إن السؤال الذي أريد إيضاحه هو إذا ما كان في استطاعتنا (مؤرخين أم
آثاريين أم باحثين)، تحرير الحقائق التاريخية المتعلقة بتاريخ فلسطين القديم، من
ماضي خيالي فرض علينا بواسطة خطاب الدراسات التوراتية؟ هذا، كما أظن، هو السؤال
المركزي لإعادة اكتشاف وكتابة تاريخ فلسطين القديم.
يقول د. معاوية إبراهيم، في دراسته، "فلسطين: من أقدم العصور
إلى القرن الرابع الميلادي": يواجه الباحث صعوبات كبيرة في كتابة تاريخ
فلسطين القديم لقلة المصادر المكتوبة، خاصة قبل الألف الثاني قبل الميلاد، ولأن
اعتماده الرئيسي هو على المكتشفات الأثرية التي تملأ آلاف المجلدات وعشرات
الدوريات. وتعتمد هذه المكتشفات في تفسيرها على منطلقات المنقبين وخلفياتهم
وأهدافهم. وإلى جانب الغايات العلمية، ذهب كثيرون لتفسير المادة الحضارية تبعاً
لذلك، فجاءت نتائج البحث مشوهة أبعدت عنها قوة الشخصية الحضارية الفلسطينية ودورها
في الحضارة الإنسانية، وألصقت مقومات هذه الحضارة لشعوب وقبائل مهاجرة إلى فلسطين
أحياناً، أو أنها جعلت قوة غيبية خفيّة مسؤولة عن هذا الإنجاز الكبير، وأنكرت بذلك
أن يكون الشعب الفلسطيني الذي عرف كيف يتكيف مع بيئته الصانع الفعلي لهذه الحضارة،
على الرغم مما واجه من تحديات.
لقد جرى تغيب الهوية الفلسطينية العربية عن كل
المكتشفات الآثارية، وصار كل مكتشف أثري ينسب لشعب جديد، وحضارة جديدة، ولغة
جديدة، وفرض علينا قسرياً تسميات ساذجة من "الكتاب المقدس".
في هذا الصدد يقول، المفكر الفرنسي، بير روسي، في كتابه "مدينة
إيزيس" ، التاريخ الحقيقي للعرب": أليس هذا "هوسنا المحب للخصام
الذي بدأ تفريقه شعباً إلى شعوب أقرباء كالمؤابين والمؤدنين أو العموريين،
والكنعانيين، والآراميين، والسوريين ألخ.. ولماذا؟ لأننا نعنى أن نميز فيهم خصومات
عرقية أو طائفية تجبرنا على أن نضع بينهما العبرانيين، وذلك لكي نقدم الدليل بكل
ثمن على صحة العهد القديم".
في هذا السياق، لعب علم الآثار دوراً هاماً، وكان هدفه إيجاد علاقة
بين دولة "إسرائيل الحديثة" والعصر الحديدي "الإسرائيلي"
المزعوم. ونتج عن ذلك أن الطبيعة التعددية لتاريخ فلسطين قد اختفت فعلياً من الوعي
العام، واختفى معها أيضاً التاريخ والتراث الثقافي العربي القديم. كما وجرى انتحال
العديد من المواقع الأثرية والتاريخية الفلسطينية، والأماكن المقدّسة، التي تشكّل
جزءاً لا يتجزء من التراث الثقافي الوطني الفلسطيني، بصفتها "توراتية"
أو "يهودية". في هذه الأثناء، واصل أصحاب وأنصار الخطاب التوراتي
مساعيهم لتهويد وتهجير الذاكرة الفلسطينية.
يقول المؤرخ البريطاني، كيث وايتلام، في كتابه "تلفيق إسرائيل
التوراتية طمس التاريخ الفلسطيني": "إن الصراع حول الماضي إنما هو دائما
صراع من أجل الهيمنة والسيطرة في الحاضر".
يلاحظ الباحث الأمريكي لورنس دفدسن، في دراسته القيمة
"الآثاريات الكتابية والصحافة: صياغة الأمريكية لفلسطين في العقد الأول من
الانتداب": "إن علم الآثار في فلسطين، شدد على مواقع العهد القديم. إن
العهد القديم، وبالتالي التاريخ اليهودي القديم في فلسطين (كما هو مصور في
التوراة) هو الذي سعي اللاهوتيون إلى إثبات صحته. وحتى أولئك المسيحيين، الذين
اعتبروا فلسطين وطناً ليسوع، كانوا سيجدون أنفسهم، جراء أتباعهم تغطيت علم الآثار
في فلسطين، أنه قد تمت إعادة توجيههم نحو في فلسطين الملكين داود وسليمان،
وخلفائهم ما قبل المسيحية، رغم بقائها ذات أهمية دينية. ففيما سعي الصهاينة مادياً
إلى تحويل فلسطين إلى وطن قومي يهودي، ساهم عمل علماء الآثار في تحويل فلسطين، على
الصعيد النفسي إلى أرض يهودية".
والملحوظ هنا، أن البحث التاريخي والأثري في بلادنا فلسطين، كما يقول
وايتلام، "ليس مجرد إعادة بناء نزيه للماضي ولكنه يتعلق بموضوع بالغ الأهمية
يتصل بالهوية وميزان القوى المعاصرة".
لقد تم إخضاع المكتشفات الآثارية في المشرق العربي، وبالتالي تاريخ
بلادنا فلسطين، لمصلحة الخطابين، السياسي والكتابي، وهدفهما، بعدما ثبت لنا بأن
"أصول التنقيبات الآثارية الحديثة، منذ دخول نابليون إلى مصر، على أنها مكيدة
دولية، استخدمت القوى الغربية، من خلالها، الماضي الكتابي، والكنوز الأثرية التي
في المنطقة، من أجل سعيها لتحقيق المكاسب السياسية، ولإضفاء الشرعية على مصالحها
الإمبريالية".
يكتب إدوراد سعيد، في كتابه "الاستشراق:
المعرفة، السلطة، الانشاء"، لقد كانت "العلوم كالتاريخ وعلم الآثار
وغيرها ليست إلا أدوات في يد أصحاب القوى ليبسطوا من خلالها هيمنتهم ويبرروا
استعمارهم".
تنبه إلى ذلك، المؤرخ البريطاني، كيث وايتلام ، في
دراسته "إعادة اكتشاف تاريخ فلسطين القديمة" فيقول: "لقد أصبح
تطوير علم الآثار في فلسطين تعبيراً ذا أهمية عن المطامع الإقليمية للقوى
الأوروبية. فاستكشاف المنطقة، ورسم خرائطها، وتسجيل أوابدها القديمة، ووصف سكانها،
وممارساتهم، لم تكن أعمالاً بحثية، نزيهة، ومبرأة من الأغراض الخاصة، مع تشكيلها
مساهمات مهمة على صعيد المعرفة العلمية. وموقف التفوق المتعالي، الذي طبع أسلوب
كتابة التقارير، يتجلى في العديد من تقارير مشاهير الرحالة الكثيرين. فاهتمام
هؤلاء بفلسطين لم يكن صادراً عن اهتمام بالمنطقة، نتيجة لأهميتها الخاصة، بمقدار
ما كان منصباً على حقيقة أنها كانت موقع الأحداث الكتابية. هنا بالذات كانوا
يأملون في الاهتداء إلى جذورهم. ومن حيث الجوهر، كثيرًا ما جرى إفراغ فلسطين،
والتاريخ الفلسطيني من أي معنى حقيقي، حيث جرى "تجريدها" [فلسطين] من
"الصفة التاريخية" كما يقول ملمن، أو "طمسها" [إسكاتها] كما
أقول أنا [وايتلام]
وباختصار، يمكننا القول أننا قادرين (سواء أكانا
مؤرخين أم آثاريين أم باحثين) على كتابة تاريخ فلسطين القديم، إذ نحن تابعنا العمل
على تفكيك الرواية التوراتية، والشروع في الخروج من بوتقة "الكتاب
المقدس" باعتباره تاريخاً. فاليوم الذي يتوقف فيه "الكتاب المقدس"
عن تغذية تاريخنا الفلسطيني، يعدو فيه كتابتنا للرواية التاريخية الفلسطينية
ــ العربية، رواية لها بداية ونهاية؛ أي تمتد من ماضيها القديم إلى حاضرها الحديث،
رواية محررة من إمبراطورية الأفكار التوراتية. ".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق