كانت أيّام السّنة كلّها متشابهات، إلى أن
يأتي رمضان!
هناك في القرية الفقيرة النّائمة على سفح الجبل، حيث لا جديد يطرق الأبواب عاما كاملا، ولا ألوان تخطف الأبصار، ولا أجراس في السّماء تخفق الأسماع إليها... حتّى يأتي رمضان! ونركض إليه في المغارب إلى الرّبوة الّتي تطلّ على أسفل الطّريق، ونحن نصدح كالعصافير: "مااااغراااب ماااغرااابْ".
نستيقظ ذات يوم فجأة فلا شيء نراه كما كنّا نراه قبل يوم واحد فقط، الفجر دفقة من الضياء السّاحر، والسّحور ميعاد جديد يستيقظ له الكبار والصّغار، نستشعر خطوات أمّي في المراح تنقر كحوريّة نزلت من السّماء، ثمّ تقترب لتوقظ أبي وتمدّ له صحفة الكسكسي بالحليب وبعض التّميرات و"حلاّب" الماء... كنّا جميعا نرقد في غرفة واحدة متلاصقين متعانقين كالتّوائم في عشّ الرّحم، وعبثا تحاول أن تتفادى إيقاظنا... نفرك أعيننا ونمدّ أيدينا نحن أيضا إلى السّحور ونحن نتهارش ونتهامز، ثمّ ننوي الصّيام ولا تصوم بطوننا، إنّما هي قلوبنا الّتي تفطر وتصوم، إذا مسّها الشهر الفضيل...
رمضان لم يكن قطعة من الزّمن فحسب، كان له شكل المكان، نشعر أنّه يخيّم فوقنا، غمامة تظلّلنا لأيّام وأسابيع، نركض إليه، ونفتح بابه، وندخل في جنّات حدائقه بأجسادنا وأرواحنا، ونرى فيه الطّرقات الّتي تعوّدنا على السّير فيها كلّ يوم كما لم نكن نراها أبدا، ونرى الأشجار الّتي ألفتنا وألفناها وقد نبتت لها عيون وشفاه، ونرى الوهاد والسّهول من حولنا صارت تنادينا بأسمائنا، وصارت ساحة البيت أوسع، وجبين الشّمس أسطع ونجوم اللّيل ألمعَ وحكايات السّمر، أبهى وأمتعْ.
في رمضان، كنّا نصوم عن كرة القدم أيضا،
ونعيش على إيقاع ألعاب جديدة من وحي المسلسلات الدّينيّة التي كانت تعرض بالأبيض
والأسود على القناة الوحيدة، ننتشر في الحصائد نتبارز بالسّيوف الّتي صقلناها من
عيدان القصب، نعيد تمثيل المشاهد الٌتي علقت بأذهاننا من مسلسلات كانت فاكهة
سهراتنا أمام التّلفاز، باللّغة العربيّة الفصحى، زمن ما قبل القباحة وماقبل جائحة
"الفهري"... "الفتوحات الإسلامية" أو "محمد رسول
اللّه" أو "خالد بن الوليد" أو "فتح الأندلس"...
تلك المسلسلات التي كانت تسرق أرواحنا وتطير بها إلى زمن الصّحابة والفصاحة والفروسية والخيام والمضارب والغزوات والجياد وأمجاد السّالفين، فهذا "خبيب" وهذا "القعقاع" وهذا "خالد" وهذا "حذيفة"، نتجادل ونتخاصم طويلا حول من يمثّل دور "المسلم" ومن يمثّل دور "الكافر"، فقد كنّا نكره أن نمثّل دور الكفّار والمشركين كي لا يقال لنا "خذها ياعدوّ اللّه!" أو نتلقّى طعنة الموت الأكيدة، في معركة لا يجب أن تنتهي إلاّ بانتصار المسلمين، ولا نقبل غير ذلك حتّى ونحن نلهو ونتسلّى...
عندما يقترب موعد الإفطار، كنّا نحن الصّغارَ نلعب أجمل أدوارنا في الحياة، لحظات انتظار "المغرب" نصبح فيها أهمّ من في القرية ومن في الكون جميعا، كيف لا وكلّ الصّائمين ينتظرون الإشارة منّا كي يفطروا...
كان الجامع بعيدا جدّا عن الدّوّار ولا يصل إلينا صوت الأذان، ولا بيت تظهر له الصومعة من بعيد، سوى بيت وحيد يطلّ عليها من ربوة مرتفعة... نسمّيه بيت "العبادلي"، ذلك البيت الّذي يصبح في رمضان برجا للمراقبة حيث يعلّق صاحبه فانوسا كهربائيّا على سطحه يشعله للصّائمين حين يرى ضوء الصّومعة من بعيد..
كان الكبار يتحلّقون حول
المائدة ويسرّحوننا في المرتفعات وفوق السّطوح، نراقب "صمعة
العبادلي"، وبمجرّد اشتعال الفانوس تشتعل حناجرنا أيضا بالهتاف ونملأ الجوّ
صخبا وصياحا ونحن نركض حاملين البشرى للكبار:
"ماااغرااااب! مااااغراب! مااااغراب...
افطروا يا صااايمينْ... كسكسي ولْحمْ سمينْ... وافطروا يا فاطرينْ... كسكسي
ولْحمْ بهيمْ!"...
ونضحك من عبارة "لحم بهيم" هذه كلّ يوم كأنّنا نسمعها أو ننطقها
للمرًة الأولى... ونتسابق نحو الموائد... نتحلّق مع الكبار الصّائمين حولها،
وكأنّنا مثلهم كنّا صائمين...
تلك الموائد الّتي تمتلئ فجأة ببركات الرّحمان بأشهى الأطايب، وتضوع منها في الأرجاء رائحة فريدة... ويتصاعد من المذياع صوت الجميل "عادل يوسف" في البرنامج اليوميّ "رمضان ملء قلوبنا" ينغمس في أعماقنا ويذوب كطابع من السّكّر... أدعية وابتهالات أقربها إلى الرّوح "بوركت يا رمضان.."... أبدعها حليم الرّومي وتركها صدقة جارية من بعده... : "سبحان يا رمضان! من أنزل القرآن! في شهرك المزدان! قبسا من الإيمان!"
كان رمضان حبيبنا الأوّل الّذي شربنا الماء
من يديه، وعلّمنا كيف نحبّ ونفرح ونملأ حواسّنا بكلّ نفحات الإيمان والسّكينة
ونفتح قلوبنا لرحمات السّماء وهي تتنزّل علينا كشلاّل من ضياء وعطر ومحبّة...
وسيظلّ رمضان... حبيبنا الأجمل، حبيبنا الّذي يعود إلينا كلّ عام وفي جرابه أكياس الحلوى والمغفرة والرّحمات، يُعيد إلينا شيئا من طفولتنا وفرحتنا وفطرتنا الّتي فقدناها، وشيئا من براءتنا وإنسانيّتنا الّتي اكتشفنا مع مرور الزّمن أنّها كانت جريمتنا الكبرى التي سيعاقبنا عليها العالم كلّما كبرنا يوما إضافيّا!
رمضان الّذي تعاهدنا على محبّته وانتظاره منذ فتحنا أعيننا على الدّنيا، سيظلّ يفي بوعده كلّ عام ويزورنا بلهفة المشتاق، ولن يفارقنا أبدا ... حتّى نفارقه!
كلّ عام وأنتم من أحبّائه وعتقائه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق