أيُّ مجالات حياتنا الثقافيَّة والاجتماعيَّة، لم يشهد في العقود
الأخيرة منعطفًا كاسحًا تمثَّل في تبنِّي قيم السوق وميكانيزماته أو الانصياع لها؟
من التربية إلى الصحَّة والرياضة، مرورًا بالعمل السياسيّ والبحث العلميّ والإنتاج
الثقافيّ والفنّيّ، وصولاً إلى النضال المطلبيّ.
ولا تشذُّ أدوارنا الاجتماعيَّة وما يؤثِّثها من مشاعر وعلاقات عن
هذا النمط: فنحن كوالدين وأبناء وعشَّاق وزملاء ومواطنين، إنّما نعيش أدوارنا من
خلال الشبكة الرأسماليَّة نفسها. وحتّى عندما نريد الانكفاء إلى ذواتنا، تسبقُنا
الرأسماليَّة إلى ذواتنا، تنتظرنا هناك لتعرض علينا خدمات العناية الشخصيَّة
والرفاه والعافية، ولتعزِّينا بأنَّ الوقت الذي "نخسرُه" بالاهتمام
بأنفسنا، إنَّما "نوظِّفه" في "رأسمال" الصحَّة النفسيَّة.
وقتنا نفسه خاضع لمنطق الأصول والممتلكات، فترانا نربح وقتًا، ونستثمر وقتًا،
ونوظِّف وقتًا... وما لا يُنذر منه للعمل وزيادة الأثرياء ثراءً، تجهد صناعة
الترفيه لملئه من خلال شلّالات من "المحتوى". لكنَّنا لا نحتوي المحتوى،
بل هو ينقضّ علينا دفقًا متواصلاً من الصور والمعلومات والخبرات تفوق بما لا يقاس
ما يمكن للمرء أن يعيشه في حياة واقعيَّة. ها الرأسمالية التي لا تُقسم إلّا
بالندرة، تنحاز فجأة للوَفرة، فلا تألو جهدًا ولا لغةً ولا نوعًا فنِّيًّا ولا
وسيلة تواصل، ولا شاشةً من أيِّ حجم ولا ذكاء من أيِّ نوع... لترينا العالم، لتملأ
فراغ وجودنا بالمحتوى. لكنَّها تريناه عن مسافة آمنة. آمنة لنا بحيث يمكننا أن نسافر
وننغمس ونختبر من دون أن نتعرَّض لمخاطر الواقع، وآمنة للواقع نفسه. تحميه منّا.
تحصِّنه ضدَّ أي تغيير فعليّ أبعد من التبدُّل في ترتيب الترندات الأكثر تداولاً.
ترانا ندور وأفكارنا الثوريَّة كزوابع في فناجين منصّات التواصل... وحسب.
هكذا رآنا توكفيل منذ ما يناهز القرنَين، حشودًا من اللاهثين خلف
ملذّات صغيرة ومبتذلة، يملؤون بها أرواحهم. الجنس البشريُّ عند واحدهم مقتصر على
أقربائه وأصدقائه، أمّا ما بقي البشر فهو يجاورهم لكنَّه لا يراهُم، يلمسهم ولا
يشعرُ بهم. لكنَّ هذا الموجود فقط في نفسه ومن أجل نفسه ليس لوحدِه. ليست
فردانيَّته المفرطة ثمن استقلاله. فخلفَه، وخلف كل واحد من أقرانه، قوة خفيَّة
تتحكَّم بهم، فتلبِّي احتياجاتهم، وتدير شؤونهم، وتحرص على استمرار تمتُّعهم، شرط
عدم تفكيرهم بسوى التمتُّع. قوَّة كان بالإمكان تشبيهها بالسلطة الأبويَّة لو كان
هدفها إعداد أطفالها للبلوغ، لكنَّها إنَّما تسعى فقط إلى حبسهم لانهائيًّا في
الطفولة (الديمقراطيَّة في أمريكا، 1835-1840).
لا تستنفد الرأسماليَّة التقليديَّة التي تستغلُّ عمّالها معاني
نبوءة توكفيل. وحدها الرأسماليَّة الفائقة (hypercapitalisme) التي نعيشها اليوم تليق بها. فهي تسترقُّ، إلى عمّالها، زبائنها
والمجتمع بأسره. لكنَّها "وحش ناعم" على حدّ تعبير رافاييلي سيموني
(2010). سجونها شفّافة حتّى ليغيب عمَّن هُم داخلها أنَّهم في السجن. فقد تحوَّلوا
من مواطنين إلى مستخدمين ومستهلكين، لا مفرَّ لهم من دوَّامة ما يستهلكون.
الدوَّامة هي حياتهم نفسها، الخروج منها، إن أمكن تخيُّله، انتحار. بالتالي، ليس
ثمَّة حاجة لقمعهم أو قهرهم، فقد لانت إراداتهم وطوِّعت وبرمجت بحيث صاروا كما
تصوَّرهم توكفيل قطيعًا من الحيوانات المجتهدة الخجولة. لكن لم يتبادر إلى ذهنه أن
تكون المنظومة "سحريّة" لدرجة أن تغتذي من نضالنا ضدَّها، لا من
تمتُّعنا وحسب. أجل، لعلَّ أكثر ما يعجزنا أمام الرأسماليَّة الفائقة أنَّنا كيفما
فكَّرنا أو أقدمنا أو امتنعنا، ستجد طريقة تفيد بها ممّا نفعله. كيف نتخيَّل
الانتصار عليها في صراع هي فيه الخصم والحكم، صراع هي تصنع أسلحته وتحتكر تغطيته
وتفرز قيَمه وتتحكَّم بمعلوماتِه؟ تأتيها الانتقادات من كلِّ صوب، باسم الفرد،
باسم المجتمع، باسم البيئة، لكنَّها تهضم النقد وتستمرُّ. نتنبّأ أزمة بعد أزمة
بهزيمتها، أو على الأقل بانحسارها، لكنَّها لا تلبث أن تنبعث من قلب ما اعتبرناه
نهايتها، أقوى وأفتك. ففيم تراها تكمن، قوَّتها التي لا تقهر؟ ألأن الأثمان
المترتِّبة عليها موزَّعة على الكثرة، أو ممتدَّة في الزمن، بحيث يسهل أن تعوِّض
عنها بكمِّيَّة الرفاهيّات الجزئيَّة التي ترشونا بها؟ لذا ربَّما أمكنها أن تفتك
بشروط استمرار النوع البشري، بينما تعدنا، أفرادًا، بـ"أسلوب حياة"
قوامه، في نهاية المطاف، ترف معاناة المشاكل التي اخترعت لها السوق حلولاً لتوِّها.
وأنا للأمانة بنت هذه المنظومة بمعنى ما، مدينة لها، مثلاً، بمكتبتي
-مكتبة غوغل- الهائلة، ولا غنى لي عن ملايين الكتب والمخطوطات والفهارس والأسطوانات
والسمفونيّات والأغاني والأفلام والقصائد التي تتيحها لي... أعرف أنَّ لهذا كلِّه
بصمة على البيئة والاقتصادات الصغرى وصغار الناشرين ومستقبل الأجيال الآتية وفقراء
العالم. لكنَّني أعزِّي نفسي بالقول إنّي في ما عدا البوليميا المعرفيَّة هذه،
أعيش ببساطة وأستهلك بنسب مسؤولة. كان ذلك إلى أن ضبطني غوغل بجرم البساطة
المشهود. فتبين أن ثمَّة اسماً لأسلوب الحياة هذا، وأنَّ له دعاة مؤثِّرين على
مواقع التواصل ومدارس وكتباً وتطبيقات إلكترونية وجماعات ضغط ودورات تدريبيَّة
تعلِّمنا كيف نجعل بيوتنا أقلَّ اكتظاظاً، وأذهاننا أكثر هدوءاً، ونضالنا ضدَّ
الاستهلاكية أكثر فاعليَّة... لا تشفع البساطة لي. هي أيضًا سلعة في السوق. فماذا
لو كان من مفارقات هذه المنظومة الجبّارة أنَّ خارجها الفعلي هو داخلها، في ثقوب
نوسعها داخل نسيجها، كما توسع البزرة التراب من حولها لتبرعم، أو تكشح الثمرة
الهواء من حولها لتكبر؟ ماذا لو انطلقنا من "تسليع العالم" كيما أستخدم
تعبير ناصيف نصار (كتاب عشتار، 2022) كمسلَّمة، فقبلنا أنَّنا في عالم سلَعي من
ألفه إلى يائه. ماذا لو تعاملنا مع هذه الفكرة كما نتعامل مع قوانين الفيزياء،
بمعنى أنَّ إدراكنا لحتميَّتها يجعلنا أكثر حرِّيَّة إزاءها، وأكثر قدرة على
توقُّعها والتحكُّم بها؟ لعلَّ الفائدة الأولى من هذا الموقف البراغماتي هي أن
نلاعب المنظومة وفق قوانينها. فنطالب بثمن ما نقدِّمه من سلع أو خدمات، وما نفشيه
عن أنفسنا من معلومات، لأنَّنا إن لم نفعل، فسيقبض سعرها بالنيابة عنّا من يعرف
استغلال مبدئيَّتنا.
ستبقى لنا بالطبع حرّيّة ألّا ننذر حياتنا للسعي وراء المال أو أن
نقاطع سيل حلول المشكلات ثم مشكلات الحلول فحلول مشكلات الحلول الذي يغذي دوامة
السوق... لكن ثمَّة شيئًا محرِّرًا في وعي حقيقة أنَّنا لا نأخذ شيئًا من هذه
المنظومة بالمجان. مواقع التواصل لا تتبرَّع لنا بالاتِّصالات مع الأحبَّة، بل
تدرج سلوكيّاتنا ضمن قواعد معلوماتها لتطوِّر استراتيجيّاتها التسويقيَّة، وتبيعنا
إجابات لكلِّ الأسئلة والمخاوف والرغبات التي بحنا لها بها، عن معرفة وعن غير
معرفة، بالإضافة إلى حلول لمشكلات النظر وآلام الرقبة وبرامج التطهُّر من إدمان
الشاشات نشتريها ونتابعها عبر الشاشة. لذا أتسلّى بخداع غوغل في ما يخصُّ
تفضيلاتي، فأبحث من وقت لآخر عن أشياء لا تهمُّني وأثمِّن أشياء لم تعجبني لعلّي
أربك الخوارزمية التي تصنِّفني. لكنَّ مناكدة غوغل ليست كافية، لكنني أثبت بها
لنفسي أنَّني لست الوقت كلَّه حيوانًا مجتهدًا خجولاً. لا أريد من ممّا سبق
التمهيد لأيِّ نوع من الواقعيَّة الرأسماليَّة (مارك فيشر، 2009) أو التسليم بها
نهاية لا بعد بعدها للتاريخ، بل أنطلق من فكرة بسيطة مفادها أن الفروسيَّة ليست بالضرورة
سلاحاً ناجحاً في مواجهة الاستغلال. المنظومة قائمة على المنفعة، لذا لا معنى
للتعاطي مع أيِّ من أجزائها وفق أخلاق الواجب البحت. إن سلَّمنا بأنَّ العالم سوق،
فأدهى ما تستطيعه منظومة السوق أن تستغلَّ لارأسماليَّتك، لتوهمك -أو تستغلَّ
توهُّمك- أنَّ العمل رسالة لا سلعة، كي يجوز لها ألّا تعطيك مقابل عملك أجرًا
مكافئاً. فمن مصلحتها أن تنسيَك -أو تستغلَّ نسيانك- أنَّ ما تثمِّنه أنت عاليًا
لأنَّه "ليس سلعة وحسب" هو سلعةٌ، وإن لم يكن كذلك وحسب. أنا أعي أنَّني
إذ أعمل وأكتب وأتواصل وأتنقَّل إنَّما "أخرج إلى السوق"، وفي السوق
أتكلَّم لغة السُّوق. وما لي من سلع، ولو لم تكن سلَعًا وحسب، أبيعُه بنفسي
وبشروطي. لكنَّ الأنا التي في السوق لا تستنفد من أنا. لي عالم لاسِلَعي، حيث
الوجود هديَّة، مشاع، أيلولة من دون رسوم. ههُنا، ألعب مع ابنتيَّ من دون أن أنتظر
مردوداً من الوقت التي "استثمرتُه" معهما. ههنا، أبيت مساء إلى أصدقائي
الحقيقيِّين، لا أولئك الذين تسمِّيهم لي منصّات التواصل كذلك، وأضحَك معهم من
كلِّ ناكدْنا به غوغل خلال نهاراتنا التي قضيناها كلٌّ في سوقه.
ليس العالم-سوقًا أفضل العوالم الممكنة. ولكن لا شكَّ في أنَّ ثمّة سببًا وجيهاً جعل ذاك الذي لِوداعتِه سيق إلى الذبح ولم يفتح فاه، يفتح فاه ليقول ما لم تتوقَّعه المنظومة. "كونوا حكماء كالحيّات" قال (متى 10: 16)، لئلّا تنقلب الوداعة سيفاً فوق رؤوس الودعاء.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق