قراءة في كتاب "الصوفية والحديث في مصر العثمانية: دراسة في أعمال عبد الرؤوف المناوي" - عبد الواحد العلمي - مدارات ثقافية

احدث المواضيع

السبت، 15 فبراير 2025

قراءة في كتاب "الصوفية والحديث في مصر العثمانية: دراسة في أعمال عبد الرؤوف المناوي" - عبد الواحد العلمي


لا أتجنى على الدراسات الاستشراقية الناطقة بالفرنسية إن قلت إنها نادرا ما تجود بالجديد والعميق، والجدي في مجال الدراسات الاسلامية في مختلف فروعها. ولا أحسب أنني أظلمها إن قلت إن الأعمال الاكاديمية الدائرة في هذا المجال قد تأثرت كثيرا في السنين الاخيرة بالجو الثقافي والفكري غير الصحي بل “المتطرف” في تحيزه المعرفي، فغلبت السياسة على معظمها، موضوعا ومنهجا، بل إن اتجاه بعض أقسامها إلى الدراسات القرآنية (تحت إمرة فرانسوا ديروش وغيره) قد نبع من مشروع سياسي صرف يروم “تفكيك” مرجعية مسلمي فرنسا وتوجيهها نحو الغايات السياسية القائمة عند بعض الاجهزة السلطوية، وهو برنامج لا يخفي كثير من الساسة والاكاديميين معالمه عند الحديث عن الدراسات القرآنية في الجامعات الفرنسية.

ولعل كتاب الطيب الشويرف “التصوف والحديث في مصر العثمانية: دراسة في أعمال عبد الرؤوف المناوي[1]  من الاستثناءات القليلة التي تصدر من بعض الجامعات الفرنسية على حين غفلة من التوجه العام. فما يميز هذه الدراسة، التي كانت في الأصل أطروحة للدكتوراه في جامعة ستراسبورغ تحت إشراف إريك جوفري، أنها تنطلق في دراستها من رؤية داخلية للتراث الاسلامي دون إهدار للملمح الأكاديمي، والصرامة المنهجية في الاستقصاء، والتحليل، والمقارنة والمراجعة، والنقد. وتلك خصيصة قلما تجتمع للدراسات الدينية في الجامعات الفرنسية، حيث مفهوم “الموضوعية ” كثيرا ما يحمل على “معاداة” الظاهرة الدينية والتحامل عليها وإرادة تفكيكيها، مرات بشكل أرعن مفضوح، ومرات أخرى بشكل يتصنع “البرودة” العلمية في حين أن رائحته الأيديولوجية لا تخفى على أنف العارفين بهذا المجال الأكاديمي الذي نخرته الشيخوخة والتحيز المعرفي السقيم.

والدكتور الطيب شويرف باحث فرنسي شاب من أصل جزائري، متخصص في التصوف وعلوم الحديث. وقد تفرغ في السنين الاخيرة للتأليف والترجمة والنشر، خاصة من خلال دار النشر تسنيم التي أسسها منذ بضع سنوات، وتخصصت في نشر أعمال ذات قيمة كبيرة في التصوف وترجمتها من اللغات المختلفة الى الفرنسية. وارتباطه بالتصوف يتجاوز المظهر الأكاديمي، فهو نشيط في مجال التربية الروحية في فرنسا والبلاد الناطقة بالفرنسية عموما، فهو ينظم دورات تكوينية وأيام دراسية عن مختلف الموضوعات الصوفية، خاصة في بعدها العملي. من بين مؤلفاته نذك: التعاليم الروحية للنبي (في مجلدين)؛ نصوص قرآنية: ترجمة وتفسير؛ الحب والبعد الروحي: أربعون حديثا للنبي.

إن الإشكال المركزي الذي كان محركا للطيب شويرف للبحث هو: هل فعلا كانت بداية العصر العثماني عصر جمود وفتور للمعرفة، والعلم، والحياة الثقافية؟ هل حقا، كما يذهب الى ذلك المستشرق البريطاني آرثر آربري، كان الشعراني آخر “كبار العقول، وقد عكست أعماله بإخلاص أفضل وكذلك أسوأ ما في هذا العصر”؟، وبالتالي لم يأت بعد الشعراني من الأسماء أو الأعمال ما يستحق الاهتمام.

 إننا نجد صدى هذا الحكم، الذي أطلقه آربري، عند توفيق الطويل في كتابه “التصوف في مصر إبان العصر العثماني” إذ يقول: “ولئن كان التصوف في مصر قد أخذ في الاضمحلال منذ أوائل القرن التاسع الهجري (أو قبل ذلك بقليل) فإن من الراجح أن يكون عظم خطره وتفشى الفساد في أوصاله، وتهيأ لأهله سلطان واسع النطاق ممدود الرحاب في أواخر هذا القرن وبداية القرن العاشر، عند اضمحلال دولة السلاطين وبداية عصر العثمانيين، لأسباب سنعرض لها بعد”.

وقد راج هذا الحكم لمدة طويلة في أوساط الاستشراق، وتوابعه في الفكر العربي، وذلك هو ما يفسر قلة الإقبال العلمي والمعرفي على دراسة هذا العصر ومعارفه. لكن الأمر قد تغير منذ بضعة عقود بفضل جهود بعض المؤرخين أمثال مايكل وينتر وجان كلود كارسان.

ينطلق صاحب البحث من فرضية مغايرة لما راج من أحكام سلبية عن حال العلم والمعرفة في العهد العثماني عامة، وبدايته خاصة. ويعضد حكمه بدراسته لأعمال أحد أعلام ذلك العصر ألا وهو عبد الرؤوف المناوي، العالم والمتصوف المعروف.

في البداية نقول إن المعرفة العلمية العميقة بأعمال هذا العالم ضعيفة، ولا ترقى الى مستوى المعرفة الأكاديمية الرصينة. ورغم الإحالات الكثيرة على أعماله سواء في عصرنا أو العصور التي تلت وفاته، ورغم أن معرفتنا بعصره وبحال المعرفة فيه ليست هينة، لكن ربما كان ما يروج عنه وعن عصره أيضا من أحكام جاهزة ومسبقة هو ما أعاق بناء معرفة علمية دقيقة عنه. ورغم شهرة المناوي وأعماله، فإن الدراسات الجامعية العربية عنه لم تتعد أربع أطروحات نوقشت في الجامعة المصرية، إلى وقت كتابة هذا البحث، وهي بحوث لم توفه حقه في الدراسة العميقة والمتأنية حسب الباحث.

تقع دراسة الطيب شويرف في ثمانية وستين وخمس مائة صفحة، وتتوزع على خمسة فصول وخاتمة، إضافة إلى ملحق بلائحة مفصلة مع الوصف لمؤلفات المناوي.

يضع الفصل الأول الإطار التاريخي الذي عاش فيه المناوي وكذا تطور التصوف والتقاءه التدريجي مع الحديث والاشتغال به. وهو بعنوان “عبد الرؤوف المناوي: عصره ومحيطه”.

ويروم الفصل الثاني (عنوانه: تكوين ومسار المناوي) إلى الترجمة الوافية والمستقصية لحياة الشيخ عبد الرؤوف المناوي انطلاقا من مصادر متعددة، ميزتها أنها تفيدنا في الوقت ذاته في معرفة الحياة العلمية والدينية في قاهرة القرن السادس عشر.

أما الفصل الثالث (تفسير الحديث والتعاليم الاشارية الباطنية) فهو يروم التأريخ لما أسماه الباحث “التأويلية الحديثية” أو النشاط التأويلي والتفسيري للحديث النبوي، مبينا كيف تأثر المناوي بذلك النشاط. وفي هذا السياق وقف الباحث وقفة وصفية تحليلية مع التفسير الإشاري للحديث عند المناوي، مع التركيز بخاصة على كيفية استخراجه الموضوعات الصوفية المتداولة من السنة النبوية ذاتها.

والفصل الرابع (التعاليم النبوية والأشكال المتعددة للولاية) خصصه لدراسة العلاقة التي يقيمها المناوي بين التعاليم النبوية والأشكال المتعددة للولاية في الاسلام. وأخيرا يبسط الباحث بعض الخصائص الأصيلة لتصوف المناوي، المتجلية خاصة في إدماجه معارف قليلة القبول والاعتبار بل وكثيرة التعرض للرفض والنقد مثل الخيمياء والفلسفة.

إن الرهان الأساس الذي رامه الطيب شويرف في هذا البحث هو دراسة التلاقي الذي حدث بين التصوف والحديث في أعمال عبد الرؤوف المناوي، وذلك عبر التتبع الدقيق لمنهجه في التأويل والتفسير للحديث النبوي، وإبراز أهم مظاهر التفسير الإشاري عنده. وقد ساعد هذا الرهان، تبعا لذلك، على تبيان قوة حضور السنة النبوية عند المتصوفة ومشايخهم بصفة عامة.

ولعل التفسير الإشاري والتأويل الصوفي للحديث عرف بداياته الواضحة مع الحكيم الترمذي وأبي بكر الكلاباذي، وقد بين الباحث مقدار استفادة المناوي منهما ومن غيرهما، بل إنه قد طعم تراث هؤلاء بكثير مما أفاده من أبي حامد الغزالي، والشيخ الأكبر، وتلميذه صدر الدين القونوي. وإذا كان القونوي قد خصص مؤلفا قائما بذاته للتفسير الإشاري للحديث وهو “شرح الأربعين حديثا” فإن الغزالي وابن عربي، رغم عدم تخصيصهما مؤلفات في هذا الصدد، فإن في أعمالهما غزارة ملحوظة وعظيمة لشرح الحديث شرحا إشاريا صوفيا. ولعل ذلك ما يفسر استناد المناوي عليهما في هذا المضمار..

ومن نتائج البحث  أن المناوي في تفسيره الإشاري للحديث النبوي يصدر عن قناعة راسخة بمركزية النبي صلى الله عليه وسلم في التصوف وفي سلوك الطريق الصوفي، وهو ما سماه بن عربي بالحقيقة المحمدية، فالنبي وفق هذا المنظور ليس فقط قدوة في السلوك القويم بل هو “الرحم” التي تتحقق داخلها التجربة الصوفية، وهذا توجه ليس فرديا عند المناوي بل هو أصيل في التصوف المتأخر وإن كان يجد أصوله  مبكرا عند كثير من المتصوفة أمثال التستري والحلاج، بل إن هذا المنحى  قد “تسرب” إلى بعض الأدبيات الشعبية السنية مثل ما نجد في كتاب الشفا لحقوق المصطفى للقاضي عياض، وقد أفردت الباحثة كلود عداس دراسة عن هذا المنحى الرئيس في تاريخ التصوف في كتابها “البيت المحمدي: نظرات على محبة النبي في التصوف الإسلامي”. ومن مزايا كتاب باحثنا الطيب شويرف أنه خصص ورقات طويلة لدراسة هذا المفهوم وشرح عمقه التاريخي ومحتواه الروحي والصوفي (الفصل الرابع)

ومما يشكل أحد مميزات فكر عبد الرؤوف المناوي، وفق الباحث الطيب شويرف، هو ما يوليه من اعتبار لمعارف وعلوم لم تكن محل إجماع، بل طالما لاقت ازدراءً ورفضا في كثير من أوساط الفقهاء والمتصوفة على السواء. وتمثل الفلسفة أحد تلك المعارف. ومع أن المناوي يوافق عامة علماء زمانه أن الفلسفة لا ينبغي لها أن تحل محل علم الكلام، فإنه يبدو مقتنعا بفائدة بل وخصوبة الأدوات المفهومية النابعة منها حينما يعرض بعض مظاهر التصوف. ويستشكل الباحث في هذا السياق ما ذهب اليه الباحث الامريكي مايكل وينتر من أن الشعراني شيخ المناوي كان قاطعا في إدانة الفلسفة، وأنه لم يعرفها ولم يعرف المنطق ولا العلوم الطبيعية، فيورد شويرف قول المناوي عن شيخه:

وكان ينهى عن الحط على الفلاسفة، وينفر ممن يذمهم في حضرته، ويقول: هؤلاء عقلاء.”

ويعضد الباحث هذا القول بكون الشعراني كان يعرف على الأقل بعض أعمال بن سينا، ولم يثبت أنه ذمه أو أدانه، بل إنه استشهد بالأبيات التسعة الأولى من قصيدته عن الروح في كتابه “لواقح الأنوار القدسية في بيان العهود المحمدية”. بل إن الشعراني يجعل الفلسفة أصيلة في تاريخ النبوة ويربطها باسم النبي ادريس عليه السلام (وهو ربط حاضر عند كثير غيره). وبذلك يتميز موقف الشعراني وتلميذه المناوي عن موقف كثير من العلماء في العصر المملوكي أمثال ابن حجر العسقلاني والسيوطي صاحب كتاب “القول المشرق في تحريم المنطق” وصون المنطق والكلام عن فن المنطق والكلام”. يبين الباحث بما لا يترك مجالا للشك أن المناوي قد أولى أهمية كثيرة لفلسفة ابن سينا الصوفية وأنه شرح بعض رسائله مثل “الرسالة في التصوف (ارشاد أهل التعريف)  وكذا قصيدته في الروح “شرح القصيدة العينية لابن سينا في الروح” .

يرصد الباحث إشارات عند المناوي نفسه لكونه ينتمي إلى من “يجددون أمر الأمة” وفق عبارة الحديث المشهور. فإن لم يكن الرجل صريحا في ذلك كما كان شيخه جلال الدين السيوطي، فانه، في تعليقه على هذا الحديث كان حريصا على تكثير معنى “من” في الحديث واعتبارها دالة على الجمع احتمالا، كما حرص على ذكر الشافعي باعتباره مجددا، وقد قارنه بعض محبيه المعاصرين به، وفي ذلك دلالة قوية على الوعي الذي كان لديه بانتمائه إلى أولئك المجددين.

ولعل أحد أهم إنجازات هذا البحث بالنسبة للقارئ الناطق بالفرنسية هو الترجمة الغزيرة التي قام بها الباحث للحديث النبوي، فقد ترجم أكثر من مائتي وخمسين حديثا ترجمة سلسة، دقيقة، ورائقة، رامت الحفاظ على عمق المعنى الأصلي مع مراعات البعد التداولي للكلمات والمصطلحات، وقد أثبتها بترتيب ألف بائي في آخر الكتاب كما كان قد نشرها، منذ سنوات، في كتاب مستقل، يقع في مجلدين، مع تفسير وتعليق مقتضب على كل حديث عن دار تسنيم بباريس.

من الناحية المنهجية تتميز هذه الدراسة أولا باحترام طبيعة موضوعها الذي ينتمي إلى حقل الظواهر الدينية، والمؤرخ والدارس إزاء هذا النمط من الظواهر لا ينبغي له، كما تقول كاترين مايور جاون، ويذكر الباحث ذلك (ص7)، أن يبحث عن مثال ونموذج تفسيري وحيد، ثابت، يقيس عليه مقاربة كل الظواهر الدينية، لأنه يعرف “أنه لا يمكنه أن يدعي أنه “خارج” مطلقا، أو” محايد” مطلقا عن موضوعه، ويعرف على الأقل أن تلك “الخارجية” و”الحياد”، على ضرورتهما، لا يمكنهما أن يجرداه من كل “تعاطف” ذي طابع منهجي مع الظاهرة المدروسة”. فالباحث كان واعيا تمام الوعي أن دراسة الظاهرة الدينية ليس من اليسير التمييز بين الحدث وتمثلاته، لأنه إزاء الظواهر غير الطبيعية أو الخارقة للطبيعة قد يكون تمثل الحدث هو المؤسس للحدث ذاته.

سعى الباحث إذن، متسلحا بذلك الوعي المنهجي، إلى الالتصاق ما أمكن بنصوص الشيخ عبد الرؤوف المناوي، واضعا بعضها في سياقها الثقافي والاجتماعي والديني، مع الحذر من السقوط في نزعة تاريخانية نسبوية متطرفة تنزع عن الحدث الديني كل أصالته وتحيله إلى مجرد صدى لظروف اقتصادية واجتماعية وسياسية، هي نفسها لا معنى لها الا بربطها ببنية تحتية متألهة.

لا يمكنني ادعاء الإحاطة، في هذه العجالة، بجوانب كل الكتاب ومميزاته المنهجية، وعرضي هذا لا يغني عن قراءة الكتاب ذاته، مع ما يصاحب تلك القراءة من إمتاع ومؤانسة، ومع ما يتخلل ذلك كله من أسئلة يفتح البحث آفاقها، ونظريات يمكننا الاتفاق حولها مع صاحب البحث أحيانا والاختلاف أحيانا أخرى. ومما لا شك فيه أن هذا الكتاب سيتخذ مكانه في تاريخ الدراسات الثقافية والدينية المتعلقة بالحقبة العثمانية، خاصة وقد بدد كثيرا من حجب الأفكار المسبقة والأحكام الجاهزة التي جمد عليها بعض الباحثين في هذا التراث شرقا وغربا.

[1]-Tayeb Chouiref : Soufisme et Hadith dans l’Egypte ottomane. ʿAbd al-Raʾūf al-Munāwī (952/1545 – 1031/1622), Institut Français d’archéologie orientale, 2020.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق