ما الذي يمكننا أن نطلبه من الفلسفة؟ - محمد أبو هاشم محجوب - مدارات ثقافية

احدث المواضيع

الثلاثاء، 6 يونيو 2023

ما الذي يمكننا أن نطلبه من الفلسفة؟ - محمد أبو هاشم محجوب


يمكن للبعض أن يكتفوا بالتعميم والسّهولة .. ولكنه لا يجوز لهم أن يفرضوها معيارا لما يقال ولما يتعقَّل. هل سنُسكت مستقبلا من يطرح علينا سؤالا فلسفيا عميقا بدعوى أنه لا يستساغ من قبل الفهم العام؟ هل سنغلق كتب الفلسفة ونفتح كتب الصّور المتحركة بديلا عنها؟ ألا يمكننا أن نجمع بين هذا وذاك معترفين لكلّ بوقته وخصوصيّته ومخاطَبيه؟ ما مطلوب غير المتفلسفين من الفلسفة : أن يحددوا ماهيتها أم أن يستفيدوا منها ؟ هم طبعا يطلبون الاستفادة منها: ويعني هذا أن نقدمها لهم كما هي ووفق جوهرها. أما إذا أصبح تحديد جوهر الفلسفة يتم من خارجها فلماذا نواصل الحديث عن الفلسفة أصلا ؟ إن الفلسفة متاع عام، ولكن في حدود، مثلما أن الحساب متاع عام: أعني في حدود أيضا. وتلك الحدود ليست بحاجة في تعليمها أن نخصص لها المدارس والمعلمين. أما متى أردنا تطوير تقنية الحساب وتنميته في حدود أعمق من مجرّد العمليات اليومية فإنّ الحساب يكفُّ عن أن يكون متاعا عامًّا، ويصبح شأن تعليم، وقواعد، ومناهج.. لقد غيرت الفلسفة قلوب كل الذين تعلّموها ولو كان ذلك لسنة واحدة في حياتهم .. نحتت لهم كيانا جديدا ووجدانا أكثر استنارة .. وهوّنت أمامهم ما كانوا يستعظمونه من الأشياء حدّ العقدة النفسية، وجرّأتهم على طرق موضوعات كانت ممنوعة عليهم لأنّ التقاليد عودتهم على الانحناء أمامها .. هل نترك كل مغانم الفلسفة من أجل تبسيطها وتهوينها؟ على الذي يريد أن يستفيد من الفلسفة أن يبذل جهدا من أجل ذلك تماما كما ينبغي على من يريد أن يتعلم الفيزياء أن يقبل تعلم قواعدها وارتياد مخابرها .. ولكنّ للفلسفة قدرة على التفهيم لأنها هي البيداغوجيا .. وهي علم المنهج .. وهي التفكير في الأسس .. أم ترانا نسينا ؟ انظروا إلى وسائل التبسيط: إنها وسائل ترغيب .. ووسائل تشجيع ووسائل تطوير للتفكير بخلق إشكاليات جديدة من منطلق جوهر التفكير الفلسفي الذي يستشكل ويبحث عن المعنى غير الظاهر وينقد ويشك ويحفر ويفكّك: إنّ الخروج بالفلسفة من الجامعة لا يعني ضياع جوهرها وفقدان هويتها وإنما يعني جعلها في المتناول. والمتناول ليس التقاطا لكلّ شيء على أنه فلسفي ، وإنما تقريب للفلسفي بوجوه التقريب الممكنة والتي يمكن أن نستنبط المزيد منها يوميا: من خلال البحث عن الفلسفي في ما يبدو أبعد الوضعيات عنها، وفي نفي قداسة موضوعات بعينها عن الطرق الفلسفي، وفي الحفر في سكوتنا وصمتنا ومألوفنا عن إضمارات فلسفية غير ناطقة، في إنطاقها بل في إصراخها بما يبدو بديهيا فيها وليس بديهيا، وفي تكذيب ظنوننا وعاداتنا. إن كل ما يوجد فلسفي: ولكنه فلسفي بشرط بنائه وليس بالتقاطه كما هو لطمأنة الناس. من لم تكن الفلسفة إلا طمأنة له فليتأكد بأن ما وصله منها ليس فلسفة .. لا تبحث الفلسفة عن طمأنة الناس. إنها تبحث عن مواضع الذعر فيهم وعن مواطن الخوف والوهم، وعن مكامن الوحشية والقسوة واللاإنسانية فيهم .. إنها تطارد أوهام الهوية الخانقة فيهم، وتتقصى صوامت الريبة من الغير، وتقلق سهولة تقبل الخطابات واستبداهها .. لماذا؟ لرفعها وترجمتها إلى مستوى الاستفهام الفلسفي. تعلمنا الفلسفة أن نضطلع بأنفسنا على نحو يرقى بنا ويهذّبنا .. تعلّمنا أن نجد في اللعب أظهر أحوال الجد، وفي اليومي أنتأ أحوال الاستثنائي، تعلمنا أن نتمهل فنقبل إنفاق بعض الوقت في الفهم: إنها ترتقي بنا، وتفتحنا على مساءلة جديدة للخطابات التي حولنا: خطابات السياسة ومغالطاتها، وخطابات الرسم، والشعر، وخطابات السرد، وخطابات العلم التي تعمى عن استتباعاتها: الفلسفة هي الجرّاف الحقيقي لما استقرّ فينا من القناعات الباهتة، والمسرح الحقيقي لما احتبس فينا بفعل الأحكام المسبّقة. للفلسفة مهمة لا يمكن أن نغفلها باسم التّعميم وضرورات الإقبال الجماعي عليها.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق