الكونُ يقولُ شعراً
يبدأ الإنسان حالماً، راغباً في،
يَعترِيهِ إحساس التعالي على، يَتَملَّكُهُ شعورُ الترفّعِ عن “هنا”، أملاً في أن
يكون “هناك”…
تأمّلوا أطفالنا، ولم يتكلّموا بعدُ، هُمُ
الأكثرُ وَلَعاً بتقليدِ آبائهم وأمّهاتهم، بل همُ الأروعُ في تقليدِ حركاتهِم
ومشيَتِهِم وإيماءاتهِم، وحتى هَمساتهِم؛ فإذا ما تلفّظَ الطفلُ، وقال منطوقاً،
نُنصتُ إلى مُردّدِ أمينٍ لما يَسمَعُ، ومُكرّراً لما بلغَ مَسمَعيْهِ ومُعاوِداً،
دون تمييزٍ أو تفضيلٍ أو فرزٍ لكلّ ما أنصتَ من مُحيطه القريبِ. إنّ الأطفال هم
صورة الإنسان الحالِم، والرّاغبِ في، ومُمتلئ الإحساس بالتسامي، وهم على أملٍ
دائمٍ في أن يكونوا كِباراً وما زالوا في المَهْدِ صبياناً.
إنّها الصورة -المشهد للطفل، وللشاب،
وللكهل، وللشيخ، وللآدميِّ لحظةَ احتضارِهِ مُغادراً الحياة والمعيش المُشتَرَك؛
إنّه بإيجاز الأملُ المعقودُ على المستقبلِ، أملٌ يبدأ أوّل أمره بريئاً، وينمو
محكوماً بكفاية التمييز وإرادة الاختيار بين وبين، مع مقدرةٍ على ضبطِ الرّغبةِ وتوجيهها.
فلكأنّنا إزاءَ شاعرٍ وَهَبَتْهُ السماءُ قوّةً مُتَخيَّلةً وشُعاعاً،
فَتَوَّهَجَتْ روحه ضِياءً، وصارَ لِسانُهُ طليقاً، واستحالَ نورُ العبارة
الشعريّةِ حجاب نورِها، فشعاع النور يعقبه شعاع أشدُّ، وهكذا دون توقّفٍ، وما
عهدنا الشعراءَ مُتَصنّعين، إذ كثيراً ما يفشل المُتَصَنّعُ للنظمِ.
فروحُ الشاعرِ هي عينُها إحساسُ الحالِمِ،
وعبارةُ الشعرِ هي مكمنُ الصورةِ الشعريّةِ وبهجتُها، التي تُمسِكُ بتلابيبِ
المُقبلينَ عليها فيحلفونَ غليظَ الأَيمان: “إنَّهُ والله لَشعرٌ”… وما كان
الإيمانُ الرّاسخِ بالشعريّةِ إلاّ جذوة لهيبِ المشاعرِ، التي أضاءَتْ شمعَتَها ما
كان من اللّغة مُتَوَهِّجاً، مثلما يتسامى لهيبُ النارِ إلى حيث السماءُ، وتشرئبُّ
الأعناقُ تُتابِعُها، وتَتَعَقَبها بعض الأرواحِ، الفطِنةُ، لتتأمّلَ ما في لهيبِ
النارِ من جمالِ الشُعاعِ وبريقُ الإشعاع، ولم يحتفظ اللهيب بصنميّةِ صورته
الرّهيبة المُفزعة المألوفة: كأن “يَصْلَى ناراً ذاتَ لَهَبٍ”، فلا يبقى من
الأشياء غيرُ رمادِها، ولا يستقرُّ من البشر الموتى غير عظامهم، وكثيراً ما لا
تترك النار أثراً على أثرٍ؛ ولكن، وبفضل الشعراء، والشعراء فقط، صار للّهيبِ مجازُهُ
المُختلِفُ، ولنيرانهِ استعارتُها التي يَلمحُها مخيالُ الشعراءِ، ويرسم منها
خيالهم صُوَرَها الشِعريّةَ: فيتمّ للنيران نورُها وللهيبِ شُعاعهُ، فلكأنّ في
الحرائقِ ما يُضيئ العتمةَ، وما يَكشِفُ محجوبَ النفسِ، فتُوقظُ في الرّوحِ
ألَقَها وبهجتَها ورغبتَها في التسامي، على نحو ما يَعلو لهيبُ النارِ ويتوهّجُ
شوقاً إلى السماءِ؛ فينكشف ما في الأنوار المُضيئةِ للعتمةِ من عُمقِ
الإحساسِ بِبَهجةِ ما صارَ كائناً بعد أنْ لمْ يَكُنْ، أو هكذا ما نختزل من حكمة
“غاستون باشلار” (Gaston
Bachelard) في رائعته شعاع الشمعة ( La Flamme d’une Chandelle). فلا يبقى بوسعنا، والحالُ هذه، التَضَنُّنُ على سيادة المشاعر في العَالَمِ،
وسلطةِ استعارة الشعراء، وبَهجةِ سطوةِ عواطفِ البشرِ وشعورهم، وها أنّ “أبا
القاسم الشابي” يختزلُ الوُجُودَ، كُلَّهُ، شِعراً ومَشَاعِرَ وشعرية، فيُصدِرُ
أمرَهُ، وعلى غير المُعتادِ، في لينٍ:
»عِشْ بالشُعُـــــــورِ وللشُعُـــــــورِ فإنّمـــــــــــــا ***
دُنْيَــــــاكَ كَــــــــونُ عواطِفٍ وشُعُورِ
شِيدَتْ على العَطْفِ العميقِ وإنّها ***
لَتَجِفُّ لو شِيدَتْ على التَفكِيرِ«
التقدّم العلمي وشاعريّة العلماء
واعتقدنا المسافَةَ وَسِيعَةً فيما بين
المشاعرِ والعقلِ، وتَوهَّمنا الوِدَّ مُنقطعاً بين الأحلامِ والحِكمةِ، وغالَبَنا
الظنُّ أنّ بين الشعرِ والعلمِ أرحاماً مقطوعةً ووِصالاً مُنعدِماً ووِداداً
مُنقطعاً، وأنّ بين عِلَلِ بُؤسِنا شيئاً ممّا اعتقدنا، وبعضاً ممّا توهّمنا،
وكثيراَ ممّا ظنّنا. فلئن كان الشعرُ صورةً شعريّةً لطفلٍ حالِمٍ، أبداً، فإنّ
العلمَ مظهرُ ذلك الحُلم الذي لا يكُفُّ عن أن يكون، ما بقيَ العلماء على ما هم
عليه من فعلٍ ونشاطٍ؛ لقد اعتقدنا طويلا أنّ العلمَ بنيةٌ، وعلاقاتٌ بين حدودِ
بِنيةَ العقلِ، ووِصالٌ بين نظرِ دقيقٍ وتطبيقٍ عمليٍّ أدقَّ، فقط، وحتى لمّا صارت
النمذجةُ (la modélisation) هي مظهرُ كلّ علمٍ يجدُ في التناغمِ بين الرّموزِ المجرّدةِ وأدواتِ التقنيةِ،
فحسب، المشهدَ الأكثرَ جدارةً بالعلميّةِ، إلاّ أنّا استفَقْنَا على وهميةِ هذا
الاعتقاد، أيضا. فما كان لبنيةِ العقلِ، والصلةِ بين حدودِها أن تَكونَ، وأن
تُنجزَ نماذجها، لو لم يكن في العالِمِ، ذاته، شاعِرٌ حالِمٌ، وطفلٌ ينهضُ وينمو
بأحلامِ اليقَظَةِ الأبديّةِ، فلا يكون من شغل العقل ومقامه، على أهمّيته، غير
موقعِ الأداة والتنفيذ لحُلمٍ لا يكون إلاّ بشريّاً أصيلاً.
أجل، ما كان للعالِمِ أن يُفكّرَ لو لم
يَحثّهُ إحساسٌ، ما، على التفكيرِ؛ وما كان للفكر العلميِّ الجديد أن يحضرَ، الآنَ
وهنا، لو لم تحثّه شاعريّة صاحبه على القطع مع ماضيه، لأنّ روح الشاعر في العلماء
تأبى الاستقرار وتخشاه، إنّها التحقُّقُ “البشلاردي” لشعريّة أحلام اليقظة؛ ولكأنّ “أبا العتاهية” يُردّدُ في دواخلهم:
»طلبتُ المُستَقَرَّ بكُلِّ أرضٍ *** فَلمْ أرَ لي بأرضٍ مُستَقَرّاَ«
إنّ وعيَ العلماءِ -الشعراءِ بالزمَنِ حدْسيٌّ،
فهم يحدِسُونَ الزمنَ ويستشعرونَهُ، مُستَنكرينَ، في آنٍ، ثباتَ حُدودِهِ
المُعتادةِ والمألوفةِ (ماضٍ وحاضرٍ ومُستقبلٍ)، إذ الزمنُ، لديهم، حركةٌ تُحيلُ
لحظتَها الحالّةَ إلى عدَمٍ، ورؤيتها إلى وَهْمٍ، فالماضي هو ما يمضي إلى
المستقبل، والمستقبل هو ما يستقبل الماضي، والحاضر هو نقطة الوصلِ والفصلِ بين ما
كان وما سيكون. وهذه الحركةُ النشيطةُ لا تتوقّف، لأنّها مُتّسقةٌ مع لحظة الحُلم
وامتداده وتجدُّدِهِ بفضل صاحبه، ذاك الحالِم، دائماً.
أليسَ الوعيُ بالجهلِ هو لحظةُ الحُلمِ
بالخلاصِ منه!
أليسَ مُنجَزُ العلماءِ العلميُّ هُوَ
مظهرُ إنجازٍ لحُلمِ اليَقَظةِ!
أليسَ الإنشاءُ التطبيقيُّ للنظرِ
العلميِّ هو تشييدٌ للحُلمِ واعترافٌ بجدواه!
أليسَ تجديدُ النظر العلميّ، وتجاوُزِهِ
لهِناتِهِ، واختراقه لما كان منه محدوداً، مَشهَداً حيّاً لحيويّةِ حُلمِ البشرِ،
الذي يرفض الاستقرارَ ويتجاوزُ الحُدودَ ويخترقُ الجزئيَّ والمؤقتَ!
أليسَ لهيبُ نيرانِ الرّغبةِ هيَ
المُتوهّجةُ في الرّوحِ الشِعريّةِ للعلماءِ، فتكونُ رؤاهم ومُنتجاتهم ومُنجزاتهم
تمظهراً لحيويّة الزمن المنقطع والمُتّصل، ومشهداً حيّاً لروحِ العبارةِ
الشعريّةِ، ولكنّها عند العلماء عباراتٌ ورموزٌ مُشكَّلَةٌ رياضيّاً وهندسيّاً!
إنّ الرّوحَ الشِعريّةَ هي القلبُ النابضُ
للعقلِ العلميِّ. فليست الأعدادُ، كما ألفنا، صمّاءَ، وليست رموزُ علمِ الكمِّ
والحسابِ، مثلما أَنِسْنَا، مجرّدةً خالِصَةً ومعزولةً، وليست الأشكالُ الهندسيّةُ
جامدةً، كما تظهرُ، بل صار الأصمُّ ناجعاً والمُجرَّدُ ناشطاً وفاعلاً والشكلُ
الهندسيُّ حيّاً، بفضل ما تكتنزُهُ الرّوحُ العلميّةُ من ذلك الشُعاع المُلهِمِ،
والنورِ المُتوهِّجِ من لهيبِ نيرانِ روحِ الشاعرِ، الساكِنةِ في أعماقِ كلِّ
عالِمٍ. هو ذا ما يفسّرُ التحوّلاتِ العلميّةَ وتَقدُّمَ الدّراساتِ العِلميّةِ،
في مجالاتها المختلفةِ، والعلاقةِ المُتواترةِ والمُطَّرِدَةِ بين النظري
والتطبيقيِّ والمجرّدِ والتقنيِّ والصوريِّ والحيويِّ.
سطوة الرّغبة في الروح العلميّة:
وإذا ما رُمنا التساؤُلَ لمَ يستحيلُ نشاطُ
الإنسان، عامّةً، والعلمُ بصفةٍ أخصَّ، من فعلٍ إلى فاعليّةٍ؟ لَاستحضَرْنا، في
إجابتنا، ديناميكيّةَ الزمنِ وديناميكيّةَ حركةَ الإنسانِ في واقعٍ بشريٍّ حيويٍّ،
واقعٌ لا يكتفِ فيه الإنسانُ ولا يكفُّ عن الطلبِ. ذلك أنّ كلَّ ما يحصلُ عليه هو
أقلُّ ممّا يرغبُ فيه، طالما أنّ دائرةَ الحلم لديه أوسعُ، بكثيرٍ، ممّا قد
يُحقِّقُه، وفُسحةُ الأملِ أكثرُ اتّساعاً ممّا يتمّ له تحصيلُهُ، ألم يقل
الطغرائي:
»أُعَلِّلُ النّفسَ بالآمالِ أَرقُبُها *** ما أَضْيَقَ العيشَ لولا فُسحةُ
الأَملِ«!
وخِلنا الإنسانَ مُخيَّراً في أن يأمَلَ،
ويكون أمَلُهُ فسيحاً، وأَنْ تكونَ لهُ منَ الرّغبةِ مُتَّسَعُها، وألاّ يكونَ
مُنتهى الفعلِ عندهُ إلاّ وِلادةً لفعلٍ آخرَ؛ والحقيقةُ أنّه مُجبَرٌ على الأملِ،
ومدفوعٌ من حافزٍ داخليٍّ على الرّغبةِ، ومَقُودٌ إلى الفعلِ وتكراره؛ ليسَ لأنّ
في إتمامِ الفعلِ قتلاً له، فقط، وقوفا عند عبارة “ابن عبد ربّه”: “إنّكَ متى
أتمَمْتَ الفعلَ قتلتَهُ”، وإنّما، أيضا، لأنّ في التوقُّفِ عن الحركةِ فقداناً
لما تمّ تحصيلُهُ، إذ لا قيمةَ لما تمّتْ مِلكِيتَهُ ولم يقَع إثراؤُهُ وتنميتُهُ
والزيادةُ عليه؛ إنّ مِلكِيَةَ اللّحظةِ السابقةِ تفقدُ بريقَها الآنَ وهنا،
وتضمَحِلُّ درجةُ الاستمتاعِ بها غداً؛ وفوقَ ذلك، فإنّ حاجةَ الإنسانِ لما
امتلكَ، وحاجةُ العالِمِ لما اكتَشَفَ أو أنشأَ تفقدُ، مع تقدّمِ الزمنِ، كلَّ
قيمةٍ، لها، ومعنى.
وبسببٍ من ذلك، ما توقّفَ نشاطُ العلماءِ،
مُذْ نَطَقوا حُروفَ العِلمِ، وبِهِ بَشّروا، إلى يومنا هذا، بل صارت مُنجزاتُ
العلم تُرى في أدواتٍ وتقنياتٍ يوميّةٍ للاستعمالِ، وتتمظهرُ في استهلاك الفرد
واستغلال الشعوب والدول لها؛ وما عُدْنا نَرى العِلمَ إلاّ من خلال نماذجَ (des modèles)، هيَ على تَعدُّدٍ
وتنوُّعٍ وتغيُّرٍ وتَجدُّدٍ، لا نكاد نلمحُ لحظةَ الثباتِ فيها لأنّها على عداءٍ
مع الاستقرارِ والحتمياتِ. فلكأنّ العلماءَ قرؤوا الهلويزة الجديدة لجان جاك روسوا، يُرهبهم مُتوعّداً أعداءَ الرّغبةِ والأملِ والحرصِ:
“الوَيْلُ لمن لم يعد له ما يرغبُ فيه! إنّه يكادُ يفقدُ ما يملكُ. فاستمتاعُنا
بما نحصُلُ عليه هو أقلُّ من استمتاعِنا بما نأملُ الحصولَ عليه”. ويخشى رورسو
ألاّ يُرهِبَهُم وَعِيدُهُ فيمضي إلى تَرغيبهِم: “إنّ الإنسان النّهمَ والأرعَنَ،
وقد سُوِّيَ لكي يُريدَ كلَّ شيءٍ ولكيْ لا يحصُل إلاّ على القليل، وَهَبته
السماءُ قُوّةً مُسَلّيَةً تُقرّبُ منه كلّ ما يرغبُ فيه. وحتى تجعل هذه الملكيّةَ
المُتخيّلةَ أكثَرَ عُذوبةً لديه، فإنّ هذه القوّةَ تُعَدّلُهُ وِفْقَ هواهُ”.
ومع ذلك، فنحنُ الأعجزُ على أنْ نَغبِطَ
العلماءَ روعةَ أحلام يقظتهم، فهم يُشيِّدون كلَّ يومٍ مدينةَ الأحلامِ الجديرةَ
بالسكنِ، على سبيلِ الحقيقةِ والواقعِ، مُتوسّلينَ طرائق مجازِ الشعراءِ
واستعاراتهم؛ فالواقع هو عينُهُ لغةُ الشعرِ، وجِدَّةُ الفكرِ العلميِّ هي، ذاتها،
الرّوحُ الشعريّةُ للعلماءِ.
عَظُمَ ما كان عميقاً قولُ المشاعر…ِ!
وطُوبى لشعريّةِ أحلامِ يقظةِ البشر
الحقيقيين…!
وأدام الله حميميّةَ هذا الوفاقِ: وفاقُ
شاعريّةِ العُلماءِ وحِكمةُ مشاعرِ الشعراء...!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق