التِّسْعِينِيُونَ وَكِتَابَةُ اَلتَّشَظِّي - صالح لبريني - مدارات ثقافية

احدث المواضيع

الأحد، 27 أغسطس 2023

التِّسْعِينِيُونَ وَكِتَابَةُ اَلتَّشَظِّي - صالح لبريني

 (1)

الشعر تجربة وجودية تعيشها الذات في مواجهة مآلاتها ومصائرها، وهي تشقّ مسالك تختلف عن لغة النّاس، وترتّب العالَم وفق رؤية خاصة تنزاح عما هو موجود، وتنظر إلى البياض نظرة فيها الكثير من المكابدة والعنت؛ خصوصاً في ظلّ التحويلات العديدة، التي تؤثّر حتما على الإنسان وعلاقته بالمجتمع، هذه النظرة لا تحترم شروط القول المعتاد، وإنّما تلجأ إلى خلق ناموس جديد لكتابة لا تعبّر إلا عن جوانيتها، مع أخذ مسافة بينها وبين العالَم، فالعالَم يؤسس للغة بيضاء تسري في الخطابات اليومية والمتداولة، في حين الشعر يعجن هذا الكُلّ ويصبّه في قالب أسلوبي يليق بحجم هذه المحنة الوجودية، التي تعيشها الذات وهي تتصارع مع ذاكرة شعرية تدوزن الإبداع على قاعدة مرجعيات لم تعد قادرة على مسايرة منعطفات الكتابة الشعرية، كما أن الشّعر إبداعٌ لا يخضع لمنطق الثبات، وإنّما لمنطق التمرّد على التقاليد الشعرية السالفة، لأن سيرورة الإبداع الإبدال والتحوّل. لذا فهي تختار الشّكل الذي يجاري هذه الانتقالات، التي تُلبّي نداء اللحظة التاريخية. ولا غرابة في الأمر مادام الإبداع، عبر مراحل تطور المجتمعات والحضارات، يغيّر مجراه في الكتابة والأشكال، ويجدّد الدماء في شرايين النصّ الشعري، ويمنحه حياة أخرى تتسم بالحيوية والتحويل والمغايرة التي مَحْتِدُها المغامرة.

(2)

هكذا اختار شعراء التسعينيات مجرى آخر، بعيداً عن مجاري الشعر الستيني والسبعيني والثمانيني، مجرى كتابة متحرّرة من قيود العمود الشعري والتفعيلي، منتصرة لكتابة نثرية تبدع طقوسها وشكلها ومعانيها بالمغامرة، لأن الإبداع جوهره وأسّه ارتياد الغريب والغامض والملتبس، والتجريب بمختلف تجلياته، محطّمة متاريس الخوف من المحاكمات الجائرة، التي طالت حركية التجديد والإبداع، منذ القرن الرابع الهجري إلى اللحظة الراهنة، ذلك أن الذهنية العربية ذهنية توسَم بالانغلاق وترفض المغايرة والاختلاف.

شعرية خالقة هويتها الإبداعية من الانتصار لقصيدة النثر بدون أدنى نقص أو حرج، لأن الشعراء التسعينيين ولدوا في سياقات تختلف اختلافا جذريا عن ماضي الشعر البعيد والقريب، سياقات ميزتها بداية الانهيار العربي بحرب الخليج الأولى على العراق، الذي كان يشكّل منارة حضارية وثقافية وسياسية تضيء سماء العالَم العربي، فهذه الرّجّات كشفت عن فشل الإيديولوجيات والارتكاسة المدوية لبناء مجتمع عربي تسوده الحرية والكرامة والعدالة والمساواة على كافّة الصُّعُد، والتراجع المهول والمخيف للمد التنويري أمام هيمنة التطرف الديني، بعد الثورة الخمينية بإيران، كلّ هذا جعل الشاعر التسعيني يعيد النظر في المقولات والأشكال، بتجاوز التنظيرات المسكوكة والتصورات القائمة، بخلْق قيم شعرية جديدة تكتب عزلتها وتشظيها، وتسيّج عالم البياض بكتابة تخطّ سيرة الذات في أجلى تمظهراتها.

(3)

إنّ ما وقع من ارتكاسات في الوطن العربي كان له الأثر الصريح والبليغ على مستوى الكتابة الشعرية، حيث غدت رهينة أسئلة تبتعد كلّيّا عن حمأة الإيديولوجيا وحرائقها، خيباتها وخساراتها، ذلك أن المجتمع السياسي العربي أصيب بعجز شامل أمام مجريات تاريخية مؤلمة، ومعبّرة عن الفشل الذريع للنخبة السياسية؛ وصدمة النخبة المثقفة، التي كانت تحمل مشروعا مجتمعيا حداثيا، ينبذ ثقافة الصراخ والصدى، بغية تأسيس ثقافة تنصت لصوتها الداخلي وتنتصر للعقلانية المتنورة، لكن هذه الرهانات لم تتحقّق نظرا لغياب تصور عميق لبناء المجتمع الذي نريد، فالأنساق التقليدية/ المحافظة مازالت مهيمنة وسارية المفعول في كلّ مناحي الحياة العربية، أنساق ثابتة على خياراتها الماضوية، ومفتقدة القدرة على التخلّص من إرث اجتهدوا في تأبيده وتأليهه، رغم كلّ مظاهر التحديث التي تخفي طبيعة النسق المتحكم في تدبير الحياة السياسية والثقافية. وهو نسق المحافظة والاجترار الأعمى للتراث، متناسين أن الماضي تخلّق من رحم أسئلة واقع العرب، هذا الواقع الذي كان لصيق سياق اجتماعي وثقافي وبيئة مفتوحة على احتمالات الفناء المتربصة بوجودهم، وهذا لا يعني أن الشعراء التسعينيين يرفضون التراث، ولكنهم يفتحون معه حوارا جريئا، مؤسَّساً على الوعي بقيمته الإبداعية، والدعوة إلى تجسير الصلة معه، لبناء علاقة ميزتها التفاعل، لا التأثر والانفعال، لأن سؤال الماضي وإشكالاته متناقض جذريا مع أسئلة التسعينيات المفارقة لهذا الماضي، من حيث التصورات والرؤى إلى الذات والوجود، فرؤية الماضي انعكاسية بينما رؤية الشاعر التسعيني متماهية مع الذات والوجود تماهيا يطرح السؤال، ويبتعد عن تقديم الجواب، وتلك لعمري من حسنات هذا الجيل الشعري، نظرا للخلفيات المعرفية المختلفة المنابع والروافد التي يمتلكها في تصوره للكتابة الإبداعية.

نخلص مما سبق أن حرب الخليج الأولى والثانية ضد العراق، والمسار التحولي فيما يتعلق بالمفاوضات السياسية بين الفلسطينيين والاحتلال الصهيوني، والتراجع الواضح للتيارات التي تدّعي الحداثة والعقلانية، والارتكاس البيّن للإيديولوجيا، من بين العوامل المؤثرة في تجربة التسعينيات، فكان التمرّد والعصيان من سماتها (التجربة) وتحطيم الشكلين العمودي والتفعيلي، بخلْق الشكل الشعري المعبّر عنها . وفي هذا السياق لابد من الإقرار بأن التجارب الشعرية المغربية تشكل كلّا واحدا، مع الإشارة إلى أنّ لكل تجربة شعرية خصوصياتها، وأفقها الشعري وسؤالها الثقافي.

(4)

الشعراء التسعينيون ملاعين، تخلّقوا من رحم الانهيار السياسي للكيانات الحزبية بالمغرب وكذا العالم العربي، لذا ظلوا منذورين لهذه اللعنة العميقة والواعية بأهمية الكتابة؛ المنقذة من اليأس والسأم المستفحلين على الحياة العربية. لعنة تؤسس لوعي متجدّد للذات والوجود، فلم يبق السؤال مرتبطا بصوت الإيديولوجيا، وإنما متعلّق بسؤال الإحساس بالتشرذم والتشظي، والتهديد المُداهم للكينونة، فتولّدت رؤية جديدة للأشياء والموجودات، رؤية للكتابة الشعرية كان لها التأثير الجلي على إحداث تغيير في هذه العلاقة، التي انتقلت من حالة السكونية إلى حالة الحيوية الناتجة عن الفاعلية والتفاعلية، التي يقيمها الشعراء التسعينيون مع الأشكال وطرق القول الشعري، التي تم اجتراحها بعيدا عن الصدى الصاخب للإيديولوجيا، وكذا الانفتاح على الآخر الثقافي بوعي جديد وبيقين الذات في قدرتها على الحوار البناء والهادف، والتثاقف الإيجابي، واستلهام التجارب المشرقة ماضيا وحاضرا؛ حتى تكون الزاد لتشكيل تجربته الشعرية بعيدا عن الاحتذاء، وهذا ما تحقق لهؤلاء الملاعنة. هذا التعدّد في المرجعيات المعرفية كان السند المضيء لتجارب التسعينيين، فهم لم يظلوا حبيسي الثقافة الواحدة والتجارب المستهلكة، بقدر ما انفتحوا على تجارب غربية وأمريكية ومشرقية عريقة، أدّت إلى تخصيب اللغة وتثويرها، وتطعيمها بطاقة إبداعية متجدّدة، كلّ هذا شكّل إضافة نوعية على مسار الشعرية العربية، وكشف جدارة الوعي لدى جيلٍ آمن بأن الاختلاف سُنّةٌ في الكون والإنسان والكائنات، بينما التطابق يؤدي إلى الانغلاق وفقدان القدرة على الخَلْق والابتكار.

(5)

التسعينيّون صرخةٌ في وجه العدم، سفَرٌ وترحالٌ وعزلةٌ في الحياة بوعيٍّ حادٍّ ورؤية تنبثق من الاغتراب الوجودي، حيث الكينونة في صراعٍ أبديّ ضدّ اللاّمعنى والعبَث، ضدّ هذا الخواء الذي يطوّق العالَم ويخنق الجمال ويُرديه في مقتلٍ، حيث القبح سيّد الكون، والخراب اللسان المعبّر عن وضع العالَم. لذا يسعى التسعينيون إلى كتابة الذات والعالَم بالجمال والأمل، بضوء الأعماق ودهشة البصيرة وحدوسها، لأنّ مهمة جيلنا لا تكمن في الصراخ ولن يكون صدى لأحدٍ، بل هو يعلن عن وجوده بعيداً عن المؤسسة قريبا من ارتجاف عصفورٍ، من يقظة وردة في حديقة منسية، من عزلة الماء في مجرى يحالفه العطش، من رفّة عينٍ في شرفة مغلقة على النسيان، من جلبة المقهى في عزّ المنفى.جيلنا جيل الانهيارات والخيبات، واندحار الإنسان حضاريا ووجوديا.جيل يبدع سيرة الوجود النازف بآمالٍ موؤودة وأحلام ساقطة من أعلى لترتطم بوجع التراب، وليلٍ ممتدٍ في سفك الإنسان.جيل الهاوية التي تأخذ بيد الذات إلى الآبار العميقة، وتزيد من جحيمية المحنة الوجودية.

(6)

ما يميّز جيل التسعينيات أنّه عبارة عن أرخبيلات، فهو لا يشكّل تيارا شعريا يتفرد بصوته الإبداعي عن باقي الأجيال الأخرى، بل غِناهُ كامنٌ في تعدديته واختلافه، حيث نجد شعراء يمزجون بين العمودي والتفعيلي وشعراء آمنوا بقصيدة النثر والهايكو كأشكال شعرية قادرة على احتواء رؤاهم وتصوراتهم النابعة من فهم آخر للكتابة الشعرية، و ولعلّ هذا التنوع في الأشكال الشعرية المتفاعلة والمتعايشة ساهم في إثراء تجربة التسعينيين. هذه الأرخبيلات الشعرية ناجمة عمّا جرى من تحويلات عميقة مسّت جوهر الرؤية لمفهوم الكتابة والإبداع، فنجد المعجم الشعري يختلف من شاعر إلى آخر؛ وكذا البناء النصّي رغم بعض التقارب الذي قد يلاحظ على بعض الأصوات الشعرية، ولكن عموما كلّ شاعر يؤسس لصوته الشعريّ -رغم الاتفاق في الكثير منها على شكل القصيدة النثرية- بعيدا عن كلّ المؤثرات التي قد تكون عاملا من عوامل وحدة أصوات جيل التسعينيات.

(7)

التسعينيون فجائعيون، منذورون للنزيف اجتماعيا وسياسيا وثقافيا ووجوديا، الأمر الذي حوّل تجربتهم إلى مآتم، فالذات بؤرة العملية الشعرية، ومركزها المعبّر عنها والمحتفي بالعوالم الداخلية وتقصي العوالم الخارجية، التي لم تعد تستثيرها وتستفزّها، بقدر ما أصبحت مؤثّرا سلبيا يزيد الذات والعالَم قبحاً ورعباً، كما أنهم أفردوا إفراد البعير، فلكل شاعر صوته وصمته، عويله النابع من مناطق عميقة في الأعماق، في غياب تام لراع نقديّ يرعاهم ويشذّب تجاربهم ويقوّمها، فازداد اغترابهم وغربتهم، وعزلتهم مما جعَل رؤيتهم للذات والعالَم تنماز بعدم وضوحها، إنهم سردية تكتب حكايتها بدم النفي والإقصاء، نفي يمارس من مجتمع خارج التاريخ والحاضر، ووجود يزداد حلكة وتراجعات وارتكاسات، وإقصاء من لدن الدرس النقدي، لتغدو المكابدة مزدوجة، فكان الاختيار، بالنسبة إليهم، اختيار المنفى الداخلي ضرورة تاريخية ووجودية. هذا الدرس الذي حصر ممارسته في مقاربة التجربة الستينية والسبعينية والثمانينية؛ مما يعكس عجز آلياتها على مواكبة انعطفات ومنعرجات الشعر التسعيني الحادّة. بل يمكن القول إن التسعينيين لم يتمكنوا من خلْق نقاد ينقدون التجربة؛ ويضيئونها على وفق منظورات قراءاتية مختلفة أيما اختلاف عن المنجز النقدي السابق، وهذا لا ينبغي أن يفهم منه عدم تجسير الصلة بالنقود السابقة، بل على العكس أنها امتداد لها، لكن الرؤية النقدية تختلف باختلاف السياقات وتتساوق مع الإبدالات، التي تمرّ منها الشعرية المغربية. وبالتّالي فالتجربة التسعينية تخرق المتداول في الشعرية، تبتعد عن الشائع والرائج الشعري، لتأسيس كتابة تنسج جمالياتها من تشظّي الذات والوجود.

(8)

التسعينيون لم يأتوا من فراغ، وليسوا لقطاء بدون أبوّة شعرية، متجذرون في شجرة نسبهم الشعري، منتمون إلى الأرض التي حملت الظلال والأسلاف، وولدوا من صُلب واحد، لكنهم تعدّدوا واختلفوا، بل هم امتدادٌ واستمرار للشعرية العربية التي لا تعرف الثبات والتحنيط، بل تنتسب إلى الإبدال والتحويل، إلى المدهش والفاتن، متغيرة بتغيّر الزمان وحيثياته، وباختلاف المكان وسياقاته، غير أنهم ينتسبون لهوية واحدة وأصل متفرّد ، بالرغم من التباعد الزمني ولكن التقارب الروحي متأصل ومتواشج، لأن الشّعر واحد لكن الرؤى والتصورات والمفاهيم والأشكال تختلف باختلاف الأزمنة. فلا وجود لشعر قديم أو شعر حديث، وإنّما نتحدث عن الشعر الخلّاق المختلف والمجدد والمتجدّد، فالشعر القديم، من حيث الزمن، ما تزال روحه دائمة الحضور والحياة في جسد الشعر القادم.

(9)

في دم القصيدة نخلةٌ

وظلال تمتد في الآتي

تشعلُ قلقها على بياض التسعينيات

ماءاً يضيء العتمات

ويشرع الطريق للغرباء

من هناك يأتي النشيد وغبار القبائل

إلى هنا حيث المدينة تضيق وتتسع العزلة

وتفيض الأرواح بأحلام مضرّجة بسحام الحاضر

ويقظة الغد في نار السؤال

العصافير تنكّل بالأقفاص وتفتح باب السّماء.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق