إلى أي حد يمكن للفلسفة أن تؤرخ لمفهوم الجوع؟ وما معنى أن نكتب تاريخ غريزة
أو ألم أو رغبة قديمة في طبيعة البشر؟ يبدو أن البشر لا يجوعون في كل ثقافة بنفس
الدلالة. وإن كانوا بوجه ما يجوعون بنفس الأعضاء. ومع ذلك فإن ما يهم الفلسفة ليس
رصد التمثلات الثقافية لغريزة مثل الجوع أو النوم أو الجنس. ثمة فرق سابق إلى
العقل بين «التمثل» الثقافي و«المفهوم» النظري. إن الثقافة لا تفكر بالضرورة، وإن
كانت تمدنا دومًا بالسياق الذي يجعل تفكيرنا ممكنًا. لكن الفلسفة ليست سياقية إلا
عرضًا؛ وذلك أن التفلسف لا يصبح ممكنًا في أي ثقافة إلا عندما يطرح العقل على نفسه
أسئلة كونية حول المسائل التي يتصدى لها. إن الجوع الذي نسائله هنا هو واقعة كونية
بشكل مضاعف، من حيث إحالته على «طبيعة البشر»، ولكن أيضًا من حيث سياسة الرغبة
التي يتنزل فيها سلفًا في ثقافة أو عصر ما. وإنما بهذا المعنى الثاني هو يدعو إلى
التفكير ويستوقف الفلاسفة بوصفه مفهومًا وليس مجرد غريزة لدى جميع الحيوانات. حيث
تقف رغبة الحيوان في معنى الجوع تبدأ أسئلة الفيلسوف حول مفهومه الكوني في ضوء
فكرة الإنسانية المتاحة في أفق ثقافة ما.
إن التفكير في مفهوم كوني عن معنى الجوع لا يمنع أبدًا أن ثمة تاريخًا للجوع
يجب أن يُكتب في كل ثقافة؛ وذلك أنه لئن كان الجوع واقعة «طبيعية» تهم استعمال
الأجساد أولًا، فإن تاريخ الجسد بعامة ليس مُشكِلًا جسديًّا. إنه دومًا جزء من
ثقافةٍ ومن تاريخ معين للأجساد ليس من الهين عزله فلسفيًّا والتفكير فيه. ويبدو أن
مكمن الصعوبة يعود إلى طبيعة علاقة الإنسان بجسده في كل عصر. ويمكن أن نستكشف هذه
الصعوبة من خلال تساؤل كهذا: «هل نحن أجسادنا أم نحن لنا أجساد مثل سائر
الحيوانات؟» والفرق بين الصيغتين حاسم هنا؛ لأنه يفصل بين «أن نكون» أجسادنا
ونتماهى معها، وبين «أن نمتلك» أجسادًا ونستعملها. هذا التمييز يلقي ضوءًا غريبًا
على مفهوم الجوع: هل الجوع مُشكِل «وجودي»، يهم طريقتنا في العناية بأنفسنا من
الداخل؟ أم هو حاجة أو اقتصاد في الرغبة يتعلق بكمية الحياة أو الطاقة التي
نتملَّكها أو نحتاج إلى تملُّكها بواسطة أجسادنا التي تعاني في كل مرة من «نقصٍ»
ما في شروط البقاء؟ هل نحن «نكون» جوعنا؟ وبالتالي فإن الجوع أخطر من مجرد حاجة
غير مشبعة؛ لأنه يخترق ماهيتنا. أم علينا أن نسأل: هل «لنا» إحساس بالجوع هو مجرد
«نزوع» إلى إشباع «استعداد» يحركنا بحكم طبيعتنا التي تقع علينا؟ وبالتالي فإن
اقتصاد الجوع هو الطريقة المناسبة لتحديد مفهومه.
لا يمكن معالجة هذه التساؤلات إلا بقدر استدعاء النصوص الفلسفية التي اخترقها
الجوع بوصفه ظاهرة مدعاة للبحث؛ ذلك أن تاريخ الفلسفة من أفلاطون إلى اليوم قد ترك
وراءه دومًا آثارًا ورواسب عن تواريخ صامتة أو ممنوعة أو مسكوت عنها تخص مفهوم
الجوع، ومن ثم لا يمكن للفكر أن يستأنف أسئلة الجوع إلا بقدر ما ينشِّط العلاقة
معها. ولا ريب أن تاريخ الجوع في النصوص الفلسفية هو واحد من تلك التواريخ الصامتة
التي تدعو إلى استئنافها. ومنذ اليونان إلى ما بعد المحدثين هناك تاريخ للجوع يظل
يصطدم بهذا المفهوم أو يحبسه داخل دوائر تفكير لا تعرِّف به إلا عرضًا، وذلك قبل
أن يتحول الجوع منذ وقت قريب إلى بؤرة نقاش معاصرة، ومن ثم فتح المجال أمام
استشكال فلسفي عن الجوع يكون قادرًا على رفعه إلى رتبة المفهوم المستقر القادر على
تأمين سياسة الجسد التي يفترضها. ومن الواضح أن تاريخ الجوع وتاريخ الجسد مترابطان
على نحو بنيوي من خلال سياسات الرغبة في كل ثقافة.
أفلاطون والرغبة
الجوع نوع من «الرغبة» أو هكذا فهمه أفلاطون. والرغبة عنده نوع مخصوص من
الحركة: نحن نرغب، أي نتحرك نحو شيء ما، وكل الرغبات تصدر عن شعور مؤلم بالفراغ.
وفي سياق هذا التعريف للرغبة يستعمل أفلاطون مثال الجوع بوصفه نوعًا من الفراغ
المؤلم في معدة البشر. قال في محاورة فيلابوس (٣٥أ):
«يبدو أن من يكون منا فارغًا هو يرغب في ضد ما يشعر به، بما أنه فارغ وهو يريد أن
يمتلئ.» ولكن لأن الرغبة تصبو نحو ملء فراغ أو نقص ما، فهي تسعى إلى ضد نفسها: لا
يريد الجوع سوى الكف عن أن يكون جوعًا، بما أنه ملء للفراغ أو فراغ يريد أن يزيل
الفراغ. لكن ما يثير الانتباه أكثر هنا هو أن الجوع لدى أفلاطون ليس مُشكِل الجسم
الجائع. فالرغبة ليست رغبة الجسم بالضرورة. قال: «ما يقودنا إليه استدلالنا هو أنه
ليس ثمة رغبة خاصة بالجسم» (نفسه، ٣٥ج). فمن يجوع إذن؟
هذه الحيرة تلقي ضوءًا مثيرًا على السؤال الفلسفي حول الجوع بوصفه محددًا
بالفراغ أو الخشية من الفراغ. إذْ لا بد أن تتخيل النفس هذا الفراغ حتى يحدث
الجوع. من يقود الجوع - حسب أفلاطون - ليس الجسد بل النفس. لا بد أن نتخيل الجوع حتى نجوع.
وهو تخيل يقدم الجوع بوصفه رغبة نابعة من إحساس مؤلم بالفراغ لا يمكن القضاء عليه
إلا بتوفير نوع من اللذة. وهي لذة الملء أو الامتلاء. وهو مطلب لا يمكن للجسم أن
يوفره. ويجب إذن أن نبحث عنه في مستوى آخر من كينونتنا.
وهكذا منذ بداية تاريخ الفلسفة تم تجريد الجوع من أهليته للتفكير بنفسه. وتم
حصره في سياسة الرغبة المناسبة للحكيم. وهي تقوم على الخطة الفلسفية العامة ضد
الرغبة بوصفها تجد ماهيتها في الشعور المؤلم بالفراغ. والتبرير الأفلاطوني هو أن
الجوع لا يمكن فهمه إلا ضمن تأويل للرغبة مفتاحه هو قصة ميثولوجية عن لعنة الآلهة
لبنات دانووس اللاتي حُكم عليهن في الجحيم بأن تملأن بلا نهاية برميلًا بلا قاع.
كل معدة هي برميل بلا قاعٍ على النفس أن تعيد ملأه في كل مرة.
في هذا السياق يجدر بالقارئ المعاصر أن يضع تعريف
أفلاطون لمهمة الفلاسفة الحقيقيين في محاورة الفيدون بأنها «تدريب على الموت». يبدو الجوع دومًا بمثابة أول تدريب بدائي على
الموت. ولكن ماذا لو قرأنا تعريف أفلاطون للفلسفة بأنه لا يعني أكثر من «تعلم
الجوع»؟ الفلسفة بوصفها تدرُّبًا بدائيًّا على الجوع، بوصفها تصعيدًا لفن الجوع أو
هي فن الجوع الذي تحول فجأة إلى بحث ميتافيزيقي في معنى الموت أو معنى خلود النفس.
ولو أخذنا القرابة النائمة بين الجوع والموت مأخذ الجد إذن لأصبح السؤال عن جوع
الفلاسفة مقامًا مفاجئًا للبحث في معنى الكينونة؛ نعني: للبحث في طريقة البشر
الذين يتجرءون على التفلسف بوصفه لا يعدو أن يكون فنًّا ميتافيزيقيًّا في الجوع.
هذا الطرح الأفلاطوني سوف يظل مهيمنًا على تعريفات الفلاسفة للجوع إلى حد ابن سينا
الذي احتفظ ضمن كتابه القانون في الطب بتعريف
الجوع في معنى «الألم»، رغم أنه حول هذا الألم من التصور الميتافيزيقي للحركة إلى
بحث تجريبي في طب المعدة، العضو المسئول عن سياسة الجوع.
ديكارت والجوع
لو أخذنا مثالًا فلسفيًّا حديثًا مثل ديكارت، فإننا نجده ينظر إلى الجوع بوصفه
شيئًا ينبغي علينا أن نتعلمه: علينا أن نتعلم الجوع من طبيعتنا مثلما نتعلم الألم
أو العطش. لكننا لا نستطيع ذلك لمجرد كوننا كائنات «تفكر» وهي «تسكن» فقط جسمًا
تحركه مثلما الرُّبَّان «سفينته». بل نحن نجوع، ليس لأننا نسكن الجسم، كما ظن
اليونان، بل لأننا مقترنون به على نحو عميق ومختلطون معه وممتزجون فيه إلى حد أننا
نكوِّن «كلًّا واحدًا معه». إن الجوع والألم غير ممكنين — حسب ديكارت — من دون
تصور معين لأنفسنا يجعلنا نتماهى مع أجسادنا.
قال: «وذلك أن كل هذه المشاعر بالجوع والعطش والألم … إلخ. هي ليست شيئًا آخر
سوى بعض الأشكال المختلطة من التفكير، وهي تتأتى من وتتوقف على وحدة الروح مع
الجسم، ومثل المزج بينهما» (التأمل ٦).
صحيح أن الجوع يحدث في أجسامنا كما تعلمنا طبيعتنا، لكن الجوع هو من المشاعر
التي لا تكون ممكنة إلا بفضل نوع من «الوحدة» أو «الامتزاج» مع أجسامنا. إن الذي
يمتزج أو يتحد مع «الجسم» هو «الروح» أو النفس. وهذا يعني أن الذي يجوع ليس هو
الجسم الميكانيكي المعزول عنا والذي نحركه من خارج مثل سفينة نسكنها ولا «نكونها».
إن الجوع مثل الألم ليس ممكنًا من دون علاقة سابقة تجعل النفس تتحد مع الجسد
وتمتزج فيه. وهنا يبلغ الجوع مرتبة فلسفية رشيقة حين يعامله ديكارت بوصفه «شكلًا
مختلطًا من التفكير». وهو «مختلط» في معنى أنه ليس «فكرة واضحة ومتميزة» عن أي
موضوع حسي أو خارجي. إن الجوع فكرة مختلطة عن أنفسنا، ولذلك ثمة هنا نوع من
«كوجيطو الجوع» علينا أن نستخرجه حتى نوضح خطورة علاقتنا بأجسادنا. نحن نجوع بمعنى
ما لأن أجسادنا «تفكر» وإنْ كان ذلك بطريقة مختلطة؛ أي لا ترتقي إلى رتبة المفهوم المتميز.
كوجيطو الجوع نوع مختلط من التفكير بأنفسنا، تكمن طرافته في كونه يلقي ضوءًا
مثيرًا على تلك الجهة المعتمة من علاقتنا بالأنا الذي نكونه في كل مرة؛ نعني جهة
الوحدة أو الامتزاج مع «جسم» لا نسكنه فقط بل هو المجال الحقيقي لذاتنا العميقة
دون أن يكون «الأنا» الذي ندعي أنه «هويتنا».
الفلاسفة المعاصرون والجوع
يبدو أن الجوع قد ظل تحت الوصاية الميتافيزيقية للرغبة حتى القرن التاسع عشر
عندما ظهر سياق فلسفي غير مسبوق وضع كل تاريخ الجوع وكل تاريخ الرغبة وكل تاريخ
الجسد موضع سؤال. ومنذ ماركس فهم المعاصرون لأول مرة أن الجوع مُشكِل تاريخي معقد.
قال: «الجوع هو الجوع، ولكن الجوع الذي يمكن إشباعه باللحم المطبوخ والمأكول
بالفرشاة والسكين هو جوع آخر مغاير لذاك الذي يبتلع اللحم النِّيء باستخدام الأيدي
والأظافر والأسنان. ليس موضوع الاستهلاك فقط بل أيضًا نمط الاستهلاك هو المنتَج
بواسطة الإنتاج، وهذا ليس بشكل موضوعي فقط بل بشكل ذاتي أيضًا. إن الإنتاج إذن
يخلق المستهلك.» نحن المعاصرون نستهلك جوعًا تم إنتاجه لنا بحكم نمط إنتاج لا نراه
أو لا نسيطر على علاقة السلطة التي يفرضها علينا سلفًا. وهكذا لا يمكن تفسير الجوع
بمجرد الرغبة المعزولة عن تاريخها. والجوع لم يعد محصورًا في أي نوع من العلاقة مع
الجسد. ولكن ماذا تقترح الفلسفة إذن؟
قال زرادشت نيتشه: «هؤلاء الذين يجلسون إلى المائدة ولا يأتون بشيء معهم، ولا
حتى بجوع جيد، والآن يجدِّفون: «كل شيء بلا جدوى».» إن الدرس المناسب إذن هو ما
سماه نيتشه في الفقرة ١٨٩ من ما وراء الخير والشر:
أن نتعلم كيف نجوع. إن القدماء قد اخترعوا «الصوم» من أجل تعطيل نوع من الغرائز.
ولكن أيضًا من أجل الإقرار بأن للجوع (كما يقول استهلال كتاب زرادشت، ٨) خطته
الخاصة تجاهنا.
بعامة، يمكن استشراف آفاق النقاش المعاصر حول الجوع بأنه يدور تقريبًا حول
المحورين الأساسيين لكل تفلسف: إما «أن نكون» جوعنا، وإما أن ندعه «يقع» علينا
بوصفه جزءًا من «امتلاك» شروط البقاء للحيوان من نوعنا.
على السؤال الأول اشتغل نيتشه وفتح لتلاميذه ورشة أخلاقية ثرية جدًّا أخذت
اليوم، مع التجريبات ما بعد الحديثة عن تقنيات العناية بالجسد، منعطفًا مثيرًا؛ ونعني
بلورة المعاصرين لنوع جديد من الكوجيطو صيغته هي: «أنا أكون ما آكله.» صارت كينونة
الناس تتحدد بنوع الوجبة التي يتناولونها. وفجأة صارت دراسة العلاقة بين الفلسفة
والمطبخ أو بين الفلسفة والأكل أو الفلاسفة والحِمية الصحية، إشكالية تدعو إلى
التفكير. يقول ميشيل أونفري: «أنْ نأكل هو أن نغذِّي آلة ميكانيكية نفكر
بواسطتها.» وفي كتابه الطريف بطن الفلاسفة، نقد العقل الصحي كتب
أونفري تاريخًا للفلسفة بطريقة غير مسبوقة نفَّذ فيها حدسًا نيتشويًّا حول علاقة
الفيلسوف بمعدته أو بالحِمية التي يتبعها، مفاده: أن فهمنا لتصورات الفلاسفة ربما
يكون أفضل في ضوء ميولهم الغذائية، أن نفهم علاقة كلبيَّة ديوجان بشهيته عن
الأخطبوط النِّيء، أو تقشف روسو باعتماده اليومي على الألبان، أو إرادة القوة
بمحبة نيتشه للشوكولاتة … لكن دريدا قد منح هذا الخط من التأويل للجوع هالته
الفلسفية العليا عندما صاغ الأمر القطعي التالي: «يجب أن نأكل جيدًا.» (كتاب نقاط الوقف، محادثات، ١٩٩٢م).
ويعني ذلك عنده تحديدًا أن نتخلص من ثلاث آفات حددت تاريخ الجوع في الغرب: أن
نتخلص من «مركزية-اللوغوس-القضيبية-اللحمية». ظل مفهوم الجوع رهين تعريف الإنسان
بوصفه حيوانًا عاقلًا/لاحمًا/قضيبيًّا/لحميًّا، وذلك يعني رهين الفحولة اللحمية
للذكر. وأن نأكل جيدًا يعني لدى دريدا أن نجيب على هذا السؤال: «ما هي أفضل طريقة،
وأكثرها احترامًا وكرمًا، في العلاقة مع الآخر؟»
أما السؤال الثاني فقد عمل عليه ماركس، ودشَّن أمام المعاصرين ضروبًا متضافرة
من نقد الجوع على نحو لم يبق سجين نقد الرأسمالية بل تعداه إلى نقد سياسة الحقيقة
التي قامت عليها بنية المجتمع الغربي بعامة. يمكن اعتبار الحرب العالمية الثانية
بمثابة المصهر الفلسفي؛ حيث أطل الجوع بوصفه مُشكِلًا سياسيًّا حاسمًا. وكان
اعتراض ليفناس المثير ضد هَيدغر قد صاغه في كتابه الكلية
والتناهي على هذا النحو: «إن الدازين لدى هَيدغر لا يجوع أبدًا.»
لأول مرة يدخل مفهوم الجوع في تعريف الآخر. وفي سنة ١٩٥٠م قال سارتر في مقابلة
مسجلة معه: إن الإنسان لا يجوع وحده، إنه يجوع مع كل الرفاق الذين من طبقته أو
الذين يعملون معه مقابل أجر ما. ومن ثم فإن المطالبة بإشباع الجوع تمرين طريف على
الشعور بالتضامن، والمطالبة برفع الأجور هي مطالبة بتحرير الحاجة حتى لا يبقى
الإنسان مجرد «بطن» ويتحول إلى كائن حر. لكن أدورنو في كتابه الأخلاق الدنيا قد عرف المجتمع المتحرر بأنه مكان يحكمه
هذا المبدأ: «يجب ألا يجوع أحد بعد الآن» (الفقرة ١٠٠). ذلك أن الأحرار يمكن أن
يواصلوا «الموت من الجوع» في ظل مجتمع الحريات المتساوية التي يعدنا بها جون رولز.
لكن الفلسفة لا تحب تغيير وجهتها نحو نقد الجوع كما يعاني منه الفرد الحديث في المجتمعات ما بعد الصناعية، مخافة أن تتحول إلى قول سوسيولوجي أو ليبرالي في المجاعة. وهو ما ينبغي أن نبحث عنه في كتابات أمارتيا سان. وسرعان ما تشرئب الفلسفة نحو مقام آخر. قال هَيدغر سنة ١٩٣٢م: «ليس من أجلنا نحن أبناء اليوم، بين يوم وليلة، ينبغي إشباع الجوع، بل بالأحرى من أجل أولئك الذين هم آتون من المستقبل، إنما يكبر فينا جوع الوجود.» ولكن ألم ينقلب جوع الوجود هذا، كما عبر عن نفسه في التجارب القصوى للموت المعاصر من «الهولوكوست» إلى «داعش»، إلى ما سماه ابن سينا «الجوع الكلبي»؛ حيث يلتهم المريض ما لا يقدر بدنُه على هضمه، نعني: جسد الآخر في كل مكان؟ وإن مجرد التذكير بكل نقاشات المحدثين عن «الكانيبالية» أو «أكل لحوم البشر» الممتدة من مونتاني (Montaigne) الإنسانوي إلى فرويد الباحث في جنسانية الجوع، أو ليفي شتراوس الذي قال يومًا ما: «نحن كلنا آكلو لحوم البشر»، يثير فينا خوفًا فلسفيًّا من مستقبل السؤال عن الجوع في أفق البشر … أمْ أن كرونوس لا بد في النهاية أن يأكل أولاده؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق