»، عيونِ أزلامِ هذا النظامِ الطُّغْيَانيِّ الإجراميِّ، بلْ لأجلِ «ضَرْبِ عصفورَيْن بحجرٍ واحدٍ»، كَمَا يقولُ المثلُ الصبيانيُّ الأهوجُ: فمن طرفٍ أوَّلَ، لأجلِ استخدامِ هؤلاءِ الأزلامِ بمثابةِ كلابِ حِرَاسَةٍ طَيِّعَةٍ وفيَّةٍ للحفَاظِ على مَصَالحَ أو مَنَافِعَ إمبرياليةٍ واستعماريةٍ توسُّعيةِ لم تعُدْ خافيةً على أحدٍ. ومن طرفٍ آخرَ، وهو الأهمُّ هٰهُنَا، لأجلِ تَمْيِيعِ وتَمْوِيهِ فَحْوَى تيك العلاقةِ الجَهْريَّةِ، أو حتى السِّرِّيَّةِ، الشائكةِ بينَ تلكَ الأنظمةِ الغربيةِ الدَّخُولِ بشتى «ديمقراطيَّاتِهَا» و«ليبراليَّاتِهَا» وبينَ هذِهِ الأنظمةِ «العربيةِ» الذَّلولِ بسَائرِ ديكتاتوريَّاتِهَا وأوتوقراطيَّاتِها، أيَّةً كانت. على هذِهِ الشاكلةِ الشُّؤمَى، إذن، تتجسَّدُ طامَّةُ الطَّامَّاتِ لكيمَا تصُبَّ جَامَ وَبَالِها المُضَاعَفِ ازْدِوَاجًا على بناتِ وأبناءِ هذا الشعبِ السوريِّ الأبيِّ على مَدَى أكثرَ من خمسينَ عامًا لِزَامًا، كمثلِهِم بطبيعةِ الحَالِ من بناتِ وأبناءِ غالبيةِ الشُّعُوبِ المستعمَرَةِ في الماضي البعيدِ والقريبِ – ناهيكُمَا، والمآلُ هُنَا، عن كلِّ أنواعِ الشرورِ والآثامِ والسيِّئاتِ والمَعَاصِي التي أسفرتْ، في واقعِ الأمرِ، عن تصريحَاتِ وتفعيلاتِ كلٍّ من الجانبَيْنِ الروسيِّ والإيرانيِّ حتى هذِهِ اللحظةِ بالذاتِ، تلك التصريحَاتِ والتفعيلاتِ التي تأجَّجَتْ حَادَّةً بتشكيلِ «سوريا التصحيحِ والصُّمودِ والتصدِّي» دولةً بالعُنُوِّ بمَثَابَةِ «مَحْمِيَّةٍ إيرانيةٍ» Iranian Protectorate في بدايةِ المطافِ، والتي تأوَّجَتْ في تحويلِ هذِهِ الـ«سوريا التصحيحِ والصُّمودِ والتصدِّي» دولةً بالعُتُوِّ إلى مَثَابَةِ «مَحْمِيَّةٍ روسيةٍ» Russian Protectorate في نهايةِ المطافِ، وحتى معَ اشتدَادِ أوَارِ تلك الحربِ الروسيَّةِ-الأوكْرَانِيَّةِ التي دخلتْ في شهرِهَا الثاني من عَامِهَا الثاني في هذا الآنِ وهذا الأوَانِ.
وبِالرَّغْمِ من كلِّ مَا تقدَّمَ من شَرْحٍ حتى دَرَكاتِ هكذا هَاوِيَةٍ، يبدو أنَّ الطُّغَاةَ الفاشيِّينَ المعنيِّينَ بهذِهِ الأنظمةِ «العربيةِ» المَأْجُورَةِ، في الصَّميمِ، يُصِرُّونَ بكلِّ حِرَانٍ على عَرْضِ واستعراضِ دَاءِ ذٰلِكَ الغَبَاءِ القَهْرِيِّ التَّكْرَارِيِّ، بتوصِيفَيْهِ الفِطْرَانِيِّ والخِبْرَانِيِّ (بالمعنى المُكْتَسَبِيِّ) ذَيْنِك، حتى لو تمثَّلَ لَهُمْ قدَّامَ أعيُنِهِمْ، مرَّةً تِلْوَ مرَّةٍ، ذلك التَّمَادِي الفَاقِعُ في أشكالِ الكَذِبِ والنفاقِ والوُصُولِ والاِنتهازِ وغيرِهِا التي تَنْجُمُ عن ازدواجيةِ الغربِ «الديمقراطيِّ» بتوصِيفَاتِهِ الزَّيْفِيَّةِ الأخرى في نظرتِهِ «المُثْلَى» تلك، مثلَمَا تَمَّ ذِكْرُهُ قَبْلاً. ذلك لأنَّ هذِهِ النظرةَ الازدواجيةَ لم تتبيَّنْ في موقفِ هذا الغربِ «الديمقراطيِّ» المخادعِ والمُضَلِّلِ إزاءَ طُغاةٍ فاشيِّينَ عُتاةٍ من أمثال بشار الأسد ومعمَّر القذافي (قَبْلَ قَتْلِهِ الفَظِيعِ) فحسبُ، بل تبيَّنتْ كذاك في موقفِهِ المخادعِ والمُضَلِّلِ إزاءَ طاغيتَيْنِ فاشيَّيْنِ عَتِيَّيْنِ آخرَيْنِ منذُ أوائلِ النصفِ الثاني من القرنِ العشرينَ الفائتِ، ألَا وهُمَا: محمد رضا بهلوي وصدام حسين (التكريتي). وفي هذا مَا يُبيِّنُ كيفَ أنَّ دَاءَ ذٰلِكَ الغَبَاءِ القَهْرِيِّ التَّكْرَارِيِّ بالذاتِ يُعيد نفسَهُ إعَادَةً «قَهْرِيَّةً»، بالفعلِ الحتميِّ الوَكيدِ، قُدَّامَ تلك الذرائعِ الإستراتيجيةِ والبراغماتيةِ التي تتولَّى تَصْنِيعَهَا أمريكا في الجَهْرِ بقَدْرِ مَا تتولَّاهُ كذاك في السِّرِّ، على سَبيلِ التمثيلِ. ومَنْ مِنْ أولئك الرَّائِينَ الحُصَفَاءِ تَخْفَى عليهِ الآنَ حقيقةُ مَا قَامَتْ بِهِ «وكالةُ الاستخباراتِ المركزيةُ» CIA في مَاضِيهَا التَّلِيدِ ذاك «مُشْرِقًا ومزدهرًا»، هذِهِ الوكالةُ الجَمُوحُ التي عَمَدَ أزلامُهَا وعُمَلاؤُهَا (وكذاك نُظرَاؤُهُمْ مِنَ البريطانِيِّينَ) في العَامِ 1953 إلى تيك الإطاحةِ «البطوليةِ» المُثْلَى بحكومةِ إيرانَ التي كانتْ قَدِ انْتُخِبَتْ اِنْتِخَابًا ديمقراطيًّا زَمَانَئِذٍ، فعَمَدُوا من ثَمَّ إلى إلحَاحِهِمْ على إبقاءِ نظامِ الشاهِ الديكتاتوريِّ والأوتوقراطيِّ بينَ عشيةٍ وضُحَاهَا؟ ومَنْ مِنْ أولئك الصَّاغِينَ الفُصَحَاءِ تَخْفَى عليهِ الآنَ أيضًا حقيقةُ مَا قَامَتْ بِهِ أمريكا ذاتُهَا بمَثَابَةِ راعيةٍ حَرِيصَةٍ كلَّ الحِرْصِ لهكذا وكالةٍ، هذِهِ الدولةُ «الديمقراطيَّةُ» التي جَدَّ سَاسَتُهَا وزبانيتُهُمْ جَادِّينَ في تصنيعِ هكذا طاغيةٍ فاشيٍّ عَتِيٍّ بكلِّ «تَفانٍ وإخلاصٍ وإخَاءٍ»، فَجَدُّوا جَادِّينَ من ثَمَّ في تَنْصِيبِهِ شاهًا فَهْلَوِيًّا مُحَنَّكًا على إيرانَ، وفي إغراقِهِ السَّخِيِّ بكلِّ أشكالِ الدَّعْمِ الضَّرُوريِّ لكيمَا يؤدِّيَ دورَهُ المرسُومَ بعنايةٍ شديدةٍ على أكْمَلِ وَجْهٍ، على الرَّغْمِ من أنَّ سِجِلَّهُ فيمَا يتعلَّقُ بحقوقِ الإنسانِ تحديدًا كانَ من أقبحِ وأشنَعِ سِجِلَّاتِ ذاك الزمانِ قاطبةً؟ ولٰكِنْ، ويَا لَلْعَجَبِ العُجَابِ مَرَّةً أُخرى، فمَا إنْ أطاحتْ أطيافُ الثورةِ الإيرانيةِ (ذاتِ الإرهاصاتِ التقدُّميةِ، في البَدْءِ) بهذا الشاهِ الطاغيةِ الفاشيِّ العَتِيِّ في العَامِ 1979، حتى تحوَّلتْ أمريكا «الديمقراطيَّةُ» هذِهِ، من خلالِ تصنيعِهَا الخفيِّ ومن جَرَّاءِ إغراقِهَا السَّخِيِّ بالمَثَابَةِ ذاتِهَا، إلى «شاهٍ» طاغيةٍ فاشيٍّ عَتِيٍّ آخَرَ في الجوارِ، اِسمُهُ صدام حسين (التكريتي) بالعَيْنِ، «شاهٍ» طاغيةٍ فاشيٍّ عَتِيٍّ لا يقلُّ سجلُّهُ فيمَا يخصُّ حقوقَ الإنسانِ قباحةً وشناعةً عن سجلِّ سابقِهِ الفَهْلَوِيِّ الإيرَانِيِّ ذاك. وكانَ لصدام حسين دورُهُ المرسُومُ بعنايةٍ شديدةٍ، بدورِهِ هو الآخَرُ، حتى أنَّ إغراقَهُ الأمريكيَّ السَّخِيَّ بكلِّ أنواعِ الدعمِ اللازمِ ازدادَ أضعافًا مضاعفةً إبَّانَ حربِهِ الشعواءِ المدروسةِ بعنايةٍ أشدَّ على إيرانَ أيضًا. فمنذُ بَيَانِ تلك الإرهاصاتِ التقدُّميةِ التي أخذتْ في الأُفُولِ شيئًا فشيئًا، وهذا الغربُ «الديمقراطيُّ» يبتغِي، برأسِ حربتِهِ الأمريكيةِ في الحَيِّزِ الأوَّلِ، فَرْضَ شتَّى مَا يفكِّرُ فيهِ من عقوباتٍ اقتصَاديةٍ على إيرانَ خاصَّةً، وذلك سعيًا وراءَ إضعافِهَا وإنهاكِهَا على الصَّعِيدِ الاقتصَاديِّ دونَ سِوَاهُ، قبلَ كلِّ شيءٍ (حتى وإنْ كانتْ، أو صَارَتْ، «صَديقًا» خَفِيًّا من وراءِ الكوَاليسِ). وليسَ المَرَامُ السَّدِيدُ من تلك العملياتِ العسكريةِ ذاتِ المَنْهَجَةِ اللافتِ للعِيَانِ المحليِّ والدوليِّ سَوَاءً بسَوَاءٍ – تلكَ العملياتِ التي قامَ بهَا هذا الغربُ «الديمقراطيُّ» كذاك برأسِ حربتِهِ الأمريكيةِ في أغلبِ تيك الدولِ الجِوَارِ جغرافيًّا حتى هذِهِ الأيامِ، ليسَ في واقعِ الأمرِ سِوَى مَرَامِ العملِ الدؤوبِ على زعزعةِ المنطقةِ المحيطةِ بإيرانَ ذاتِهَا، وذلك سعيًا هذِهِ المَرَّةَ وراءَ تهديدِ أمْنِهَا واستقرارِهَا على الصَّعِيدِ الوُجُودِيِّ (حتى وإنْ كانتْ «صَديقًا» خَفِيًّا كذاك)، بعدَ كلِّ شيءٍ.
بهذِهِ المثابةِ الجليَّةِ
الشُّؤمَى، إذن، ينجلي ذلك التَّمَادِي الفَاقِعُ في أشكالِ الكَذِبِ والنفاقِ
والوُصُولِ والاِنتهازِ ومَا أشبهَ معهودَةً «تاريخيًّا» مِنْ طَرَفِ هذا الغربِ
«الديمقراطيِّ» الازدواجيِّ عَيْنًا، فينجلي من ثَمَّ برأسِ حربتهِ الأمريكيَّةِ
المرئيَّةِ، أو حتى اللامرئيَّةِ، حَسْبَمَا تقتضيهِ الحَالُ والمَحَالُّ. فإيرانُ
الفقيهيَّةُ (العسكريَّةُ)، رغمَ كلِّ مَا تقترفُهُ في المَسْرَحِ الدموي
السُّوريِّ من شُرورٍ وآثامٍ وسيِّئاتٍ ومَعَاصٍ ليسَ لهَا سِوَى أنْ تمهِّدَ
السَّبِيلَ أيَّمَا تمهيدٍ لِهَيْمَنَةِ هذا الغربِ «الديمقراطيِّ» الازدواجيِّ،
فإيرانُ الفقيهيَّةُ هذِهِ لَمْ تزَلْ في أعْيُنِهِ وأعْيُنِ أحلافِهِ ذلك
«العدوَّ الأكبرَ» – أو هٰكذا تتبدَّى، مثلمَا أنَّهُ (أي الغربُ الأمريكيُّ
بالذاتِ) لَمْ يزَلْ في عينَيْهَا ذلك «الشيطانَ الأعظمَ» في المقابلِ، كَمَا
يتردَّدُ في التعبيرِ السياسيِّ الواقعيِّ الدارجِ، هٰهُنَا وهٰهُنَاك. وتلك
الاتفاقيةُ التي تتواجَدُ كَيْمَا تشملَ في الأصْلِ مَسْأَلَةَ البرنامجِ النوويِّ
الإيرانيِّ الشهيرِ، والتي تتراوحُ بينَ الإبْرَامِ كمَا في عهد باراك أوباما
وبينَ الإفْسَاخِ كمَا في عهدِ دونالد ترامب، مستمرَّةً هٰكذا حتى في عهدِ جوزيف
بايدن، إنْ هي، أَوَّلاً وآخِرًا، إِلاَّ ذريعةٌ إستيراتيجيةٌ براغماتيةٌ تَمَّ
التذرُّعُ بِهَا مِنْ أجْلِ مَنْعِ إيرانَ مِنْ أَنْ تحتازَ أيًّا من المَوَادِّ
الخَامِ وغيرِ الخَامِ اللازمةِ لِتَصْنِيعِ السِّلاحِ النوويِّ، من جهةٍ أولى،
ومِنْ أجْلِ رَدْعِهَا (رَدْعِ إيرانَ) عَنْ أنْ تبذلَ أيًّا مِنَ الجُهُودِ
والمَسَاعِي الفقيهيَّةِ المُسْتَتِرةِ التماسًا للعملِ الكَدُودِ على التسلُّحِ
النوويِّ الفعليِّ، من جهةٍ أُخرى – وَلَئِنْ كَانَتْ خَطِيئَةُ الإِنْسَانِ
الكَبِيرَةُ هِيَ الغَبَاءُ بعَيْنِهِ، كَمَا يَقُولُ الأديبُ الإيرلنديُّ الذكيُّ
أُوسْكار وايْلْد، فَإِنَّ خَطِيئَةَ هٰذَا الإِنْسَانِ الكُبْرَى، إِذَنْ،
إنَّمَا هِيَ إِعَادَةُ هٰذَا الغَبَاءِ بكَمِّهِ وكَيْفِهِ بالحِذْفَارِ
والحَذَافِيرِ. فَالتَّارِيخُ لَيْسَ هُوَ الذي يُعِيدُ نَفْسَهُ حَقِيقَةً، كَمَا
يَتَمَنْطَقُ المُؤَرِّخُونَ والمُتَأرِّخُونَ، على مَرِّ العُصُورِ: إِنَّهُ
الإِنْسَانُ، وَلا رَيْبَ في هٰذَا، لَهُوَ الذي يُعِيدُ غَبَاءَهُ، بَيْنَ
فَيْنَةٍ وَأُخْرَى شَجِيَّةٍ! – ولهٰذَا الكَلَامِ بَقِيَّةٌ!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق