يتَّصف الفكر العربي، كسواه من
الأنظومات الفكرية، بالانتساب إلى حقل التفاعل التاريخي الذي أفضى به إلى
الاستقامة على بضع من الخصائص اللصيقة بطبيعته الذاتية.
من الضروري أن يميزَ المرء، في هذا
السياق، الخصائصَ من العيوب البنيوية التي تعتريه، فتُفقده ليونته الإصلاحية،
ومرونته التجديدية، وسلاسته البنائية. أعتقد أن الخصائص الثلاث التي استخرجها
الفيلسوف اللبناني بولس الخوري (1921- 2021) في أبحاثه
النقدية، تستغرق الفرادة الأصلية التي نشأ هذا الفكرُ عليها.
في كتاب تراث وحداثة: قراءةٌ للفكر
العربي الحالي (المكتبة البولسية، جونية- لبنان، 1999، 73- 77)، يستجلي الخوري،
وقد أنشأ البحث أصلاً بالفرنسية، ثلاثة معالم أساسية تَطبع التراث العربي أو الثقافة
العربية أو الفكر العربي. ومع أن الاصطلاحات الثلاثة هذه تنطوي على بعض التباينات
اللطيفة، إلا أنها تحتمل جميعُها مثل الصفات الثلاث هذه: القدسية (sacralité)، السامية (sémiticité)، الوسيطية (médiévalité).
بين الذهنية
والتراث والثقافة والفكر
لا بد من الإشارة إلى أن معظم
الأبحاث النقدية التي تناولت الاجتماع العربي، آثرت أن تنطلق من اصطلاح الذهنية أو
البنية الذهنية من أجل تدبُّر سمات الانتساب التاريخي وخصائص الإنتاج الصادر،
فإذا بالذهنية هذه تَحكم تجليات الذاتية العربية. ومن ثم، يقع المرءُ أولاً على
اصطلاح التراث العربي أو التقليد العربي أو الأصالة العربية، وقد اتسم بالشمولية
التي تحتوي على جميع ضروب التصنيف ومراتبه؛ ويقع ثانياً على اصطلاح الثقافة
العربية التي تنغرس جذورُها في تربة التراث، فتضبط كلَّ ما ينتجه الاجتماعُ
العربيُّ في حقول التعبير عن الذات الفردية والجماعية. من حقول الإنتاج الثقافي
ينفرد الفكرُ العربيُّ، وهو الاصطلاح الثالث المستخدَم، بالنظر في أحوال المجتمعات
العربية وتحليلها وتقويمها واستخراج مطالبها وميزاتها، وتوجهاتها وتطلعاتها،
ومُكستباتها وإنجازاتها. حسب المعنى الأوسع، يشتمل الفكرُ على جميع حقول النظر في
الاجتماع والسياسة والاقتصاد والفن والعلوم والتقنية؛ إذ يمكننا التفكير في
الاجتماع (الفكر الاجتماعي)، وفي السياسة (الفكر السياسي)، وفي الاقتصاد (الفكر
الاقتصادي).. إلخ. غير أنه من الممكن التمييز اللطيف بين الفكر، بما هو حقلٌ
نظريٌّ مستقلٌّ، وسائر حقول السياسة والاقتصاد والفن والعلوم والتقنية. ومن ثم،
إذا وصفنا التراث أو الثقافة بالصفات الثلاث هذه، نكون قد وصفنا الفكرَ العربيَّ
أيضاً بها.
القدسية أو
كمال المعنى المطلق في الابتداء
على الرغم من الاجتهادات النقدية
التي أنجزها الفكرُ العربيُّ الحديثُ والمعاصر، ما برحت صفةُ القدسية تهيمن على
بنيته الداخلية وحراكه التاريخي. ذلك بأن الميزة الجوهرية هذه تُفصح عن اقتناع
جوّانيٍّ عميقٍ يُملي على الإنسان العربي، أن الابتداء أو الأصل المطلق يحتضن
سرِّياً الذروة أو القمة أو الجوهرَ الإبداعي الأسمى. ومن ثم، تشخص الأبصارُ إلى
ما يختزنه الابتداءُ الأصليُّ الأصفى هذا من ملءٍ في الكيان، وكمالٍ في القوام،
وصفاءٍ في الاعتلان.
لا غرابة، والحال هذه، من أن ينعقد
اللا وعيُ العربيُّ على رغبة دفينة في استثمار الطاقة الإبداعية الكاملة الكامنة
في مطاوي الأصل، واستخراج قابلياتها الإصلاحية، والإفادة من تحريضيتها التغييرية.
من ميزات القدسية الناشبة في عمق الفكر العربي؛ الحاجةُ المطّردةُ إلى استحضار الماضي،
وتكرار الحدث المجيد المنقضي، وتأبيد الابتكار الفذّ. على قدر ما يحتذي الإنسانُ
بمثال الرجال الأوائل، يستطيع أن يأتي بالعظائم والمعجزات، فيضمن للفكر القدرةَ
على الفوز بالمنشود.
السامية أو
واجب المحاكاة التكرارية الخاضعة
تدل السامية على وجوب الاقتداء بالمثال
الإلهي المفترَض في أصل الكون. فالسامية ضربٌ من اللا
هوتانية التي تجعل التاريخ، انبساطاً حتمياً مقترناً بمشيئة
الكائن المتعالي، لذلك يخضع الفكر العربي لحتمية الافتتان بالأصل الإلهي، أو بما
يعادله من كمال بدئيٍّ تفترضه العقولُ العربيةُ مثالاً مرسوماً في أفق الوجود.
كلُّ اجتهادٍ فكريٍّ لاحقٍ ينبغي، والحال هذه، أن ينهج نهجَ السلف الصالح، إذ إن قيمته
المعرفية تقترن اقتراناً وثيقاً بقدرته على محاكاة الأصل الأسمى. إذا كان الارتباط
بالأصل اللاهوتي نظامَ الكائن الإنساني المفطور على مقام الإشارة السليبة الفحوى،
فإن الاحتذاء بالكمال المنجَز في البدايات يتحوَّل إلى نموذج الإنجاز المعرفي
الأوحد. وعليه، يتَّضح أن الفكر العربي يفقد انتسابه التاريخي، أو يُضحي بالأحرى
يتصوّر التاريخَ في هيئة الرجوع الدائم إلى الماضي الذي يختزن جوهر القضية
الإنسانية برمتها. من علامات هذا الرجوع المرَضية أن التاريخ في تصورات الفكر
العربي لا يسير سيراً حثيثاً إلى المستقبل، بل يعكس المسار ويعتصم بقبلة الماضي.
كلُّ تجديدٍ في الفكر العربي يجب أن يستلهم التقليد الأول الذي ظفر بالقدرة
الإبداعية من جراء قربه الزمني من الينبوع الإلهامي الصافي. لا عجب، من ثمَّ، في
الاستناد اللا واعي إلى النص القديم الذي ينطوي على الحقيقة في صفائها البلوري.
الوسيطية أو
وهمُ الأنظومة الضابطة الشاملة
أما وسيطية الفكر العربي، فتتجلَّى
في السعي الدائم إلى بناء أنظومة المعنى الأشمل على هدي النموذج المعرفي الذي كان
سائداً في الأزمنة الدِّينية الوسيطة. لذلك ما فتئ هذا الفكر يتصوّر مقامَه في
الاجتماع العربي في هيئة الناظم الضابط الحاكم؛ بحيث يتيح للإنسان العربي أن
يعرَّف هويته، ويعيَّن مقامَه التاريخي، ويحدِّد حاجاته النظرية والعملية، ويرسم
معالم تطلعاته الممكنة، حسب ما تُمليه الأنظومة الفكرية المنتظمة انتظاماً نظرياً
مجرداً. إذا كانت الوسيطية تفرض، في قرائن التصور اللاهوتي، الأنظومةَ الدينيةَ
شريعةً مطلقةً في الحياة، فإن الوسيطية، في قرائن الفكر العربي، تُملي على العقل
ضرورةَ الفوز بتصوّرٍ كيانيٍّ وجوديٍّ جامعٍ مانعٍ، يهيمن على قدرات الإنسان
الإبداعية ويمضي بها في سبيل التبعية والجمودية والقدرية. ومن ثمَّ، توحي الوسيطية
للفكر العربي بأنه ما زال قادراً على بناء أنظومة شاملة تستطيع أن تضبط في قوالبها
ومقولاتها شتيتَ الاختبارات التاريخية العصية على الإمساك المنطقي القهار.
تجليات هذه
الخصائص في حركة الفكر العربي المعاصر
بعد استعراض هذه الخصائص، لا بد من
استجلاء آثارها الباقية اليوم والاستدلال على السبل التي ينهجها الفكرُ العربيُّ
من أجل الانعتاق منها. من الواضح أن جميع الاجتهادات الإصلاحية التي صاغها أهلُ
النهضة العربية الأولى والثانية، حتى الثالثة الناشطة في الزمن الحاضر، تدرك طبيعة
هذه الخصائص وخطر انغلالها في بنية الاجتماع العربي.
قد يكون الزمن العربي الحالي زمناً
انتقالياً؛ إذ إن الثابت في مساره ظاهرتان متدافعتان: تشير الأولى إلى استمرار
تأثير هذه الخصائص في الذهنية العربية، وتدل الثانية على الرغبة الصادقة في تغيير
الواقع الفكري، وتجاوز انسداداته، وابتكار نموذج حضاريٍّ عربيٍّ مختلف. أقول
بالطور الانتقالي، وأصرّ على العبارة؛ إذ إن الفكر العربي لن يتسنّى له أن يخرج
منه خروجاً يسيراً، لا سيما بعد أن طغى على حركة التاريخ الإنساني المعاصر
تيَّارُ العولمة الجارف الذي يفرض على الجميع خلفياته وتصوراته
ومقولاته ومفاهيمه، حتى عباراته الإعلامية المتداوَلة. من نهضةٍ عربيّةٍ إلى أخرى،
يتبيَّن للجميع أن التجاوز عسيرُ المنال في قرائن الوضعية الثقافية الكونية
السائدة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق