أصبحت التفاصيل
الجزئية المتعلقه بحياتنا الإجتماعية جزءا محوريا في مجموعة العلامات التي تظهر هويتنا. بات للبشر
ثقافات، وهي أنظمة غنية ومعقدة يعلمها
بعضنا بعضا، وتختلف من مجتمع إلى آخر. وتجاوزت
الثقافات مهمة تحديد انتماء
الأشخاص؛ بل أبقت أفرادها في حالة من الأمان والشبع واحتفظت بأهمية عميقة بالنسبة إلى
أولئك الأفراد بطريقة لا يمكن لأي شمبانزي تعرفها.
وفي النهاية
ظهرت جميع أنواع السمات الاجتماعية كحصيلة لخلق أسلافنا، و تعديلاتهم وتنويعاتهم لأنماط السلوك
الثقافي. وبهذه الوسيلة يجدد البشر على نحو
تراكمي، ويحسنون كل شيء يفعلونه، وهي سمة بشرية فريدة تسمى ترسيخ الممارسات الثقافية. تعاظم الترسيخ
على مدى الـــــ 50 ألف سنة الماضية، ولا سيما خلال الـ 10 آلاف سنة الماضية إلى أن
استمرت ليس من قرن إلى قرن فقط، بل من سنة إلى سنة وباتت بعض التحسينات مشتركة على
مدى حدود المجتمع، كما هو الحال في موديلات الهواتف الخلوية اليوم. وعلى مدى هذا التقدم
حول الناس أي شيء يحبونه إلى علامة على هوياتهم لإيجاد علاقة رمزية معقدة من المستحيل
على الغرباء تقليدها.
على رغم أننا
لا نستطيع تخيل عالم من دون هذا التجدد الأبدي، فإن جزءا كبيرا منه نتاج الرأسمالية
الاستهلاكية المعاصرة مثل هذا التلاعب الدائم ليس إلزاميا للحياة البشرية. إذ تشير
العلامات الأثرية المتفرقة للمجتمعات الأولى إلى أن التجديدات كانت نادرة جدا لمعظم
وقت الوجود الإنساني، مع تبدلات طفيفة مع الخطوات القليلة المتخذة إلى الأمام. كانت
تجارب 99 في المائة من الأجيال البشرية التي عاشت متشابهة إلى حد بعيد مع تجارب آبائهم
وأجدادهم من قبلهم، وتحولت مجتمعاتهم بحدوث تغييرات طفيفة لا تكاد تسجل على غبار العصور.
وأحد الأدلة على ذلك هو أن عملية الترسيخ الثقافي التي تتضح في بيناكل بوينت لا تكاد
تلحظ فوق معدل صفر تغييرا عن الشمبانزي الكاسر للجوز، الذي استعمل حجارة مشابهة للمطارق
على مدى آلاف السنوات.
ربما لم يجدد
البشر الأوائل كثيرا لأن عددهم كان قليلا. فالتفاصيل الثقافية بحاجة إلى عدد كبير من
السكان. وعلى رغم تأكيداتي السابقة بشأن اعتماد الصيادين الجامعين على أنفسهم، فإن
تذكر طريقة فعل الأمور لم تكن مخزنة «بالكامل» في رأس كل فرد منهم. يذكر بعضنا بعضا
على نحو دائم بشأن كل شيء يمكن تخيله. والمسؤولية عن التذكر موزعة على الجميع - لنسمها
الذاكرة الجمعية بالنظر إلى أن أسلافنا كانوا يفتقرون إلى الكتب أو الإنترنت، فإنهم
كانوا يعتمدون بعضهم على بعض. وكلما تواصلوا أكثر معا، تقلصت إمكانية النسيان، وتضاءلت
المسؤولية على كل شخص كي يعرف كيفية إنجاز كل مهمة حتى التفصيل الأخير. التعلم البشري
ليس مثاليا ويمكن للمهارات أن تتردى بمرور الوقت لكن مع وجود عدد كاف من الناس يتواصلون
معا يمكن للذاكرة الجماعية أن تتسع وان تزداد كفاءتها، ليس من مجموعة إلى أخرى بل في مجتمعات بأكملها تتعلم من جيرانها.
ما كانت الذاكرة
الجمعية ستمتد بنا إلى ما قبل 50 ألف سنة، عندما كان وجود البشر نادرا وبالطريقة نفسها
التي من خلالها يجعل التخصص في الوظائف مجتمعا صغيرا عرضة للخطر، فإن الاعتماد المفرط
على معارف الآخرين له مخاطره عندما يكون عدد الناس قليلا ويمكن لمهارات البقاء الأساسية
أن تختفي لمجرد الحظ. وهذا ما يسمى الأثر التاسماني Tasmanian
effect. يعتقد كثير
من علماء الأنثروبولوجيا بأن السكان الأصليين لتاسمانيا نسوا مهارات مثل صنع النار
وصيد السمك بعد انعزالهم قبل 8 آلاف سنة بسبب ارتفاع مياه المحيط الذي جعل سوء تاسمانيا جزيرة.
عانى إنسان
النياندرتال Neanderthal من قلة الكثافة السكانية أيضا. لقد كانت أدمغتهم
أكبر من أدمغتنا، بيد أن مجتمعاتهم كانت أبسط. وقد عُدت هذه البساطة في كثير من الأحيان
غباءً، لكن لأن الحيوانات التي كانوا يصطادونها في مناخ الشمال القاسي كانت كافية لعدد
محدود جدا من السكان، فإن النياندرتال قد يكونون ببساطة قد علقوا في المأزق نفسه الذي
علق فيه الإنسان العاقل الأول.
وقد تكون
إحدى العقبات التي أعاقت التقدم عندما كان عدد البشر قليلا تمثل في مبدأ الصدى الذي
أطلق عليه هذا الاسم لنقل الكيفية التي ينعكس فيها صدى الماضي على مر العصور. يمكن
التخلص من المواد الدائمة الوجود لكن لا يمكن أن تُنسى على نحو كامل. فالأدلة على الأجيال
السابقة موجودة في كل مكان وتمتد من الذاكرة الجمعية للناس إلى الماضي. فتمثال صغير
أو فأس مغروس في التربة يمكن أن يكون قد صنع قبل آلاف السنين، ويمكن أن يكون قد صنع
بالأمس. بالنظر إلى عدم انقطاع رؤية البشر الأوائل لتصميمات أسلافهم، فإنهم استمروا
بالعودة إليها.
مع ازدياد
سلع الحضارات الحديثة كثيرة السكان وحلولها محل السلع التي كانت سائدة في العصور الغابرة،
فإننا فقدنا هذه الممارسة. كان وجود رؤوس السهام على الأرض أمرا شائعا في كولورادو
عندما كنت طفلا، لكن على رغم أننا كنا نلتقطها ونحتفظ بها كتذكارات لم يكن لدينا الدافع
لمعرفة كيفية صنعها. لكن بالنسبة إلى الأفريقيين الأوائل، حتى لاحقا بالنسبة إلى أول
بشر استعمروا أوروبا، وعاشوا بكثافة سكانية متدنية أيضا، ربما كان مبدأ الصدى ما أنقذ
حياتهم. فبدراسة بقايا العصور القديمة لم تتلاش مواهب مثل صناعة الأدوات والتماثيل
الصغيرة على نحو كامل من حياتهم. وهذا قد يفسر كيف يُقلد كثير من القطع الأثرية مع
تعديلات طفيفة على مر فترات
طويلة من الزمن.
وبدلا من
حدوث تطور جوهري في الدماغ، فإن التفسير الأكثر قابلية للتصديق لانتشار السلع المادية
قبل 40 ألفا إلى 50 ألف سنة كان ازدياد عدد السكان على نحو كبير في ذلك الوقت. ويعزى
الانفجار السكاني إلى المناخ الملائم في جميع أنحاء أفريقيا وانتشار البشر في جميع
أرجاء العالم القديم، في ذلك الوقت أو قبل ذلك بقليل. وسبب التعزيز الناجم عن ذلك للذاكرة
الجمعية تطور التقانات العملية وظهور أوجه أخرى للهوية. وبات البشر يتواصلون مع الأجانب
أكثر من أي وقت مضى. والصراعات التي قامت للمحافظة على أنفسهم بعيدين عن أولئك الغرباء
يمكن أن تفسر التعديلات التي ظهرت على الأشياء والتي من المرجح أن تعبر عن عضوية الأفراد
في المجتمعات كما في حالة القلادات والقطع الفنية التي نشأت في هذا الوقت يمكن لعلامات
الهوية هذه أن تنتشر بسرعة. إذ يجادل عالم الأنثروبولوجيا مارتن وبست Martin
Wobst بأن تعديل
الأشياء لإيصال رسالة مفادها أننا «نحن صنعنا هذا» تطلق تفاعلا تسلسليا. فحالما أضاف
مجتمع ما صورة لموضوع ما إلى القدور التي يصنعها، عبّرت الأواني غير المزينة في مناطق
أخرى مباشرة عن أن صُناع الأواني الجديدة «لا ينتمون». ونتيجة لذلك، رد الناس بابتكار
أساليب بديلة ألقت الضوء على هوياتهم هم وبسرعة، ظهرت نسخ لسلع جديدة في منطقة بعد
منطقة وغذت علامات الهوية الجديدة الغنى الثقافي للمجتمعات كما كانت قد يسرت أصلا نمو
سكانها.
ولأن هوياتنا
تظهر جزئيا استجابة إلى التواصل مع مجموعات غريبة والأشياء التي يصنعونها أو يفعلونها
أقترح قاعدة هنا كلما تفاعلت المجتمعات مع منافسين مختلفين ازداد عدد العلامات الدالة
على الهوية التي تظهرها، وتعقيدها وبروزها. عندما ترتص المجتمعات بعضها بقرب بعض من
المرجح أن تصبح شعوبها شبيهة بعضها ببعض لتجنب التشوش والارتباك ولحماية أنفسها. وهذا
يفسر القطع التزيينية المختلفة التى تميز عددا كبيرا من القبائل في شمال غرب المحيط الهادئ. لنفكر بارتفاع عامل
تعرُّف التزيينات والطقوس في جميع أنحاء
غينيا الجديدة وهي جزيرة يقطنها بكثافة أكثر من ألف قبيلة معروفة بملابسها الملونة
والمزركشة بالمقارنة مع الألبسة ذات الشكل الموحد تقريبا لأقاربهم من السكان الأصليين في الجوار في أستراليا.
إن التشكيلة
المتنوعة واللافتة للفنون والتزيينات واللغات والأنشطة التي تميز المجتمعات في جميع
أنحاء العالم ستصبح أكثر تفصيلا على نحو متزايد ويعود أصل كل هذا التنوع إلى تحول جوهري
في المجتمعات مغفلة الهوية حدث عند نشوء نوعنا البشري في البداية، أو في وقت سابق عليه.
أعيد فأوجز أن علامات الهوية التي تستخدمها مجتمعاتنا كان من المحتم أن تبدأ بخطوات
تدريجية من أنماط سلوك ربما، كما تخيلت هنا كانت شبيهة أصلا بتلك التي لايزال بوسعنا
رؤيتها لدى حيوانات الشمبانزي والبونوبو اليوم أولا، كان لا بد من وجود كلمة سر. وقد
شملت علامات الهوية اللاحقة استخدام الجسم بأكمله كلوحة للتعبير عن العضوية في مجتمع
من المجتمعات، بيد أن هذه ما كانت لتترك أثرا في السجل الأثري. قبل بضع عشرات آلاف
السنين ازدهرت مجتمعات أكثر تعقيدا عندما ازداد عدد البشر وتفاعل بعضهم مع بعض على
نحو كاف كي يتذكر الناس على نحو جمعي، وينتجوا، ويرتجلوا لتحسين سمات اجتماعية أكثر
تعقيدا، جزئيا لتمييز أنفسهم من جيرانهم كان المسار المفضي من مجتمعات التعرُّف الفردي
للرئيسيات الأخرى إلى المجتمعات البشرية مغفلة الهوية بالكامل مع كل إسرافها الثقافي
- غير المعروف في عالم النمل، مع علاماته البسيطة الدالة على الهوية وحياته الاجتماعية
المصممة مسبقا - مسارا طويلا. سبق ظهور الحضارات بوقت طويل. كان تطور المجتمعات مغفلة
الهوية جزءا من مشروع ضخم لإعادة الكتابة يمتد من قشرة الدماغ إلى قاعدته ونما جمع
كبير من الدارات العصبية مما كان أصلا تفاعلا بدائيا للمحفزات والاستجابات لعلامات
الهوية والمجموعات التي تتشاطرها. ومنذ ذلك الحين بدأت أدمغتنا المعدلة بربط تمثيلاتنا
للأفراد والمجتمعات بالجمهورية الفوضوية للعواطف والمعاني التي تحرك سلوكنا من لحظة
إلى لحظة وعلى مدى السنوات. لقد بات تفاعل أنماط السلوك تلك التي لم تلق معالجة كافية
من قبل علماء النشوء والتطور تتكشف
بفضل علم النفس.
مارك موفيت : عالم الأحياء و الأنثروبولوجيا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق