أصياف البحث عن الكنز - كاظم الحلاق - مدارات ثقافية

احدث المواضيع

الجمعة، 28 يوليو 2023

أصياف البحث عن الكنز - كاظم الحلاق

إن تقال الحقيقة أو لم تُقلْ فإن الحقيقة هي هي؛ فن كينونة الإنسان وكينونة المدن مهما تكن طريقة البوح ومن كان السائل، لكن صبانا الغريب ضاع من بين أيدينا وسط نار الأهواء والمصير المرهق بروح المغامرة دون أن يجد ما يشفي غليله. كان أول الصيف، سيقان النباتات تتمايل وغابات النخيل تمتد أكبر من أن يحيطها البصر في الجهة الأخرى من النهر. يدنو أخي صافي من الشاطئ وهو يصيح: " سومووو، آدوناي، أجيله، ملكوت، أهياه، يا رب الأنهار لكل الأسلاف أقدّم شكري"، ننزع ثيابنا ونقفز في الماء، أشعة الشمس تتساقط مرتعشة على السطح، تتألق المويجات تحت ضربات يديه وهو يسبح بجرأة صوب السفن الغارقة، ثم يدير جسده وينادي عليّ أن أتبعه :" لا تَخفْ، تَقدّم، اسبح فقط لهذا الزورق أو لتلك السفينة"، وحين أدنو من منتصف النهر أراه يبتعد حتى يختفي عن مدى بصري بين الأمواج، أشعر بالخوف وأشرع بالعودة إلى الشاطئ.

حينما كنتُ في الخامسة عشرة من العمر أعتدت أن أسبح مع أصدقائي في نهر العشار بالبصرة. لكنني لم أرَ أخي صافي يسبح معنا أبداً، كان يسبح في النهر الكبير؛ شط العرب. سألني مرات كثيرة أن أسبح معه، إلا أنني كنت أرفض قائلا:" لا رغبة لي في السباحة هناك،أخشى الغرق، أيضا أخاف من سمك القرش الذي يتسلل من مياه الخليج". لقد ضرب القرش ذات يوم أحد أصدقائنا في فخذه، بعد ذلك كف الكثير منا السباحة في نهر شط العرب.

قضى أخي صافي أصيافاً عديدة يعبر النهر سباحة ليبحث في غابة النخيل لإعتقاده بأن كنزا مدفونا هناك. إثر مصادفة من مصادفات الحياة التي لا تصدق لقد أشترى ذات يوم كتابين متشابهين في الشكل اعتقد أنهما يعودان لمؤلف واحد من أحد أرصفة بيع الكتب في منطقة العشار، حسب ما أتذكّر كان عنوان الكتاب الأول" كتاب السحر المقدس لإبراميلن الساحر" والكتاب الثاني "الفجر الذهبي"، كانا يتحدثان عن كنز من الذهب مدفون في غابة نخيل بالبصرة مقابل نهر اسمه عشار أو عشتار. يقترح الكتاب الأول القيام بتأدية طقوس وشعائر معينة، إذا ما عملها الشخص تساعده في العثور على الكنز مثل: رسم نجمة خماسية أو سداسية في الهواء بخنجر من الحديد أو بسبابة اليد إذا لم يتمكن الشخص من امتلاك خنجر وغرز النصل أو السبابة في مركز النجمة وترديد بعض الألفاظ مثل سوموو، أدوناي، أجيله، ملكوت، أهياه؛ كما أن ذكر أسماء بعض الملائكة مثل؛ من أمامي رافائيل ومن خلفي جبرائيل، وعلى يميني ميكائيل، وعلى يساري أورائيل يساعد الشخص على ايجاد الكنز، موضحا أن الخطوة الأولى والمهمة في البحث هي تكييف الأفكار والمفاهيم وفقا لإمكانية الشخص، للاعتقاد أن بعكس ذلك فإن الشخص يخلق أحداثا سلبية عبر قانون السبب والنتيجة. ومن الأفضل للباحث التخلي عن البحث إذا لم يكن في ألفة مع قواه الشخصية الخاصة. كذلك يشير المؤلف في الكتاب إلى كائنات غير منظورة لها صفات العناصر الأربعة؛ أي الهواء، التراب، الماء، والنار. في الأساس هذه العناصر هي الأرضية الأصلية لجميع الأشياء الدنيوية، لا أحد من هذه العناصر يوجد بحالة نقية تماما. إنها تتغير من واحد إلى آخر. التراب ممكن أن يرطّب ثم يذوب ليتحول إلى ماء، والجوهر نفسه ممكن أن يكثّف ليتصلب ويصبح ترابا مرة ثانية، وممكن أن يبخّر عبر الحرارة فيمر في الهواء ليتوهج إلى نار وينطفئ ثانية إلى هواء، أو ممكن أن يبرد بعد الاشتعال فيتحول إلى حجر أو كبريت أو ذهب. عنصر الذهب له خاصتان، السالف أو الأصل الذي نشأ عنه، والثاني يكون وسيلة مادة متبخرة في جو الأرض. القوة تكمن في الصمت، وإذا ما حاول الشخص أن يحلل ذلك منطقيا فإنه لا يستفيد من هذه العناصر. من الأفضل أن يبقى صامتا لمدة 180 يوما، أّي حوالي نصف سنة قبل أن يبدأ في عقلنه تلك الأفكار. في البدء على الشخص أن يحافظ على هالته أو حقل طاقته لنفسه، ومن الأفضل ألا يتحدث عن هذا الأفكار المتعلقة بالكنز مع الآخرين ما لم يكن قويا ومتوازنا جدا بحيث لا يمكن للتأثيرات الخارجية استنزاف حيويته وطاقته وهو يقوم بالبحث، كما عليه أن يتجنب مساعدة الغير لبعض الوقت.. يصف الكتاب مكان الكنز في غابة نخيل تقع على ضفة نهر يتكون من التقاء رافدين عظيمين ويصب في خليج، يقابل الغابة من الضفة الأخرى نهر صغير اسمه عشار أو عشتار.

كذلك يتحدث الكتاب عن دورات زمنية أو حقب صغيرة من الوقت إذا تجمعت إيجابياتها فإنها تخلق دورة ذهبية وعن بداية ونهاية الدورات وتكرارها كل مائة عام. في خاتمة الكتاب يقول المؤلف، إذا لم يهتدِ الباحث إلى المكان ستمزق الكائنات غير المنظورة الكنز إلى أجزاء، وفي النهاية سيتحول إلى ماء وتراب.

في الكتاب الثاني يقول تخيل نفسك بأنك أصبحت في الحال هيكلا عظميا أبيض اللون مشعّا وبحجم هائل لدرجة أنه يملأ فراغا شاسعا من الكون، ويصدر منه لهيبا يلتهم ويفني مواطن الجن والأرواح الشريرة، وفي النهاية يتلاشى الاثنان معا أي الهيكل العظمي واللهيب الى نقطة ضوء أو تراب. تنتج من هذا التمرين حماية فائقة ضد الأمراض المعدية التي من الممكن أن تصيب الشخص وهو في غمرة بحثه عن الكنز. أيضا ضمَّ الكتاب الثاني الكثير من المربعات المختلفة الأحجام والتي احتوت في داخلها على مربعات أخرى صغيرة رسمت فيها رموز أو أحرف إنكليزية.. البعض منها كان ب 90 مربعا بينما البعض الآخر ب 16، فيما تفاوتت بقية أعداد المربعات بين هذين العددين. يقول في ملاحظات أحد الفصول اختر رمز الكنز المرغوب والروح عندئذ ستظهر لك ذلك.. ثم ضع الرمز في الحال على الكنز، في تلك الحال لا يمكن أن يختفي في الأرض وليس بوسع أحد يأخذه منك بعيداً. فضلا عن ذلك فإن أيّ أرواح تكون في حراسته ستهرب، وسيكون بوسعك أن تقرر مصيره حيث تشاء. من صفات الكنز؛ الذهب الخالص، الشكل الخارجي للدم، المجد، الجمال، التألق. ومنذ ذلك الوقت أصبح أخي مهووسا بحكايات الكتابين وهو يكرر الكلام عن الدورات الزمنية الايجابية.

بقي أخي صافي لأربعة أصياف أو أكثر مضيّعا الوقت كله هناك، مقنعا نفسه بأنه تعلم كل ما طلب منه وانه لا يأخذ راحة حتى يعثر على الكنز، وكلما بذل المزيد من الجهد في ممارسة الشعائر والبحث كلما كان أقل رضا وأكثر معاناة. كان على مبعدة كيلومترات قليلة من بيتنا ثمة معمل للتمور يقع على شاطئ نهر العشار محاطا بشبك من الحديد يفصله عن الأحياء المجاورة. لقد ترك صافي ومعظم أصدقائه المدرسة والتحقوا بالجيش ثم هربوا من أماكن خدمتهم وأخذوا يعملون في هذا المكان البعيد عن الانظار. في نهاية دوامهم كانوا يقفزون في النهر ويسبحون حيث غابة النخيل في الجهة الاخرى ليحفروا الارض بمعاولهم ومجارفهم ويبحثوا عن الكنز. أخذ يعبر النهر سباحة كل يوم تقريبا، أحيانا لوحده، وفي أحيان أُخر مع أصدقائه، كارها العودة إلى العسكرية أو مساعدة أبي في عمله، بعد عودته من غابة النخيل كان يجلس منزويا في غرفة أبى مستغرقا في عوالمه، متخيّلاً بأنه في يوم ما سيجد الكنز ويتزوج حبيبته نادية ويتحرر من الذهاب لمساعدة أبي في بيع السمك. كان يصف لي بحماس زواجه المتخيل والبيت الذي سيعيش فيه والأشجار والزهور التي سيزرعها والأثاث الذي سيشتريه، وكيف أنه سيسافر على متن سفينة من ميناء البصرة مع زوجته نادية الى خارج العراق ليزورا العالم كله دون خوف أو قلق بشأن الحاجة إلى المال.

*مقطع من فصل روائي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق