في الفلسفة والفكر - محمد أبو هاشم محجوب - مدارات ثقافية

احدث المواضيع

الأحد، 3 سبتمبر 2023

في الفلسفة والفكر - محمد أبو هاشم محجوب

كثيرا ما نمرّ بسرعة قصوى على هذا المثنى الإشكالي: الفكر والفلسفة، حتى إنّ بعضهم يجد من الطبيعي أن يقول إننا نتفلسف بمجرد كوننا نفكر.. سأقول بإيجاز - على أن اعود لاحقا بأكثر تفصيلا - إنّ الفكر هو "فعل" الفلسفة (l’Acte de la philosophie)، وإنّ الفلسفة هي الإطار للفكر، والنطاق له والسياق والحدّ. طبعا. لأنّه لا ينبغي أن يغيب عنا أنّ الفكر هو أيضا "فعل" المعرفة العلمية، بل "فعل" المعارف العلمية، وفعل استراتيجيات بناء المواقف وإنجاز الأشياء والصنائع جميعها ودون استثناء: أليس المؤرخ يفكِّر؟ أليس الفقيه يفكِّر أليس الفيزيائي يفكِّر كذلك؟ أليس الإسكافي يفكر؟ أليس الحداد والنجار والبحار والمزارع والبقال ورياضي ألعاب القوى، ولاعب كرة القدم، أليسوا كلهم يفكرون؟ بل أليست التجربة المخبرية نفسُها تجسيدا لتفكير كان كنط بيّن لنا منذ قرون أنه لا يتمُّ إلا ضمن تعقُّل يرسم قبليًّا حدود جريان الأمور في الطبيعة وينقل جريانها الطبيعي إلى جريانها الذي نستفزُّه استفزازا ونستحدثه استحداثا في المخبر؟ ثمّة إذن دائما وفي كلّ المعارف تفكيرٌ.

ما الذي يفرّق إذن بين الفلسفة والتّفكير: مستويان اثنان سأصوغهما تأليفيًّا، وقد يؤدّي تفصيل القول فيهما لاحقا إلى أن تتراءى لنا مستويات جزئيَّة أخرى = الموضوع والمنهج. فالموضوع تعرّفه حدودُه التي تميزه: كل المعارف التي ذكرت تفكر مثلا في الأرض. ولكن بعضها يرسم حدوده على أنها التّفاعلات الفيزيائية التي تجعل الأرض مستقرة بفعل الجاذبية العامة: وإنما، لأنَّه يرسم هذه الحدود، هو فيزياء؛ وبعضها يرسم حدوده على أنها حساب العلاقات الرياضية المجردة والقابلة – أو غير القابلة - للتطبيق في معارف أخرى من قبيل الفيزياء أو الجيولوجيا أو البيولوجيا: وإنما لأنه يرسم حدوده على أنها هذا التماسك الداخلي لعلاقات التلازم بين النتائج والمقدمات، يكون هو الرياضيات؛ وبعضها الآخر يرسم حدوده على أنها العلاقات الفلكية القائمة بين الكواكب والمجرات التي يأتلف منها نظام الكون ... في كل هذه المعارف نحن نفكّر.

ما معنى أنّنا نتفلسف إذن؟ ما طبيعة الموضوع الذي تختصّ به الفلسفة؟ يمكننا أن نجمل ذلك في عبارة بسيطة: إنّ موضوع الفلسفة هو علاقات المعنى التي بين مختلف عناصر وجودنا، وهي علاقات تصبح لعبة سخيفة إذا ما نحن اقتصرنا في توصيفها على تطبيق تقنية من التقنيات، لأن خاصية الفلسفة أنها في عين منهجها تتهم المنهج الذي يعترضها وتتظنن عليه بضمنياته. وهي في طرحها للسؤال عن هذه العلاقات تخرج عن إطار التّفسير الذي تقدمه العلوم المختلفة لتقترح إطارا أعمّ وأشمل هو إطار يستغل ما تقدمه مختلف المعارف المذكورة وغيرها ممّا لم نذكر، ليطرح مسألة المعنى من جهة الغاية ومن جهة المأتى، ومن جهة الأفضل ومن جهة الأصلح.

ولكن الفلسفة إذ هي تحاول أن تطرح هذه الأسئلة تعترض جميع الخطابات الأخرى، بما في ذلك خطابها هي، وتعمل على تفكيكها واستعراض تاريخ تكوّنها وبيان منطقها العلومي المخصوص في كل مرة: إن الفلسفة هي هذا الخطاب الذي مهمته ضمنيات كل خطاب، ومساءلته عن حدوده التي لا يراها لأنه مشغول، مستهلك، مأخوذ، بعلاقة النتيجة بالمقدمات، وبارتباط المفاعيل بالأسباب، وبحساب تواتر الظواهر واحتمالاتها إلخ. إنّ المنطق الصّامت، الضمنيّ، المفترض، الذي في خطابات المعارف، وفي خطابات الأخلاقيّات، وفي خطابات الأديان، وفي أبهج شعريات اللغة والكون، وفي أقوى إخراجات المشاهد المسرحية أو الاستعراضية، وفي أطرب تراكيب الأنغام والهرمونيات، وفي بناء جميع المعارف والمواقف، ذلك هو هو، هو عينُ، موضوع الفلسفة. وهي لذلك تفكر تفكيرا يختصّ بموضوعه أولا، ولكنه يختص كذلك بضرب من التقنية الموقفية، وحتى الرّوحية (une attitude d’esprit): هي تقنية عدم التصديق، والتظنّن على كل إقرار بأنه يضمر ما قد يعوقه هو، أو ما قد يغالطنا نحن، أو ما قد يخفى عنّا. أن نفكر فلسفيا إذن هو أن لا نعمى عن شيء، أو على الأقل أن لا نتوقّف عن اتهام كل شيء. لا تبحثوا عن الإيمان في خطاب الفيلسوف. هو يعرف أن الإيمان موجود، ولكنه يمر من أمامه مثلما نمر من أمام الأشجار النابتة على حافة الطريق: ونعلم جميعا أننا لو توقفنا عندها لانتهى المشهد .. لماذا؟ لأن مشهد الأشجار ليس مطلوب السير، وإنما السير نفسه هو مطلوب نفسه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق