|
إن السؤال عن نمط كينونة الصورة، الذي نطرحه هنا، إنما يسأل عن شيء، هو أمر مشترك لكل الطرق المتعددة لظهور الصورة. إنه يحترف بذلك نحوًا من التجريد. لكن هذا التجريد ليس من اعتباطية التفكر الفلسفي في شيء، بل هو أمر، تجده مزاوَلًا بعدُ من جانب الوعي الجمالي، الذي يتحول عنده في الحقيقة إلى صورة، كل ما يقبل أن يخضع إلى تقنية الصورة السائدة في الحاضر. وفي هذا الاستخدام لمفهوم الصورة ليس هناك بلا ريب أية حقيقة تاريخية. فإن البحث في تاريخ الفن في الوقت الحاضر يمكننا من أن ندلل بشكل وافر على أن ما نسميه «صورة» إنما يملك تاريخًا متفاضلًا (٢). وفي الأساس إنما مع نوع الصورة التي بُلِغ إليها في أوج عصر النهضة من تطور الرسم الغربي فحسب، ازدهرت «سيادة الصورة»(٣) ازدهارًا تامًّا. ههنا فقط أصبح لدينا صور، تكتفي بذاتها تمامًا، حتى من دون إطار أو محيط يؤطرها، هي بعدُ أعمال منفردة ومغلقة. ويمكن للمرء بوجه ما أن يتعرف في مطلب concinnitas(٤) الذي فرضه ل. ب. ألبارتي(٥) إلى تعبير نظري جيد عن المثل الأعلى الجديد للفن، الذي عين رسم الصورة (٦) في عصر النهضة.
بيد أنه يبدو لي أنه من المميز أن تكون التعيينات
المفهومية الكلاسيكية للجميل عامة هي التي يستدعيها منظرُ «الصورة» هنا. إن الجميل
هو على نحو لا يحق أن يؤخَذ منه ولا أن يضاف إليه شيء، متى كان يجب ألا يُدمر للتو
بما هو كذلك، [141]، فذلك ما كان يعرفه أرسطو، الذي لا نشك في أن الصورة في معنى
البارتي لم تكن موجودة لديه. يشير ذلك إلى أن مفهوم «الصورة» يمكن -بناءً على ذلك-
أن يكون له معنى عام، يجب ألّا يكون محدودًا بطور معين من تاريخ الصورة. إن
النمنمة «الأتوني»(٧) والأيقونة البيزنطية هي بالمعنى الأوسع صورة، حتى إن كان رسم
الصورة في هذه الأحوال يتبع مبادئ مغايرة تمامًا وتتخصص على الأرجح من خلال مفهوم
«الرمز التصويري»(٨).
وفي المعنى نفسه، فإن المفهوم الجمالي للصورة
إنما ينبغي له دومًا أن يضم معه النحت الذي يعد من الفنون التشكيلية. ليس الأمر
تعميمًا اعتباطيًّا، بل هو يقابل ما حدث على مدى التاريخ من وضع إشكالي للجماليات
الفلسفية، يعود في آخر المطاف إلى دور الصورة في الأفلاطونية ترسب في استعمال
[لفظة] الصورة في اللغة العادية.
إن مفهوم الصورة في القرون الحديثة لا يمكن بلا ريب أن يصلح
بوصفه منطلقًا معلومًا بنفسه. وإنما يريد المبحث التالي بالأحرى أن يتحرر من هذا
الافتراض المسبق. وإن وُكده هو أن يقترح بالنسبة إلى نمط كينونة الصورة وجهًا من
التصور يخلصه من العلاقة بالوعي الجمالي وبمفهوم الصورة، اللذيْن عودنا بهما رواقُ
الفنون الحديث، ويصله من جديد بمفهوم «التزويق»(٩) الذي ساء صيتُه بسبب جماليات
التجربة المعيشة.
فإذا كان له في ذلك بعضُ التقاء مع البحث الحديث في تاريخ الفن،
الذي قطع صلته بالمفهوم الساذج للصورة والنحت، اللذيْن سيطرا في عصر فن التجربة
المعيشة ليس فقط على الوعي الجمالي وإنما أيضًا على التفكير في تاريخ الفن، فإن
هكذا التقاء لا ريب أنه ليس من المصادفة في شيء. بل على الأرجح إن في عمق البحث في
علم الفن كما في عمق التفكر الفلسفي لتكمن أزمةُ الصورة نفسُها التي نجمت عن
عصر(١٠) الدولة الصناعية والإدارية ومجالها العمومي الموظف. إنه فقط منذ أن
عُدِمنا مكانًا للصور، عرفنا في المقابل(١١) أن الصور ليست صورًا فحسب، بل إنها
تطالب بالمكان.
إشكالية
الأصل والنسخة
إن الغرض من التحليل المفهومي الذي نعرضه هو على ذلك ليس من باب
نظرية الفن بل هو غرض أنطولوجي. وإن نقد الجماليات التقليدية، الذي ارتآه أول
الأمر، لا يعدو أن يكون له سوى مدخل إلى الظفر بأفق يحيط بالفن والتاريخ معًا.
ولدى تحليل مفهوم الصورة نحن لن نضع نصب عينينا غير سؤالين على وجه الحصر. [142]
فنسأل بادئ الأمر من أي جهة نظر تتميز الصورة عن النسخة(١٢) (ثم بالنظر إلى
إشكالية النموذج(١٣))، ثم، كيف تنتج انطلاقًا من ذلك علاقةُ الصورة بـعالمـها.
بذلك فإن مفهوم الصورة إنما يذهب فيما أبعد من مفهوم العرض(١٤)
المستعمَل حتى الآن، وذلك على الحقيقة، فأي صورة إنما شأنها أن تتعلق من حيث
الماهية بنموذجها. ففي شأن الفنون الانتقالية، التي انطلقنا منها، نحن إنما تكلمنا
عن العرض، ولكن ليس عن الصورة. إن العرض قد ظهر ههنا وكأنه تضاعف. فالشعر(١٥) كما
أيضًا إلقاؤه(١٦)، على الركح مثلًا، إنما هو عرض. أما نحن فقد كان لنا ذا دلالة
حاسمة أن التجربة الأصيلة للفن تمر عبر تضاعف هذه العروض، من دون أن تفرق بينها.
إن العالم الذي يظهر في لعبة العرض لا يقوم مثلما نسخة بجوار العالم الفعلي، بل هو
هذا العالم ذاته في الحقيقة العليا لوجوده. وحري أن الإلقاء، التجسيد على الركح
مثلًا، ليس نسخة، بجوارها يحتفظ نموذج الدراما نفسه بوجود لذاته.
إن مفهوم المحاكاة، الذي استُخدم في طريقتي العرض، لا يعني بذلك
نحوًا من الاستنساخ بقدر ما يعني إظهار المعروض(١٧). فمن دون محاكاة الأثر، لا
يكون العالم هناك كما هو فيه هناك(١٨)، ومن دون الإلقاء فإن الأثر بدوره لن يكون
هناك. فإنما في العرض يكتمل حضور المعروض. ونحن سوف نعدّ الدلالةَ الأساسية
للتواشج الأنطولوجي بين الوجود الأصلي والوجود الذي أُعيد إنتاجه، والأوليةَ
المنهجية التي منحتنا إياها الفنون الانتقالية، أمرًا مبررًا، إذا أمكن للإبصار
المستفاد هنالك أن يصدق على الفنون التشكيلية. ولا ريب أن المرء لا يستطيع أن
يتكلم هنالك عن الاستنساخ كما عن الوجود الأصيل للأثر.
إن الصورة، من جهة ما هي أصل، إنما تدفع عن نفسها على الأرجح أن تصير
شيئًا يُستنسَخُ(١٩). كذلك يبدو من الواضح أن المستنسَخ في النسخة من شأنه أن يملك
وجودًا مستقلًّا عن الصورة، وذلك إلى حد أن الصورة إنما تظهر وكأنها توجد بالنظر
إلى المعروض وجودًا أقل. وإنما بهذه الطريقة ينزلق المرء في الإشكالية الأنطولوجية
للأصل والنسخة. أما نحن فشأننا أن ننطلق من أن طريقة وجود الأثر الفني هي العرض
ونتساءل بأي وجه يصبح معنى العرض قابلًا للتحقق منه من طريق ما نسميه الصورة. إن
العرض لا يمكن هنا أن يعني الاستنساخ(٢٠). وسوف يكون علينا أن نعين طريقة وجود
الصورة على نحو أكثر قربًا وذلك بأن نميز الطريقة التي بها يتعلق العرضُ ضمنها بما
هو أصلي، عن علاقة الاستنساخ، وصلة النسخة بالأصل.
ذلك أمر قد يتوضح من طريق تحليل أكثر دقة، ضمنه يمكن للأولية القديمة
[143] للحي، للـ zôon، وبالأخص
للشخص، أن تأتي رأسًا إلى مرمى النظر. ففي ماهية النسخة أنه ليس لها من مهمة أخرى،
سوى أن تشبه الأصل. إن مقياس تناسبها هو أن يتعرف المرء إلى الأصل في النسخة. ذلك
يعني أن قدرها هو أن تُلغي وجودَها لذاتها وأن تخدم بالكلية توسطَ المنسوخ. إن
النسخة المثالية ستكون بذلك صورة المرآة. إن لها بالفعل وجودًا زائلًا. وهي لا
توجد إلا لمن ينظر في المرآة، وما وراء ظهورها الصرف هي لا شيء. بيد أنه في
الحقيقة، هي على وجه العموم ليست صورة ولا نسخة، إذْ ليس لها وجود لذاتها(٢١). إن
المرآة إنما تعكس الصورة، وذلك يعني أن المرآة لا تجعل ما تُريه(٢٢) للمرء،
مرئيًّا، إلا طالما كان المرء يرى في المرآة، ويحتفظ(٢٣) فيها بصورته الخاصة أو
بأي شيء يتراءى فيها.
وبناءً على ذلك ليس من قبيل المصادفة أننا نتكلم هنا عن صورة وليس عن
نسخة أو استنساخ. ففي صورة المرآة إنما الموجود ذاته هو الذي يظهر في الصورة، بحيث
إنني أملكه هو ذاته في صورة المرآة. أما النسخة، فإنها على الضد من ذلك تريد ألا
تكون مرئية إلا بالنظر إلى المقصود معها(٢٤). إنها نسخة، لا تريد أن تكون شيئًا
آخر غير إعادة لشيء ما وإنما لها وظيفتها الوحيدة في التعريف بذلك الشيء نفسه
(مثلًا صورة الهوية أو الإشهار في كاتالوغ بيع(٢٥)).
إن النسخة تُلغي نفسها بنفسها في معنى أنها تؤدي دور الوسيلة،
ومثل كل وسيلة هي بالبلوغ إلى هدفها تفقد وظيفتها. إنها توجد لذاتها، وذلك من أجل
أن تُلغي نفسها على هذا النحو. هذا الإلغاء الذاتي للنسخة هو لحظة قصدية في وجود
النسخة ذاتها. ولدى تغير القصد، مثلًا متى أراد المرء أن يقارن النسخة بالأصل وأن
يحكم على مدى شبهها وأن يميزها عندئذ مِن الأصل، فإنها تبرز مظهرها الخاص إلى
العيان، مثل أي وسيلة أو أداة أخرى، لم تُستَعمَل، وإنما وُضعت موضع الامتحان.
وعلى ذلك هي لا تملك وظيفتها الأصيلة في التفكر الذي يقارن ويميز، بل من جهة ما
تُحيل، بالاستناد إلى شبهها، على الشيء المستنسَخ. بذلك هي تحقق نفسها في إلغاء
نفسها.
أما ما هو على الضد من ذلك صورة، فإن قدره على وجه العموم ليس في
إلغاء نفسه. وذلك أنه ليس وسيلة لغاية ما. فإن الصورة ذاتها هنا هي المقصود، من
حيث إن ما يتوقف عليه الأمر على وجه الدقة هو كيف يعرض المعروض نفسه فيها. ذلك
يعني بادئ الأمر أن المرء لا يُبعَثُ به فحسب منها إلى المعروض. إن العرض لَيبقى
بالأحرى مرتبطًا في جوهره مع المعروض، بل، هو ينتمي إليه كشطر منه. ذلك أيضًا هو
السبب في أن المرآة إنما تعكس الصورة وليس النسخة [144]: إنها صورة الذي يعرض نفسه
في المرآة وهي لا تقبل الانفصال عن حضوره. إن المرآة يمكن أن تعطي صورة مشوهة، لا
ريب. لكن ذلك ليس سوى نقص فيها؛ إذ هي لا تؤدي وظيفتها على الوجه الصحيح. بذلك فإن
المرآة تعزز ما يجب من حيث الأساس أن يُقال هنا من حيث إنه فيما يتعلق بالصورة
إنما يتوجه القصد إلى الوحدة الأصلية، وعدم التمييز بين العرض والمعروض. إن صورة
المعروض– صورتـ«ـه» (وليس صورة المرآة)، هي ما ينكشف في المرآة.
الصورة
والمعروض
إنه في بداية تاريخ الصورة فحسب، كشيء ينتمي بوجه ما إلى ما قبل
تاريخها، إنما كان هناك فتنة ساحرة للصورة، قائمة على الهوية وعدم التمييز بين
الصورة والشيء المنسوخ(٢٦)، فذلك لا يعني أن وعيًا بالصورة، لا ينفك يصبح أكثر
تفاضلًا، ويبتعد أكثر فأكثر من الهوية السحرية، يمكن أن ينفصل عنها كليةً. بل إن
عدم التمييز يظل سمة جوهرية في تجربة للصورة. إن عدم إمكانية تعويض الصورة
وقابليتها للتأثر و«قدسيتها» إنما تجد، فيما أظن، أساسها المناسب(٢٧) في نطاق
أنطولوجيا الصورة التي قدمناها. إن تقديس «الفن» في القرن التاسع عشر، الذي رسمنا
ملامحه، إنما يعيش هو أيضًا على هذا الأساس.
والآن فإن المفهوم الجمالي للصورة لم يُدرَك، والحق يُقال(٢٨)،
بواسطة نموذج صورة المرآة في ماهيته التامة. إن عدم قابلية انفصال الصورة عن
«المعروض» هو فقط ما أصبح باديًا للعيان. لكن ذلك مهم كفايةً، من حيث إنه قد أصبح
واضحًا أن القصد البدئي، فيما يتعلق بالصورة، لا يفرق بين المعروض والعرض. وإنه
فقط على نحو ثانوي إنما ينبني على ذلك؛ ذلك القصد المخصوص الذي سمّيناه التمييز
«الجمالي». إنه ينظر إلى العرض بما هو كذلك في تقابله مع المعروض. وهو بلا ريب لا
يفعل ذلك على النحو الذي يتلقى معه نسخةَ شيء منسوخ في العرض، بالطريقة التي بها
يتلقى المرء النسخَ في مجرى العادة. وهو لا يريد من دون شك أن تُلغي الصورةُ نفسها
من أجل أن تسنح للمعروض بأن يكون حاضرًا. على الضد من ذلك إن الصورة تجعل وجودها
الخاص ذا صلاحية، حتى تجعل المعروض يوجد وجوده.
وهنا أيضًا تفقد الوظيفة الهادية(٢٩) لصورة المرآة صلاحيتها. إن
صورة المرآة هي على وجه الدقة مجرد مظهر، بمعنى ليس لها أي وجود فعلي وهي تُفهَم
في وجودها الخاطف بوصفها تابعة لعمل المرآة(٣٠). والحال أن الصورة إنما لها
بالمعنى الجمالي للكلمة معنى مخصوص. هذا الوجود الذي هو وجودها الخاص بما هو عرض،
وعلى وجه الدقة من حيث كونها ليست متماهية مع المعروض، إنما يمنحها، في مقابل مجرد
النسخة، العلامة الموجبة على أن تكون صورة. حتى التقنيات الآلية للصورة في الوقت
الحاضر يمكن أن تُستخدَم على صعيد الفن،[145] من جهة ما تستخرج من المنسوخ شيئًا،
هو في مجرد منظره بما هو كذلك لا وجود له. إن هكذا صورة ليست نسخة، وذلك أنها تعرض
شيئًا، من دونها، هو لن يعرض نفسه. إنها تُخبر عن الأصل شيئًا ما. مثلًا: رسم
بورتريه جيد(٣١).
بذلك فإن العرض إنما يظل في معنى جوهري مرتبطًا بالأصل الذي في
صلبه هو يقع عرضه. وبناءً على ذلك هو أكثر من نسخة. إن العرض صورةٌ وليس الأصل
ذاته، لا يعني بأي وجه شيئًا سلبيًّا، أو مجرد تنقيص في الوجود، بل هي بالأحرى
فعلية مستقلة بنفسها. وهكذا فإن علاقة الصورة بالأصل إنما تعرض نفسها على نحو
مغاير في أساسه عن تلك التي تسوغ فيما يتعلق بالنسخة. إنها لم تعد علاقة أُحادية
الجانب.
إن للصورة فعليةً خاصة، إنما يعني الآن على
العكس من ذلك بالنسبة للأصل أنه إنما في صلب العرض هو يقع عرضه. إنه يعرض ههنا
نفسه بنفسه. ولا يعني ذلك أن ثمة حاجة لأنْ يكون على وجه الحصر مقترنًا بهذا العرض
حتى يظهر. فهو يمكن له أن يعرض نفسه كما هو على نحو مغاير أيضًا. بيد أنه حين يعرض
نفسه على هذا النحو، فذلك لم يعد حادثًا عابرًا، بل ينتمي إلى وجوده الخاص. إن كل
عرض من هذا القبيل هو حادثُ وجودٍ وهو يساهم في تشكيل رتبة الوجود التي للمعروض.
فمن طريق العرضِ يكتسب بوجهٍ ما مزيدًا من الوجود. إن القوام الخاص بالصورة يتعين
من ناحية أنطولوجية بوصفه نحوًا من فيض الأصل.
فمن شأن ماهية الفيض أن يكون الفائض(٣٢) شيئًا زائدًا عن الحد. وما
يفيض عنه لم يصبح بذلك أقل من ذي قبل. إن تطور هذه الفكرة عبر الفلسفة الأفلاطونية
المحدثة، التي نسفت بها ميدان أنطولوجية الجوهر اليونانية، هو الذي أسس رتبة
الوجود الموجبة للصورة. إذْ حين لا يكون الواحدُ الأصلي أقل بسبب صدور(٣٣) الكثير
خارجه، فذلك يعني أن الوجود قد صار أكثر.
ويبدو أن الآباء اليونانيين قد استخدموا بعدُ هذا النحو من
المسارات الفكرية للأفلاطونية المحدثة، وذلك حين تخلوا، بالنظر إلى دراسة المسيح،
عن معاداة الصور(٣٤) التي في العهد القديم. ففي تحول الرب إلى بشر هم قد رأوا
نحوًا من الاعتراف الأساسي بالظاهرة المرئية(٣٥)، ومن ثمة تحصلوا لأعمال الفن على
وجه من الشرعية. ويحق للمرء فعلًا أن يرى في هذا التجاوز لمنع الصور الحدثَ الحاسم
الذي من طريقه صار ازدهار الفنون التشكيلية في الغرب المسيحي ممكنًا.
وهكذا فوراء فعلية وجود الصورة إنما تكمن
العلاقة الأنطولوجية بين الأصل والنسخة. وعلى ذلك فإنه يجب على وجه الدقة أن نرى
أن العلاقة المفهومية التي وضعها أفلاطون بين النسخة والأصل لا تستنفد تكافؤ
الوجود الذي من شأن ما نسميه صورة. ويبدو لي، [156] أن المرء لا يمكن أن يخصص نمط
وجودها على نحو أفضل مما لو فعل ذلك عن طريق مفهوم من القانون المقدس، ونعني عن
طريق مفهوم النيابة(٣٦).
الصورة
والتمثيل
ومن البيّن أن مفهوم التمثيل لا يبرز هنا في غير شيء، متى أراد
المرء أن يعين رتبة وجود الصورة في مقابل النسخة. إنه يجب أن يحدث تحول جوهري، بل
انقلاب في العلاقة الأنطولوجية بين الأصل والنسخة، حتى تكون الصورةُ لحظةً من
«التمثيل» ومن ثمة تملك تكافؤًا خاصًّا في الوجود. بذلك يكون للصورة استقلال من
شأنه أيضًا أن يبسط فعله على الأصل. إن الأمر، على وجه الدقة، من خلال الصورة فقط
[147] يتحول الأصل (Urbild) بالمعنى الخاص إلى صورة أصلية (Ur-Bild)، أي بفضل الصورة فقط يصبح
المعروض بالمعنى الخاص حاملًا للصور(٣٧).
ذلك أمر تتيسر الإبانة عليه من طريق الحالة المخصوصة للصورة
القائمة على التمثيل. كيف يظهر الحاكم ورجل الدولة والبطل، هذا ما يُعرَض بالصورة.
ماذا يعني ذلك؟ قطعًا لا يعني ذلك أن المعروض سيكتسب من خلال الصورة طريقةً في
الظهور جديدةً وأكثر أصالة. بالأحرى إن الأمر لَيُعكَسُ. فإنه من أجل أن الحاكم
ورجل الدولة والبطل يجب أن يبرز بنفسه ويعرض نفسه على أصحابه، من أجل أن يحضر من
خلال التمثيل(٣٨)، فإن الصورة من شأنها أن تكتسب فعليتها الخاصة. وبناءً على ذلك
ثمة هنا نكتة ينقلب معها الأمر وجهًا لظهر. إنه ينبغي له هو ذاته، حين يظهر
للعيان، أن يناسب انتظار الصورة التي تُنسَب إليه. وإنه فقط من أجل أنه يملك وجوده
كما نرى في الظهور للعيان(٣٩)، فهو يصبح معروضًا من خلال الصورة خاصة. فما هو أولُ
هو عرضٌ لنفسِه(٤٠)، وما هو ثانٍ هو العرضُ من خلال الصورة، الذي يجده هذا العرض
لنفسه.
إن تمثيل الصورة هي حالة جزئية من التمثيل من
جهة ما هو حدث عمومي. لكن الأمر الثاني إنما يعود فيفعل أيضًا في الأمر الأول. إن
ما وجوده ينطوي في ماهيته على الظهور للعيان، هو أمر لم يعد مُلْكَ نفسه. فهو لا
يستطيع أبدًا على سبيل المثال أن يتفادى عرضه في شكل صورة –ومن أجل أن هذه العروض
تعين الصورة التي يملكها المرء عنه، فهو ينبغي له في آخر الأمر أن يظهر للعيان كما
تُملي عليه صورتُه أن يكون. ومهما كان وقع ذلك منافيًا للرأي السليم: إن الأصل لا
يصبح صورة إلا عن طريق الصورة– وبناءً على ذلك ليست الصورة شيئًا غير تجلي الأصل
وانكشافه.
نحن لم نتحقق حتى الآن من «أنطولوجية» الصورة هذه إلا بالاعتماد
على أوضاع دنيوية. لكنه من البيّن أن الصورة الدينية هي وحدها التي من شأنها أن
تبرز القدرة الأصيلة لوجود الصورة إبرازًا تامًّا؛ إذ من الخليق فعلًا بما هو إلهي
أنه لا يحصل على طابعه التصويري(٤١) إلا عن طريق الكلمة والصورة. إن دلالة الصورة
الدينية إنما هي بذلك نموذجية. ففيها صار من الواضح بلا ريب أن الصورة ليست نسخة
من وجود منسوخ، بل هي متحدة طبقًا لوجودها مع المنسوخ. وانطلاقًا من المثال الذي
تقدمه يصبح بيّنًا أن الفن [148] عامةً وبمعنى كلي إنما يمنح الوجودَ زيادةً في
طابعه التصويري. وليست الكلمة والصورة مجرد تدعيمات لاحقة، بل هي تمكن الشيء الذي
تعرضه من أن يكون بذلك لأول مرة ما من شأنه أن يكون.
في
وظيفة الكلمة الشعرية والفن التشكيلي
في
علم الفن ينكشف الجانب الأنطولوجي للصورة في المشكل الخاص بنشأة الأنماط وتحولها.
ويبدو لي أن خصوصية هذا الوضع إنما ترتكز على أننا هنا أمام صيرورة مضاعفة للصورة،
وذلك من حيث إن الفن التشكيلي إنما يقوم مرة أخرى، في مقابل التقليد الشعري
والديني، بالأمر نفسه الذي كان يفعله ذلك التقليد ذاته. إن قولة هيرودوت الشهيرة
بأن هوميروس وهيزيود هما اللذان خلقا للإغريق آلهتهم، تعني خاصةً أنه، ضمن التقليد
الديني المتعدد الأشكال الذي عرفه الإغريق، إنما هما اللذان جلبا المنظومة
اللاهوتية لعائلة من الآلهة(٤٢) ومن ثم ولأول مرة ثبّتا هيئات متباينة تبعًا للشكل
(eidos) والوظيفة (timē). إن الشعر قد أنجز هنا عمل اللاهوت. ولكونه قد عبر عن علاقات
الآلهة فيما بينها، هو قد نجح في تثبيت نحو من الكل المنظم.
بذلك
هو قد جعل خلقَ أنماطٍ ثابتة أمرًا ممكنًا، وذلك من حيث إنه أوكل للفن التشكيلي
حريةَ صياغتها وتشكيلها. وكما أن الكلمة الشعرية(٤٣) تُدخل على الشعور الديني وحدة
أولى تجاوز الطقوس المحلية، كذلك هي تضع للفن التشكيلي مهمة جديدة؛ وذلك أن
الشعري(٤٤) يحتفظ دومًا بعدم ثبات هو خاص به، وذلك لكونه يضع للعرض، ضمن الكلية
الروحية للغة، شيئًا لا يزال مفتوحًا أمام أي شاغل من شواغل المخيلة. إن الفن
التشكيلي هو وحده الذي يحدد ومن ثم يخلق الأنماط. وذلك يصح تحديدًا حتى لو لم يخلط
المرء بين خلق «صورة» ما هو إلهي واختراع الآلهة ولم يتقيد(٤٥) بما دخل عن طريق
فيورباخ من قلب لأطروحة صورة الرب(٤٦) في سفر التكوين. هذا القلب الأنثروبولوجي
وهذا التغيير في تأويل للتجربة الدينية، الذي أصبح سائدًا في القرن التاسع عشر،
إنما صدر على الأرجح من النزعة الذاتية عينها، التي تستند إليها طريقة تفكير
الجماليات الحديثة.
هوامش:
(١) هذا النص ترجمة لفصل مقتطف من كتاب:
– Hans-Georg Gadamer, Hermeneutik
I. Wahrheit und Methode. Grundzüge einer philosophischen
Hermeneutik. J. C.B. Mohr (Paul Siebeck) Tübingen 1990, S. 140-149; – Vérité et
Méthode. Les grandes lignes d’une herméneutique philosophique. Paris, Éditions
du Seuil, 1996, pp. 153-162.
(٢) eine differenzierte Geschichte.
(٣) Bildhoheit.
(٤) concinnitas.
– مصطلح يشير إلى الحرص الجمالي على الشكل والنظام من أجل مناغمة
العناصر الإنسانية مع القواعد الطبيعية والرياضية أو الإيقاعية. تطور خاصة مع
النزعة الإنسانية في عصر النهضة. ويمكن أن يُستعمل في فن المعمار أو الأدب أو
الخطابة. وهو يشبه «البديع» في تراثنا.
(٥) Leon
Battista Alberti (1404-1472).
رسام
ومعماري ومنظر إنسانوي من عصر النهضة.
(٦)
Bildgestaltung.
(٧) ottonisch.
«الفن الأتوني» و«النهضة الأتونية» مرحلة ازدهار ثقافي وفني نسبة
إلى عائلة جرمانية نبيلة تحمل اسم «الأتونيين» (Ottonen)، بدأت في بسط سلطتها على
مملكة جرمانيا وعلى القسم الشرقي من إمبراطورية الغرب الكارولنجية بداية من 919
للميلاد.
(٨) Bildzeichen.
(٩) Das Dekorative.
(١٠) Die
Gegenwart.
(١١) wieder. ساقطة في الترجمة الفرنسية (1996: 154).
(١٢) das Abbild.
(١٣) das
Ur-Bild.
(١٤)
Darstellung.
(١٥) Dichtung.
(١٦) die
Wiedergabe.
(١٧) das
Dargestellte.
(١٨) ist…nicht
so da, wie sie in ihm da ist.
(١٩) das
Reproduziertwerden.
(٢٠) هذه الجملة ساقطة في الترجمة الفرنسية ( 1996: 155).
(٢١) kein
Fürsichsein.
(٢٢) spiegelt.
(٢٣) gewahrt.
(٢٤) das mit ihm
Gemeinte.
(٢٥)
Verkaufskatalog.
(٢٦)
Abgebildetem.
(٢٧) angemessene.
لفظة
ساقطة في الترجمة الفرنسية (1996: 157).
(٢٨) freilich.
لفظة
ساقطة في الترجمة الفرنسية (1996: 157).
(٢٩) die
Leitfunktion.
(٣٠) die Spiegelung.
(٣١)
Porträtfoto.
جملة
ساقطة في الترجمة الفرنسية (1996: 158).
(٣٢) das
Emanierte.
(٣٣) der Ausfluß.
(٣٤) die
Bilderfeindlichkeit.
(٣٥) die
sichtbare Erscheinung.
(٣٦)
Repräsentation.
(٣٧) bildhaft.
(٢٨)
repräsentieren.
(٣٩) das
Sichzeigen.
(٤٠) das
Sich-Darstellen.
(٤١)
Bildhaftigkeit.
(٤٢)
Götterfamilie.
عبارة
ساقطة في الترجمة الفرنسية (1996: 161).
(٤٣)
dichterische.
(٤٤) das Poetische.
(٤٥)
sich…freihält.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق