تواجه
المجتمعات الإنسانيّة المعاصرة اليوم، وفي مطلع العقد الرابع من الألفيّة الجديدة،
حمأة مواجهة مصيريّة جديدة مع أخطر تحدّيات الوجود والمصير تحت مطارق الثورة
الصناعيّة الرابعة الّتي بدأت تضرب البنية الوجوديّة لهذه المجتمعات، وتهدّد
مصيرها وتقضّ مضاجعها. ولا ريب أن المجتمعات الإنسانيّة تشهد اليوم طفرات هائلة من
التغيّر الاجتماعيّ تفوق كلّ التصوّرات والاحتمالات الّتي يمكن للمخيال البشريّ أن
يبدعها ويصوّرها.
فالتقدّم
الإنسانيّ المعاصر في مجال التكنولوجيا الصناعيّة والثورات العلميّة والمعرفيّة
المتواترة أدّى إلى تلوّث البيئة والثقافة والإنسان، فارتفعت حرارة الأرض واشتدت
إشعاعاتها، ودمّرت الثروات الكامنة في باطنها كما يحث أعماق البحار، وانتشر الرعب
والخوف،وعمت الحروب، وانتشر الفساد في مختلف أنحاء المعمورة، وقد أصبح الإنسان
المعاصر يعيش وضعيّة مأساويّة اغترابيّة تتمثّل في مأزق أخلاقيّ، أقلّه انتشار
المثليّة الجنسيّة،وقد نشهد غداً تشريعات تبيح زواج المحارم وتشجّع عليه. في
ظلّ هذا التقدّم الوحشيّ ضدّ الأخلاق والقيم، بدأ الإنسان المعاصر يفقد كيانه
الذاتيّ في ظلّ التهتّك الأخلاقيّ الرهيب، وقد عمّ الفساد، وانتشر رهاب الخوف
والقلق من حادثات الزمان ومفارقات الأيّام في مستقبل مخيف رهيب.
لقد
بلغ حجم المشكلات والتحدّيات الّتي تواجه الإنسانيّة حدّاً يفوق الوصف والتقدير،
ومنها: الفقر والفاقة والجوع، ودمار البيئة، وفقدان الهويّة، وانتشار وضعيّات
الاغتراب والاستلاب، والحروب الأهليّة، والتعصّب، والصراع على الثروة، والفساد،
وضياع الأخلاق، وقد انتشرت هذه الظواهر وما يماثلها على نحو يفوق قدرة الإنسان على
التخيّل والتصوّر.
وفي
لحظات الضياع وفقدان الهويّة، في هذا الزمن الاغترابيّ، يبرز دور التربية والأنظمة
التعليميّة كقوّة حضاريّة قادرة في نهاية الأمر – إذا ما أريد لها - على مواجهة
التحدّيات الهائلة الّتي تواجه هذه المجتمعات، كما يمكنها ضمن هذا التوجّه أن
تستلهم في بناء نظام قيميّ جديد يمكن الإنسانيّة من تجاوز ظلمتها المعتمة ولحظات
اغترابها.
ولكنّ
ما يدعو اليوم إلى الحسرة والأسى أنّ الأنظمة التربويّة العربيّة، لم تسلم من فوضى
الفساد والإفساد، وقد تعرّضت نفسها للفساد الكبير، وأصبحت بذاتها منتجة للفساد
وراعية له، بعد أن كانت أمل المجتمع في قدرتها على إصلاح ما أحدثه الفساد
الاجتماعيّ، وأصبح حالنا حال الشاعر الّذي أنشد يما يقول: بالملح نصلح ما نخشى
تغيّره *** فكيف بالملح إن حلّت به الغير.
فالتربية
العربيّة تعاني اليوم من خلل وجودي قوامه الفساد الّذي انتشر في مختلف مفاصل
الحياة التربويّة، وفي مختلف مستويات الحياة والوجود، حتّى أصبحت المشكلات الّتي
تعانيها تشكّل اليوم صورة أعمق للمشكلات الاجتماعيّة الّتي تعتور المجتمع وتقضّ
مضاجعه. فالتربية العربيّة تعاني اليوم من مشكلات صميميّة في المجتمع، وهي تنتج
وتعاود إنتاج الفساد والإفساد والبلاء في المجتمع، وهذا الأمر يشكّل ظاهرة وجوديّة
خطرة جدّاً إذ كيف للمجتمع أن يصلح نفسه بتربية أفسدها زمانها؟
ولا غضاضة
في القول بناء على ما تقدّم: إنّ التربية العربيّة اليوم تعيش أسوأ لحظاتها اليوم،
إذ أصبحت موطناً مغايراً للقيم الأخلاقيّة الخلّاقة الّتي عرفناها من قبل، وقد
أصبح الغشّ في الامتحانات، والتلقين في الدروس، والانتحال العلميّ، والتمييز
الاجتماعيّ، والواسطة والمحسوبيّة، وغياب التكافؤ، وانتشار التعصّب الاجتماعيّ بين
جدران المدرسة، وهيمنة العنف والتنمّر المدرسيّ، وانتشار الأمّيّة الثقافيّة بين
صفوف الأساتذة والمعلّمين والمتعلّمين، سمات جوهريّة في مدارس اليوم، وفي الأنظمة
العربيّة التعلّميّة السائدة. وعلى هذا النحو لم تعد المدرسة - على النحو
الّذي عرفناه والّذي يجب أن تكون عليه - مؤسّسة لبناء الأخلاق، وتكريس التسامح،
وبناء العقول، وتفجير القدرات، وتحقيق العدالة، وترسيخ الجدّ والجهد والاجتهاد في
طلب العلم، ولم يعد العلم والثقافة غاية في ذاته، وقد تحوّلت المدرسة إلى أشلاء
مؤسّسة تعليميّة فاقدة للحسّ الإنسانيّ، بتحوّلها إلى مؤسّسات لمنح الشهادات، وقد
تحوّلت الشهادات ذاتها إلى وسائل للحصول على وظيفة أو عمل في سوق متوهّم للعمل.
حتّى الأهالي لم يعد همّهم -كما كان في سابقات الأيّام - أن ينهل أطفالهم المعرفة،
وأن يصقلوا بالثقافة والعلم، وأن يؤصّلوا فيهم مكارم الأخلاق، بل أصبح همّهم
وهاجسهم الأكبر يتمثّل في أن يحظى أبناؤهم بالنجاح المدرسيّ والمنافسة في الحصول
على الشهادات كرخصة لسوق العمل بأيّ وسيلة أو معيار دون أيّ وازع أخلاقيّ.
ومع
الأسف الشديد، لقد تحوّلت مدارسنا اليوم ومؤسّساتنا التربويّة إلى منصّات تعمل على
إيقاعات الأيديولوجيّات الاغترابيّة المضادّة للإنسانيّة والإنسان، وأصبحت مجرّد
سجون مغلقة تمارس فيها طقوس الفساد والإفساد، وقد تحولت مدارسا على مقاييس
الأسياد الّذين حوّلوها إلى قوّة هائلة لتدجين العقول وتشكيل الوعي النمطيّ
المستلب والتدمير الممنهج للقدرات النقديّة والعقول، وكلّ القدرات الإبداعيّة في
نفوس الطلّاب والناشئة والأطفال، وذلك لتبقى خاضعة ضعيفة لا تملك أدوات التمرّد
والثورة على الواقع المأساويّ الّذي يحيق بالوجود.
لقد
تحوّلت الجامعات إلى مجرّد ثكنات مدجّنة لإنتاج أجيال اغترابيّة عاجزة كلّيّاً غير
قادرة على ممارسة الفعل والإنتاج والإبداع، وأصبحت اليوم قوّة هائلة تعمل على
تحويل طلّابها ومريديها إلى قوّة استهلاكيّة في عالم استلابيّ اغترابيّ مدجّن بقيم
الطاعة والرضوخ والقبول بالواقع الراهن على علّاته. وقد
تبدو المؤسّسات التعليميّة مشرقة في مشاهدها السطحيّة - وذلك لمن لا يستطيع الخوض
في الأعماق - إذ تأخذ صورة ممارسة تربويّة خلّاقة تعمل على بناء الأجيال المتعلّمة
وتطوير قدراتها وإمكانيّاتها في عالم الثقافة والمعرفة، ولكنّ هذه الصورة الّتي
تبدو على السطح قد تغاير تلك الّتي تتحرّك في الأعماق، ويمكن لمن يمتلك القدرة على
الغوص في الأعماق - أي في خفايا البنية الوظيفيّة لهذه المؤسّسات والمدارس - أن
يرى أنّها في جوهرها ليست أكثر من مؤسّسات تمارس أكثر أدوت القمع تدميراً لقدرات
الأطفال الإبداعيّة العقليّة والروحيّة. لإنتاج أجيال مدجّنة هامدة خامدة ضعيفة
مغيّبة. وعلى هذه الصورة تفعل المدرسة فعلها في ترسيخ قيم الخضوع والهزيمة
والانكسار، إذ تقتل في النفس كلّ أشكال القدرة على النقد والنزع إلى الثورة
والتمرّد على الواقع الاستلابيّ المخيف الّذي يبطّ إنسانيّة الإنسان.
ومع
ذلك لا بدّ من القول بأنّ الأمل في أن تجد مجتمعاتنا طريقاً إلى الخلاص لا ينقطع
أبداً، وهذا الأمل ما يزال قويّاً في النفوس، أصيلاً في العقول نابضاً حيّاً في
القلوب. وإذا كان القول القديم: "بالحبّ يحيا الإنسان" فإنّنا على
منهجيّة هذا القول نقول: إنّه بالأمل يحيا الإنسان، والأمل يدفع في القلب ومضّ
الحياة الحرّة الكريمة في قلوب البشر، ويذكّي الإيمان بقدرة المجتمعات الإنسانيّة
على التغيير ومواجهة المصير.
وهذا
يعني أنّ سرد التحدّيات، ووصف الوضعيّات الاغترابيّة، لا يعني الاستلام لقدر
الهزيمة والنكوص إلى الأحلام الغافية، والاستسلام لمشاعر الإحساس بالهزيمة، وعدم
القدرة على مواجهة التحدّيات، ومن المؤكّد أيضاً أنّ هذه السرديّات المأساويّة لا
تعني يأساً أو قنوطاً أو تشاؤماً مطلقاً، لأنّها على خلاف ذلك كلّه قد تشكّل – إذا
أردنا- منطلقاً أساسيّاً للأمل والعمل والإيمان بقدرة الإنسان على صوغ المصير،
واقتحام المستقبل محمّلين بالقدرة على المواجهة والبناء وتحقيق التقدّم الإنسانيّ
والأخلاقيّ.
وإزاء
هذا الإشكال الحضاريّ الاغترابيّ يتوجّب على الإنسان العربيّ المعاصر، أن يطرح
أسئلة الكيفيّات الموضوعيّة الّتي تمكّنه من تجاوز هذا القصور الحضاريّ، ومواجهة
أوجه السلب في هذه التحدّيات؟ وقد يشكّل هذا الطرح الإشكاليّ منطلقاً لإيقاظ الوعي
التربويّ، وذلك لأنّ السؤال ذاته قد يشكّل أخطر لحظة في عمليّة بناء الوعي وتشكيله
وتطويره. ولا مناص اليوم من ضرورة تشكيل الوعي العميق بأبعاد هذه التحدّيات وطبيعة
هذه المشكلات، وذلك لأنّ الوعي يشكّل منصّة الانطلاق نحو التغيير والمواجهة
والبناء والتطوير.
ومن هذا
المنطلق؛ وعلى هذا الأساس، علينا أن نطرح أسئلة حيويّة ومصيرية حول قضايا التخلّف
والنكوص والتراجع والانكفاء، وقد تتمحور باكورة هذه الأسئلة بداية حول طبيعة هذه المشكلات
الاجتماعيّة التربويّة في أسبابها ومتغيّراتها، وديناميّات حركتها، وهي أسئلة
تمهّد لأسئلة أخرى مصيريّة تتعلّق بالحلول والإمكانيّات والاستراتيجيّات، وقد
تنتهي بأسئلة جديدة لا محيص عنها تأخذ صيغة البدايات والأينيّة والكيفيّة: كيف
نبدأ؟ ومن أين؟ ومتى؟ وكيف؟
وعلى هذه الصورة يجب على التربية العربيّة أن تطرح أسئلتها المصيريّة حول السبل الّتي يمكن اعتمادها في تحرير أنظمتنا التربويّة ومجتمعاتنا من كوابيس التحدّيات، وثقل المشكلات، وعنف الأزمات. ومثل هذه الأسئلة تشكّل المنطلق المنهجيّ لكلّ محاولة جادّة تطرح نفسها في مواجهة التحدّيات الّتي تحيق بالأنظمة التربويّة، وتدفع بها إلى حالة من العطالة والجمود والقصور. ويقيناً فإنّ مثل هذه الأسئلة تدفع المفكّرين والمثقّفين وعلماء الاجتماع بخاصّة إلى ساحة المواجهة الحقيقيّة الّتي تتّصل بالوعي الإنسانيّ بالمصير، وهو الوعي الّذي غالباً ما يجب عليه أن يتشكّل في أعماق الأنظمة التربويّة المعاصرة. ويبقى السؤال الأساسيّ الثوريّ الّذي يمكن للمفكّرين العرب أن يطرحوه وهو: كيف السبيل لإخراج المجتمع من دائرة الجمود والتخلّف واليأس الحضاريّ؟ وكيف يمكن تشكيل الوعي العامّ مرّة، والوعي التربويّ مرّات ـ بأهمّيّة البحث عن السبل التاريخيّة الممكنة لمواجهة أعظم التحدّيات وأخطر المشكلات الّتي تواجه مجتمعاتنا الإنسانيّة ومؤسّساتنا المدرسيّة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق