أنا بسطال أسود اللون. كنت قد ولدت في أحد المصانع الروسية عام 1980. وما هي
إلا شهور قليلة قضيتها في عتمة المخزن حتى نقلت أنا ورفاقي إلى أحد مراكز التدريب
في الجيش العراقي. وزعونا على ملتحقين جدد في أيامهم الأولى بالعسكرية، فكنت من
نصيب شاب مدلل بين أخوات خمس.
كان صاحبي يكره العسكرية كُرهاً شديداً، فيرفع وجهه للسماء فجر كل يوم يستقيظ
فيه للتدريب ليغدق شتائمه على كل ما له علاقة بالجيش. كان إلى جوار معسكر التدريب
ثمة سجن كبير تقع بمحاذاته وحدة طبية، فكان صاحبي يتسلل خلسة من الفصيل بينما
الضباب يغطي ساحة العرضات أو التفتيش ليذهب لقضاء بعض الوقت مع صديق له يعمل في
الوحدة الطبية.
كانا يجلسان هناك ويدخنان السجائر بإفراط بينما عشرات من أجساد الجنود المجمدة
ببساطيلها تبدو مثقبة بالرصاص وهي تتمدد دون حراك خلف مشمعات المجمدات المحيطة
بالمكان. كم كنت أتعذب وأنا انظر إلى قدر رفاقي ومصيرهم الغامض بينما أجسادهم
تتمدد في الظلمة والدماء تتجمد على أعناقهم؟ وددت لو يبقى صاحبي يهرول بي إلى
الأبد حتى لو تمزقت قُطِعاً دون ان نذهب لزيارة الوحدة الطبية.
كان صاحبي بقدم ذي رائحة منتنة بسبب نوع من الفطر الأبيض كان ينتشر بين
أصابعه، إضافة إلى ذلك كان لا يحب أن يقص أظافر قدميه مما جعل أي تماس حقيقي بين
جسدي وجسده يفضي به إلى السخط علي، تحملت كل ذلك كجزء من تركيبة قدري، غير أن ما
كان يغيظني أكثر هو استنكافه من ارتدائي حين يذهب للقاء حبيبته، كذلك في أوقات
التنزه في الأسواق وحضور الحفلات والذهاب للمكتبة. ورغم كل ذلك كنت أشعر بسعادة
غامرة حينما ينزعني ويرميني في باحة البيت، كانت أخواته قد توزعن الاهتمام بي على
مدار الأسبوع يوما لكل واحدة، عدا تينك الليلتين اللتين يقضيهما في الواجب.
كنت أعيش لحظات رائعة بين أصابعهن الرقيقة وهي تزيح الغبار عن جسدي وتلمعني.
إلا أن سعادتي لم تدم طويلاً فما هي إلا أسابيع قليلة حتى نقل صاحبي إلى الحرب في
أحد الجبال. هناك تغيرت حياتي جذرياً، كنا أنا ورفاق لي نقضي ساعات طويلة في البرد
القارس إضافة إلى ساعات التسلق المرهقة في الواجبات ومع كل هذا ظل صاحبي مشمئزاً
مني دون اعتبار لأي رفقة بيننا!
وفي إحدى الليالي بينما رقائق الثلج تتساقط على جسدي تعرضنا للقصف، سقطت قذيفة
على الملجأ الذي يحتمي به صاحبي ورفاقه فتناثرنا في المكان. لقد فقدت فردتي الأخرى
وهذا ما لم أتوقعه في يوم ما.
أصبحت منكمشاً على نفسي حزناً عليها لفترة من الزمن، شعرت بالذنب كيف أنني منذ
ولادتي إلى الآن لم أشعر بوجود ذلك المخلوق الذي شاطرني كل ذلك الوقت من حياتي.
تركت جسدي يتعرض لرياح شديدة لعلني التقي بها، لكن ذلك بدا مستحيلاً بين تلك
الصخور.
انتظرت ذوبان الجليد. في الربيع مر الكثير من الرعاة، كم كنت أتمنى لو تلتقطني
يد وتخلصني مما أنا فيه من وحدة؟ لقد ضجرت من عزلتي، كنت حين أسمع ثغاءً أو صوتاً
بشرياً تمتلئ عروقي بالإثارة فأتذكر تلك الأصابع الرقيقة التي كانت تهتم بي في بيت
صاحبي. كان حينما يمر بعض الرعاة بالمكان أحاول ان أتماسك محافظاً على هدوئي، إلا
ان جهودي ذهبت أدراج الرياح، كنت في البداية أثير انتباههم، إلا انهم ما ان
يقتربوا مني وتبدأ نظراتهم بكنس المكان دون أمل بالعثور على فردتي الأخرى حتى
يشيحوا بأبصارهم عني وهذا ما يجعلني أتعذب غاية العذاب.
تعرضت لدورات الفصول، لقد تسلقت التجاعيد على وجهي وفقد جلدي نضارته وتمزق
الرباط الذي كان يشد أوصالي. مرت سنوات عديدة عليّ وأنا ما زلت مستغرقاً في أحلام
يقظتي لعل أحد الرعاة يمر بالمكان فيفكر بترقيع شيء ما في بيته ويلتقطني وبهذا
يتحول قدري من بسطال عجوز مرميا بين قمم الجبال إلى شيء آخر ينبض بحياة جديدة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق