تمهيد:
لست أشك في أن أغلب القراء قد ضاقوا ذرعا من المعارك الزائفة التي أغرقت بها
الأصوليتان العلمانية والدينية فكر المسلمين فحالت دونه والفراغ للإبداع بدل جبره
على الاختيار بين الاتباع للماضي الأجنبي (ما يسمى حداثة: لا أحد غير بعض
المتخلفين من النخب العربية يعتبرها مستقبل الإنسانية) أو الماضي الأهلي (ما يسمى
أصالة: لا أحد غير المتخلفين من النخب العربية يعتبرها مستقبل المسلمين). ومن هذه
المعارك الزائفة معركة تتردد كثيرا هي المعركة التي تدور حول المجيبين دون دون
الشروط الدنيا للجواب المقنع سواء اختاروا النفي أو الإثبات: هل للإسلام دولة؟
لو كان الإسلام دينا مر عليه حين من الزمن لم يكن فيه ذا دولة أو نشأ تحت استعمار أجنبي مثل المسيحية لكان سؤال هل للإسلام دولة سؤالا وجيها ومفهوما. أما أن يكون الإسلام قد كان من البداية ذا دولة في التاريخ الفعلي ولا يزال ذا دولة في ضمائر معتنقيه فإن السؤال يصبح عديم المعنى أو على الأقل موضع تساؤل هو بدوره. ذلك أن محاولي الجواب بالنفي لا يستهدفون الحقيقة الأولى التي هي حقيقة فعلية في تاريخ المسلمين إلا بسبب استهدافهم الحقيقة الثانية التي هي حقيقة في ضمائر المؤمنين بالإسلام.
لذلك فإن المشكل كله بات متعلقا بتأويل تاريخ المسلمين ونصهم المقدس إما لفرض
الفهم المسيحي للعلاقة بين الديني والسياسي عليه أو للحرب على ضمائر المسلمين خلال
سعيهم لاستئناف دورهم في التاريخ الكوني أو لهما معا سعيا لشطب شرط الإمكان
الأنطولوجي لهذا الاستئناف من مخيال الأمة ومن تاريخها. والعلة الحقيقية لهذا
الموقف بفرعيه هو الخوف الدفين من هذا الاستئناف الذي سيحرر خمس الإنسانية بداية
وربما كلها غاية بفضل الثورة القرآنية. وهذا الشرط الأنطولوجي هو: أن يتحقق ما في
ضمائر المسلمين في الواقع الفعلي فيعودون كما كانوا أمة ذات كيان تاريخي فعلي لهم
دولة تحمي كيانهم المادي وقيامهم الرمزي.
ضمائر الإشكال
وكل قارئ نزيه يعلم أن سؤال هل الإسلام له دولة؟ يضمر أمرا ليس مشروطا في
الجواب المثبت لوجود الدولة لكنه مشروط في الجواب النافي: إذا كان للإسلام دولة
فينبغي أن تكون ثيوقراطية. فالجواب المثبت يمكن أن يكون: بلى إن للإسلام دولة
لكنها ليست ثيوقراطية كما يضمر من يذهب إلى النفي حتى يتجنب ثقرطة الدولة.
فالجميع يعلم أن الدولة الثيوقراطية أمر يستثنيه الإسلام بمقتضي عقيدته لمجرد
نفيه مؤسسة السلطة الروحية فوق الجماعة المؤمنة. لذلك فهذا أمر لا يحتاج إلى كل
هذا الضجيج. أليس الجميع يعلم أن الصدام بين القول بالدولة الثيوقراطية والقول بالدولة
المدنية كان ولا يزال جوهر الحرب الأهلية الإسلامية التي بدأت منذ ما يسمى بالفتنة
الكبرى وأنه إذن صدام قد حسم نظريا وعمليا قبل المعركة الزائفة الحالية لأنه لا
علاقة له بالمعركة بين الأصوليين والعلمانيين.
والكل يعلم نتيجة الحرب الأهلية الإسلامية لحسم هذه القضية ما هي. فأغلبية
المسلمين أو السنة اختارت مبدئيا رفض الدولة الثيوقراطية ومالت إلى الدولة المدنية
دون أن تنفي تعالي أخلاق التشريع أخلاقه التي جعلتها عائدة إلى الشريعة بفرعيها
(القرآن والسنة النبوية) وأناطت وظيفة التشريع العيني بإجماع المسلمين ومنه فهم
التشريع المنزل وأمر العمل به إيجابا وسلبا (أي إن سلطة الأمة الشرعية لا الغاصبة
يمكن أن تجمع على رفع العمل بحكم لعلل ظرفية دون نفي الإيمان المبدئي به كما فعل
الفاروق برضا الجماعة).
لن أتكلم على من يتكلمون في الموضوع بزاد في علوم الملة لا يتجاوز زاد المدرسة
الابتدائية مثل أحد النجوم في هذه الأيام (القمني). فقد سمعته ذات مرة يحاضر في
تونس مع مستشار "أد" الدنيا يوم كان العلمانيون يديرون دفة التربية
ويبشرون بتجفيف المنابع إلى أن حولوها إلى فلكلور تنويري جعل الزيتونة تصبح خلية
حزب وفرع إذاعة وظيفتها الطبل والزمر باسم التحديث الطلائي. فكان المحاضران لا
يستطيعان الخطاب إلا بالعامية المصرية ولم يستشهدا بآية إلا وصحبها لحن يندى له
جبين أنصاف المثقفين في الدين فلم يكن لحنا بل تلحين !
وقد يكون المستشار الذي هو "أد" الدنيا ذا أهلية قانونية للكلام في
الفقه (رغم ما ظهر من جهله بالعربية والقرآن) لكن مرافقه-الذي نراه اليوم بين نجوم
المواقع والفضائيات يصول ويجول -كان وأظنه لا يزال خالي الوطاب حتى من هذا الشرط.
ومع ذلك فهو يتجرأ على إصلاح الدين الإسلامي في إحدى مسائله الجوهرية !
مصدر الإشكال
ما يعنيني هو العودة إلى معركة الخلافة في الربع الأول من القرن الماضي لنفهم
العلل التي تجعل البعض يتصور قراءة بعض الصحف الغربية كافية للكلام في القانون
الدستوري كلاما لا يؤيده التاريخ ولا النص الإسلاميان. وطبعا فبعض من نفى وجود
دولة في الإسلام لم يكونوا بحاجة إلى القانون الدستوري ولا إلى التاريخ ولا هم
يحزنون حتى وإن زينوا كلامهم بالنصوص من القرآن والسنة لأنهم بخلاف المتقحمين
الحاليين كانوا على الأقل على بينة من الثقافة الأصلية وهو ما يؤيد فرضية سوء
النية وعدم سلامة القصد. إنما هم كانوا مدفوعين إلى نفي الدولة في الإسلام بدافعين
بينين لكل ذي بصيرة:
فأما الدافع الأول فهو مباشر ونفعي: إنه التبرير الشرعي للقضاء الفعلي على
الخلافة ومن ثم تأسيس الانفصال القطري والتقرب من العائلة المالكة في مصر العائلة
التي كانت تحتاج إلى ما يشرع لها الانفصال الذي كان حاصلا في الواقع.
وأما الدافع الثاني غير مباشر ودليل على سوء فهم الحداثة: إنه تصورها رهينة الفصل
بين الدين والدولة بالشكل المعروف عندئذ عند النخبة المصرية التي تأثرت بالثورة
والعلمانية الفرنسيتين ومن ثم فهي قد تمسحت من حيث لا تعلم: صار لقيصر الحق في
مقاسمة الله فيعود الإنسان إلى فصام الطغيانين: طغيان فرعون وطغيان هامان !
عناصر المسألة
ليس يمكن لامرئ يحترم نفسه والقراء أن يطرح أي سؤال فضلا عن سؤال من هذا الحجم
معتبرا عناصره أمرا مفروغا منه وغنيا عن التحليل والتدقيق. ذلك أن الذهاب إلى
القرآن والسنة للجواب عن أسئلة مضمرة لا علاقة لها بالسؤال ويتصورها السائل مدلوله
فيه الكثير من السذاجة لأن الاستغفال إذا سلمنا بوجوده لا يكون بهذا الغباء.
أفيعقل أن يعتبر السائل نفسه يجيب عن السؤال: هل للإسلام دولة؟ بمجرد البحث في
القرآن والسنة عن أمر لا يمكن لذي عقل سوي أن يطلبه منهما أعني دستورا بالمعنى
القانوني للكلمة في التشريعات الوضعية الحديثة فيستنتج من عدم وجود بنود الدستور
الحالي للدول الحديثة دليلا على عدم وجود الدولة
أليس من يفعل ذلك كمن يقول: لم تكن الدولة المصرية في عهد الفراعنة موجودة-رغم
أنها دامت أكثر 5 آلاف سنة- لأننا بحثنا فلم نجد مجلس نواب معين بانتخابات مزيفة
كما هي الحال في الدول العربية الحديثة؟
لن أذهب إلى مطالبة صاحب هذا الكلام بما ينبغي أن يستنتجه من نفس الموقف أن
بريطانيا العظمى ليس لها دولة لأنها لا دستور لها بهذا المعنى !
يكفي ذلك للإشارة إلى مدى جدية من يقدم مثل هذه الأجوبة لإثبات نفيه وجود
الدولة في الإسلام علما وأنه لا يعرف من القرآن حتى الفاتحة إذا بقي على ما سمعته
منه في تونس عندما دعاه المستنجدون به من أصحاب التنوير الزائف لتثقيف طلبة
الزيتونة المسكينة. ولنذهب إلى بيت القصيد في هذه المسألة بوجهيها التاريخي
والمبدئي لنطرح السؤالين اللذين ينبغي أن نتدبرهما في الرد على هذه السخافات حتى
وإن بدأت مع شيوخ أزاهرة:
السؤال الأول: هل كان علماء الإسلام خلال أربعة عشر قرنا بهذه الدرجة من
البلادة بحيث قبلوا بمؤسسات الدولة التي أصلوها في الإسلام بسبب الجهل والعدوان
على الدين الذي كان عليهم أن يجدوا فيه المسيحية (فصل الدين عن الدولة) لا الإسلام
الذي يرفض هذا الفصل بالجوهر ؟
السؤال الثاني: هل صحيح أن النصين المرجعيين يخلوان من نصوص واضحة تحدد أركان
الدولة بسلطها الثلاثة التقليدية وبسلطتيها الخاصتين بالدولة الإسلامية التي لم
يرها فقهاء آخر الزمان ممن لم يدرسوا لا الفقه ولا القانون ولا اللغة العربية ولا
العلوم الدينية إلخ.. ويسعون إلى تجفيف المنابع لزرع العلمانية التي جهلهم بها لا
يقل فداحة عن جهلهم بالإسلام.
السؤال التاريخي
هذا سؤال يسير علاجه لأن أي متطفل على الفكر مهما كان وقحا لا يمكن له أن يزعم
العلم بالمؤسسات السياسية والدينية الإسلامية أكثر من الغزالي وابن خلدون: فهي
مسألة تاريخية وهما كانا من صناعه فضلا عن كونهما من منظريه. فكلاهما يؤكد في جل
مؤلفاته الأمرين التاليين:
الأول أن الإسلام غير قابل للتصور من دولة تامة الشروط بل وأن الدولة ما كانت
لتكون ضرورية عقلا لولا إيجابها الديني لأن الناس يمكن عقلا أن يعيشوا فوضى أو أن
يكونوا مسالمين فلا يحتاجون للدولة. وهذا الجواب يرد به كلا المفكرين على مذهبين:
فلسفي يدعي أن العقل يوجب وجود الدولة ومذهبي يدعي أن الدولة حق إلهي لآل البيت
يستوجب الوصية للحاجة إلى الإمام المعصوم.
والثاني أن هذه الدولة ليست دينية رغم أن مبدأ تأسيسها وأخلاق تشريعها دينيان
أو إن شئنا مقدسان. فهي دولة مدنية لأنها تخضع لإجماع الأمة وليست جزءا من
العقيدة. لذلك فمتولو أمر الدولة ليسوا رجال دين ولا هم معصومون بل هم مجرد موكلين
بأمر الجماعة بفضل تعاقد اسمه البيعة التي من شرطها أن تكون حرة واختيارية (طبعا
هذا في الواجب والواقع بخلافه كما هي الحال في كل الأنظمة بما في ذلك الديموقراطية
التي يعلم الجميع أنها ألغارشية في الواقع وديموقراطية في الواجب).
والغريب أن أصحاب هذا الكلام البارد يضيفون إلى هذه الحجة الواهية دليلين
آخرين من التاريخ يثبتان عكس ما يسعون إليه:
الأول هو حصول الفتنة التي تدل على عدم تحديد نظام الحكم ومن ثم على عدم حسم
النصوص هذه الإشكالية.
والثاني هو تعدد أشكال الخلافة في التاريخ الإسلامي من الراشدية إلى الملك
العضوض إلى الجاهلية في الغاية.
وسنبدأ بهذين الدليلين التاريخيين. فالدليل الأول يثبت عكس ما يزعمه هؤلاء
المتفلسفون المزعومون في الفقه الدستوري. ذلك أن الخلاف حول الشكل يثبت وجود
الموضوع ولا ينفيه. فالمسلمون لم يختلفوا بعد وفاة الرسول على وجوب وجود الحكم
والدولة بل على شكلها. وفهم هذا الفرق لا يتطلب علما ولا حتى ذكاء بل العقل السليم
وحده كاف. والدليل الثاني يثبت العكس كذلك. فالتغير في نظام الحكم وشكله لا ينفي
وجوده بل يثبت مراحل تاريخه وتحولاته حتى وإن كانت متنازلة من حيث القيمة الخلقية.
والدليل الثاني يثبت وجود الدولة بصورة أكثر دلالة من الأول لأنه مشروط بوجود
الموضوع في العين وليس في الذهن فحسب مما قد يحوج الدليل الأول إلى بيان أنه كان
في العين وليس في أذهان المسلمين فحسب: فلا يتطور شيء إذا كان معدوما.
والاعتراض على الدليل الأول بأن المسلمين يمكن أن يختلفوا على شكل الحكم دون
أن يكون موجودا اعتراض مقبول. لذلك فهو دليل محتاج إلى دعامة تاريخية: فالدولة
كانت موجودة في حياة الرسول والخلاف كان على شكل مواصلتها لأن أحد ركنيها توقف
بموته: الوحي.
لذلك اختارت غالبية المسلمين بعد ترو أن توقف الوحي يعني أن الأمير في الدولة
لم يعد بوسعه أن يدعي العصمة التي صارت لإجماع الأمة وليس للحاكم وأنه ينبغي أن
تكون الدولة مدنية الإدارة حتى وإن ظلت دينية التشريع في المبادئ الأساسية لكل
تشريع وخاصة في أخلاقه. والمعلوم أن الأقلية اختارت حلا آخر هو نسبة العصمة لآل
البيت وليس للأمة وهو ما يعني بنحو ما تواصل الوحي وتأسيس الدولة الثيوقراطية.
فكان ذلك سبب الحرب الأهلية.
والأغلبية التي اختارت الدولة المدنية قاست الحكم من حيث المؤسسات على الدين
فاعتبروا الحكم مثل الصلاة بحاجة إلى إمام وأمموا أبا بكر في السياسة كما أممه
الرسول في الصلاة. وبذلك تواصلت دولة الرسول من دون زعم وراثة الوحي والعصمة بل
أصبح الحكم مجرد راع للشرع. وتلك هي الدولة التي حاربت وصالحت وعقدت معاهدات
مواصلة لما بدأه الرسول. ولم يكن ذلك في العلاقات الداخلية فحسب بل كان في العلاقات
الدولية كذلك سواء بالمراسلات السلمية أو باللجوء إلى الحبشة أو بالشروع في حرب
التحرير ضد الاستعمار البيزنطي في شمال الجزيرة. وطبعا لا فائدة من إطالة الكلام
في مثل هذه البديهيات الخاصة بمقومات ما يسمى دولة حتى بالمعنى الحديث لأن ذلك لو
فعلته لكان تحقيرا حتى من أغبى المخلوقات.
سؤال النصوص
وهذا هو السؤال الذي يركز عليه طالبو الدستور من القرآن والسنة ليثبتوا النفي
عملا بمنهج المغالطة والأفخاخ التي ينصبونها للسذج من الرادين عليهم ببضاعة من جنس
بضاعنهم المجزاة. فعندهم أن عدم وجود دستور وعدم تحديد مؤسسات الحكم وشكله في
القرآن والسنة (القولية والفعلية) دليلان كافيان لنفي وجود الدولة في الإسلام.
هكذا بكل بساطة.
فلنأت الآن إلى النصوص دون إيرادها لأن المقام لا يسمح بذلك ولأن مضمون القرآن
والسنة في متناول القارئ إذا كان ممن تربوا في وسط إسلامي فلا يحتاج إلى إحالات
عينية. فإذا كان المجادل يطلب نصوصا دستورية بالمعنى القانوني الحديث فلا فائدة من
الكلام معه. لأن ذلك ليس من مهام النصوص المقدسة بل ولا حتى من مهام النصوص
الفلسفية التأسيسية. فالفلسفة العملية حتى في الفكر الملحد تابعة للنظر ومن ثم فهي
تأتي في المقام الثاني في نسبة المرحلة التطبيقية إلى المرحلة النظرية من كل فكر
تأسيسي.
لن تجد في نص ميتافيزيقي كلاما على شكل الدولة بل تجد ربما كلاما على الحاجة
إلى النظام والأخلاق إلخ...وكيفيات الانتقال من النظر إلى العمل إما في مسائل
فلسفة الحق أو في مسائل القانون الدستوري. لذلك فالنصوص التي ينبغي طلبها من
المرجعية النصية لمن يريد أن يجيب عن هذا السؤال على ضربين كما هي حال القرآن
الكريم والحديث نفسيهما:
-1-نصوص تأسيسية للحكم والأخلاق في مجالات
التنافس والصراع الممكن بين البشر (وهذا تجده في القرآن المكي والحديث القدسي) وهي
تنتسب إلى العقيدة أكثر من انتسابها إلى الشريعة رغم ما هذا التمييز من تقريبية
لأن الأمرين متلازمان.
-2-ونصوص تطبيقية للحكم والأخلاق في نفس
المجالات (وهذا تحده في القرآن المدني والحديث العادي). ومن لم يجد ذلك إذا كان
يفهم المقصود بالدولة فهو إما فاقد للبصر فضلا عن البصيرة أو سيء النية ولا يريد
الجواب عن سؤاله.
وهذا السؤال عن الدولة لا ينبغي أن يذهب إلى النص المؤسس من كلمة جوفاء هي
كلمة "دولة" بل عليه أن يبدأ فيحدد المقصود بالدولة من حيث الوظائف
والأعضاء القائمة بها أعني المؤسسات؟ أليست وظائفها هي موضوع الحكم وأعضاؤها هي
مؤسساته ودستورها هو تحديد الوظائف والأعضاء مع ضب معايير عملها وكلها تعود إلى
مؤسسات علاج القضايا التي يطرحها الوجود المشترك بين الناس ومعاييرها؟ وهذه
المؤسسات ألا ينبغي أن تكون مؤسسات متعالية على الأسر الحاكمة وعلى أعيان الحكام
وأن تدور حول مسائل لا يخلو منها عمران؟ هل يوجد أحد يشكك في أن القرآن الكريم قد
حدد كل هذه الأمور بوضوح ليس له نظير أعني:
-1-مسائل الرزق والتنافس عليه: وهو ما يناظر
الاقتصاد في لغتنا الحديثة (انظر الباب الخامس من مقدمة ابن خلدون)
-2-ومسائل الذوق والتنافس عليه: وهو ما يناظر
الجنس والفنون وكل ما له علاقة بالعيش المشترك من حيث هو تآنس.
-3-ومسائل السلطان على الرزق: الحقوق
والواجبات والعدوان عليها والفساد في الاقتصاد
-4-ومسائل السلطان على الذوق: الكرامة ومنزلة
الناس وعلاقات الحب والزواج والأسرة وكل مسائل الذوق والفنون وبصورة عامة أحكام القيمة
الخلقية والجمالية.
-5-ومسائل السلطان الشامل لكل ذلك أعني
الحاجة إلى الحكام في الخلافات حول هذه المسائل وفي توفير شروط العيش الآمن
والوجود المشترك وهو بالضرورة ذو وجهين معنوي ومادي لأن الأمن لا يمكن أن يوفره
الجهاز المادي للدولة وحده من دون جملة من المعايير المقدسة المشتركة بين الأفراد
من دونها يصبح العيش المشترك جحيما لفقدان اطمئنان الناس بعضها إلى بعض وسيطرة عدم
الثقة والتوجس الدائمين.
تلك هي وظائف ما نسميه دولة بالمعنى القرآني للكلمة المعنى الذي هو أرقى حتى
من معناها الحديث عند من يجهل فلسفة الحق فضلا عن القانون الدستوري. ولذلك فهي
كيان مقدس يجمع بين الروحي وفاعليته الخلقية والمادي وفاعليته الطبيعية إذ من دون
ذلك يصبح السياسي خاضعا لمنطق الذئاب والديني لمنطق المحتالين. والدولة من حيث هي
نظام المؤسسات المجرد تعني بهذه المجالات من حيث السلط الثلاث بالمعنى التقليدي في
الأنظمة الدستورية الحديثة أعني:
-1-التشريع
-2-والقضاء
-3-التنفيذ.
لكن ذلك لا معنى له من دون السلطتين اللتين بدأت المجتمعات الحديثة تدرك
أهميتهما وهما من جوهر الديني الإسلامي أعني
-4-سلطة الرأي العام أو ما يسمى بسلطة الحسبة
المعبرة عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أي عن أخلاق الجماعة سواء كانت دينية
أو غير دينية.
-5-وسلطة النظام التربوي والثقافي الذي ينبغي
أن يكون مستقلا عن الجهاز التنفيذي للدولة.
ولعل ما يسمى اليوم بالسلطة الرابعة قريب من سلطة الرأي العام في النظام
الإسلامي بمعنى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا توفرت حرية الإعلام. كما أن
ما يسمى بسلطة المثقفين قريب من سلطة العلماء والنظام التربوي الإسلامي إذا كانوا
حقا نابعين من الثقافة الأهلية وليسوا وافدين إليها بزاد مستلب.
وينبغي أن تكون سلطة النظام التربوي تابعة للرأي العام من حيث القيم العليا مع
استقلال من جنس استقلال المعرفة المختصة على المعرفة العامية والمقابلة هي مقابلة
فرض العين في سلطة الرأي العام وفرض الكفاية في سلطة التربية والثقافة؟
خاتمة:
وحاصل القول ومجمله أن المتكلمين في هذه المسألة من العلمانيين يتكلمون في
الحداثة ويريدون التحديث من منظور وحداني المنظور أحيانا بوعي وأحيانا بغير وعي
بمقتضياته وما يترتب عليه. وقد سبق أن نقلت إلى العربية تعريف هيدجر للحداثة التي
يهيم بها الكثير من نخبنا ولا يرون ما جرته على الإنسانية من نكبات أقربها الحربين
العالميتين والفاشيات الثلاث التي أدت إليها وذروتها الحالية في العولمة المتوحشة
اليت جعلت الجميع عبيدا بما فيها من يتصورون أنفسهم سادة العالم.
وما يجدر التذكير به هو أنها في الجوهر سعي لتمسيح العالم بنظرية تأليه
الإنسان وأخضاعه للفصام المرضي بين قيصر والله: وباسم الأول يتم اخضاع حياته
المادية لحيل المافيا السياسة وباسم الثاني يتم اخضاع حياته الروحية لحيل المافيا
العلمانية التي تنافس المافيا الدينية على هذه السلطة.
ليس الهدف هو إذن تحرير الإنسان من الطاغوتين بل هو مجرد صراع بين المافيتين
الرمزيتين في خدمة قيصر أعني اخطبوط العصر الحديث: أجهزة الدولة الحديثة. وهو أمر
حدده القرآن الكريم كذلك بصورة صريحة لا لبس فيها كما حدد وظائف الدولة ومعايير
علمها الخلقية والاقتصادية والعاطفية في الآية 136 من الأنعام:"وجعلوا لله
مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيب فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا. فما كان
لشركائهم فلا يصل إلى الله. وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم.ساء ما يحكمون".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق