وئـامُ الحُبِّ والحــربِ - مراد بن قاسم - مدارات ثقافية

احدث المواضيع

الاثنين، 7 أبريل 2025

وئـامُ الحُبِّ والحــربِ - مراد بن قاسم


إنّ للحُبِّ والحربِ في السرديّةِ العربيّةِ، ومنذ القديمِ، مَقاماً وحُظوةً. إذ ارتبطَ ذكرهما بالتمجيدِ، فالمُحبُّ يَبذُلُ في سبيلِ مَنْ نزَعَ إليه قلبَهُ دُنياهُ والحياة، والمُحاربُ مُغرَمٌ بالمَهالكِ مُولَعٌ، تضحِيَةً لأجلِ الشجاعةِ. وفي الحالتينِ يُستَحضَرُ الحُبُّ قريناً للموتِ، موتُ المُحبِّ أو المحبوبِ، ويُستَدعَى في الحروبِ سِجِلُّ القتلِ والتقتيلِ، الموصولِ بمعانيَ الشجاعةِ والإقدامِ. وإنّ ما تُجمِعُ عليه السرديّاتُ، وسردياتُنا بالأخصِّ، أنّ موتَ المُحبِّ والمُحارِبِ هو، في مجاز العبارةِ كما في مرْويِّ الواقعِ، ما لا يكونُ إلاّ تضحِيَةً في سبيلِ الآخرِ.

غيرَ أنّ تأمُّلاً في سؤال: من هو الآخر؟ يُعلنُ عن غباءٍ قديمٍ ومُتأَصِّلٍ في الإنسان، ففي سياقِ مُعاداةٍ مجانيَةٍ للحياة يُتَمَثَّلُ الآخرُ المُقابلُ – الجميلُ، مُؤهَّلاً للبقاءِ بل وللموتِ لأجلهِ، إنْ اقتضى الأمر. فمن عساهُ يكونُ هذا الآخرُ؟ هل هُوَ، فعلاً، الغيرُ الذي لا يكونُ أنا؟ هل نقولُ بعلاقةِ التخارُجِ بين الأنا والأنتَ، على نحوِ ما يعكسُهُ الظاهرُ مرئيّاً؟

في تعالي الذات/ مركزيّة المُحبِّ

فمن هو هذا الآخر؟ أهو موضوعٌ للحبِّ فقط؟ قطعاً هو أكثر من ذلك. لماذا؟ لأنّ هذا الآخر هو من وقعَ عليه الاختيارُ بعنايةٍ، وأحيانا بعنايةٍ فائقةٍ. لأنّك وجدتَ فيه من يُحقّق رغباتك وحاجاتك، وما تأملُه لنفسك. الآخر هو من تخيّرتَهُ دونَ غيرِهِ مِنَ البَشرِ. إنّكَ تختارُ هذا الذي تقول إنّكَ تحبُّهُ لأنّه يشتملُ على عينِ الصفاتِ التي تُحبُّها أنتَ وتُفضلُها عمّا سواها، فتمييزُكَ للشخصِ موصولٌ بمعاييرَ في الجمالِ، هي من أحلامِكَ أنتَ، وممّا رَسمَتهُ مُخيّلَتُكَ وصارت الرّغبةُ محمومةً به.

وعلى نحو ما يختلفُ الناس في تعييرِ الجميلِ وتقديرِه، فإنّهم يَتمايَزونَ، أيضا، في مشاعرِهم ونوازعِهم وفي ما يَرغَبونَ: فهذا يميلُ إلى من كان ذا جاهٍ، وذاك ينزعُ إلى صاحبِ ثروةٍ ممّا زاد عن الحاجةِ والاكتفاءِ، وغيرهما يرغَبُ في مَنْ لَهُ مِنَ السيادةِ العلميّةِ الحظوةَ والمقامَ.(…) 

بيدَ أنّ هذا التمايُز في تفضيلِ صفاتٍ عن أخرى لا يُفيدُ تَميُّزَ المَوصُوفِ وسُموِّ هيئتِه، بل يُفيدُ، فقط، عُلُوَّ هِمَّةَ الواصِفِ، ونفاذ رغبته، وسطوة مُخيّلَته، وتعالي الأنا أناهُ هُوَ. وبسببٍ من ذلك، بقدرِ ما تُعلن عن حُبّكَ، ويتوهّجُ الشوقُ، شوقُكَ، وتُعلن ملامحك وحركاتك وسكناتك وعباراتك عن إحساسِكَ تجاهَ من تَملَّكَهُ حُبُّكَ؛ بنفسِ القدرِ يضمحلُّ ذاك الآخر الذي وقع عليه اختيارك، وانتهى موضوعاً لشوقك واشتياقكَ. فلئن توهّمَ “جريـــر” أنّ المعشوقَ قاتلُ العاشقِ:

"إنّ العيُونَ التي في طَرْفِهَا حَوَرٌ     قَتَلْننــــا ثمّ لم يُحيينــَا قتلانـَـا"

فقد كان "لامرئ القيس" فضل اختراق هذا الوهم، إذ المُحبوبُ هو ضحيّة المُحبِّ:

"أغَــرَّكِ منّي أنّ حُبّــَكِ قاتلــي       وأنّكِ مهما تأمُري القلبَ يَفْعَـــلِ 

وما ذَرَفَتْ عيناكِ إلاّ لتضربي      بسَهمَيْكِ في أَعْشارِ قلبٍ مُقَتَّلِ"

أجل، يعلو المُحبّ ويضمحلُّ المحبوب، ويهوى الرّاغبُ حدَّ الوَلَهِ ويتهاوى المرغوبُ حتى يصير الظلَّ، أو ظلَّ الشبحِ الذي لا ظلَّ له، لعلّه من استحالَ اللاّشيء. ويملك ويتملّكُ الأنا الحياة والعالَمَ والوجود لِينتهي الآخر/ المعشوق شيئاً من أشياء ما استحوَذَ عليه قلب الأنا. فلا عجَبَ، إذاً، في أن يستحيل الأنا / الرّاغبُ هو الكينونةُ وظلُّها وظلالها وقد انتهى الآخر / المرغوبُ، في شَيْئِيتِهِ تلك، عدماً أو هو الشيء – العدم الذي لا تَستَوعِبُهُ اللغةُ، فهوَ (الشيء) "ليس باسمٍ، ولا فعلٍ، ولا حَرْفٍ، ولا نعتٍ، ولا مَصْدرٍ، ولا ظرفٍ، ولا حالٍ، ولَسْتَ واجِداً نصاباً يقرُّ فيه، ولا منزعٍ ينزعُ إليه". (التوحيدي) وما لا تحتويه الٌّلغةُ ليس له مقامٌ في الوجودِ أو محلٌّ.

إنّ لحظةَ الإحساسِ بالحبِّ هي مُنجَز الزمَن لقتلِ الآخر الذي تَوهّمنا حُبّهُ. وولادة العبارة "أحبّكَ" تقرير سرديٌّ بهوانِ من تخيّرناهُ موضوعاً للحبِّ. لذا فإنّ المحجوبَ الذي ينكشفُ هُوَ:

أنتَ لا تُحبّني، أنتَ تُحبُّ الصورَةَ التي رَسمتَهَا في مُخيّلَتِكَ عنّي. وعليكَ أن تُواجِهَ هذه الحقيقة: وهي أنّكَ لا تُحبُّ إلاّ ذاتَكَ. ولزاماً أن تعترفَ بأنانيتكَ، ورغبتكَ الجامحة في ألاّ تكونَ إلاّ أنتَ، حتى في ما تُعلنُهُ من مشاعرَ الحبِّ تجاهي، أي تجاهَ الآخرِ الذي هو غيرُكَ.

ولا غرابةَ، والحال هذه، في أن تنتهي معانيَ إتيقا الاعترافِ والتسامحِ والتضايُفِ صورةً مُشعّةَ للمُغالطةِ، والخداعِ، وبراعةَ حيلِ المنافقينَ الأجلاّءَ، وهم الأجلاّءُ لعلوّ همّتهم في براعتهم تلك. إذ البراعة كِفايةُ مقدرةٍ للقلّةِ دون الكثرةِ، وللخاصّةِ دون العامّةِ، وللنخبةِ دون الرّعاعِ.

في عصيان الآخر وسطوة الحرب  

ولكن هيهاتَ أن يستسلمَ الآخرُ/ المحبوب للهوانِ وللموتِ وللعدمِ. وأقصدُ ألاَّ يستسلمَ لاستهانةِ من أحبَّهُ ولتقتيلِ من بجّلَهُ ولِتشْييئَةِ من تَخيَّره. فينزعُ هذا المغلوبُ على أمره، هذا المحبوب والمقتول قسراً، إلى المقاومةِ تَضحيةً بمقامِ الضحيةِ، وتنازُلاً عن منزلِ الخاضعِ إلى الحبِّ الجارفِ المُظلّلِ. فتتعالى، بذلك، محبّةُ الحياة عن تعالي الأنا، ويتسامى حفظ البقاء عن شغفِ الإنسان وَوَلههِ. وتتسيَّدُ الرّغبةُ في الحربِ بدلاً عن الرغبةِ في السلمِ الكَريهِ / موضوع إغراء الأنا المُحبّ.

إنّ لحظاتَ تَوهّجِ أحاسيس الحبّ في الأنا، أو في الأنتَ، هي لحظات الولادة المُتستّرة للكراهيةِ، ونُتُوءُ مشاعرِ الضغينةِ من الآخر/ المحبوب تُجاهَ من أحبَّهُ. ولعلّهُ الحيّز الزمنيّ الأنسب لفضح المستور، وكشف المحجوب، وإعلان العصيان على جلالةِ براعةِ النفاقِ، نفاقَ المحبِّ والعاشق والمشتاق.

وليسَ أَيْسرَ من أن يستحيلَ الحبُّ كراهيةً، والوَلَهُ ضغينةً، والتشوُّقُ إلى الحبِّ شوقاً إلى العِداءِ! أليسَ هذا ما يرويه تاريخُ البشر، وتُعلنُ عنه لقاءاتُهم، وتقوله مشاعِرُهم المضطربةُ! ولئن اختلفت دفاترُ الفلاسفةِ في تعيينِ الطبيعةِ البشريّةِ: أَيَكونُ الإنسانُ خيّرا طيّبَ السَجيّةِ (جان جاك روسو) أو هو ذو طبيعةٍ مُتأصّلةٍ شرّاً (توماس هوبز)، فإنَّ رِواياتِ الواقعِ وما نقرأ من تاريخِ السردِ أنّ لقاءَ الإنسانَ بالإنسانِ هو وِفاقٌ على العنفِ، وصراعٌ يبيحُ التقتيلَ، وتنازعٌ على بقاءِ الأفضلِ والأصلحِ والأقوى.

ولمَّا أرادَت القوانين أن تُهذبَ السلوكَ، وتُقوّمَ الميولَ، وتحدَّ من التَرفُّعِ والكبرياء، لم تفعل، نواميسَ العقلاء، غير أن قَنَّنَت الكراهيةَ والتسلّطَ والضغينةَ، وليسَ أدلُّ على ذلك من تَواشُجِ علاقة الخطأ بالعقابِ، في كلّ الأنظمة، بشريّة ًكانت أو إلهيّةً. وعلى طول الزمان، لا تَيْنَعُ الكراهيةُ إلأّ من الحبِّ، ولا تَنُوءُ الضغينةُ إلاّ من فرطِ العشقِ، ولا يظهر التسلُّط إلاّ من الإفراط في التملُّكِ. فينتهي، بسببٍ من ذلك، الأنا وتَعَالِيهِ وحِفظِهِ لبقائِهِ، موضوعَ حربٍ حقيقيّةٍ تظهر في السلمِ كما في النزاع. إنّها حرب الكلّ ضدّ الكلّ: بَدَأَتْ صِراعاً صامِتاً لأجل الحبّ، واستحالتْ صِراعاً مُتكَلّماَ حَيَوِيًّا لأجل العدمِ.  

في سبيل الخلاص من الحرب

ما هو الحبُّ؟

إنَّـــه مولدُ الصّراع لأجل تعالي الأنا أو الأنتَ.

وما هي الحربُ؟

إنّها الحبُّ الميّتُ لحظةَ الولادةِ.

وما هي الحربُ، أيضأ؟

إنّها صِناعةُ عدميّةِ البشرِ، فهي مقبرةُ الإنسانُ للإنسانِ. ولا يَعلَم ذاك المُحاربُ الغبيُّ أنّه إذ يحكُمُ بموتِ الآخرِ يَقضي بِنهايتِهِ، كائناً بشريًّا في العالم.  

فهلاّ نسأل البشرَ التَعَقُّلَ، على نحو ما تكونُ الحكمةُ حذراً وحيطةً (أرسطو والفارابي)؟

وهلاّ نُنادي إلى الاستئناسِ بمحبّةِ الحكمةِ فيعودُ لذلك الحبِّ جوهرُهُ الخالصُ (سقراط)؟

عظيمٌ هو نداءُ الحُكماءِ، وصوتُ المُحبّينَ، لأجلِ الحبِّ المحضِ أو في سبيل الحبّ لأجلِ ذاته. إنّه الحبُّ لأجل الإنسان، فقط، لا غير. الحبُّ الذي لا تَضْحِيةَ فيه ولا أُضْحِيةَ. فالمحبّةُ الخالِصةُ، التي لا تعقبها الحروب، هي البريئةُ حتى من حبِّ الشعراءِ، فشعراء الحبِّ والعشقِ والوَلَهِ هُمُ الأَحْوَج إلى الشفقةِ، في كلّ عصرٍ ومِصرٍ، ليسَ لأنّهم ضَحَايَا مَن عَشِقوا، وإنّما لأنّهم صُنّاعُ النّهاياتِ والموتِ والعدمٍ، عَدَمِيَتُهُم وعَدَمِيَتُنا نحنُ. أَلَمْ يَستنكر "المُتنبّي"، شاعرُ العربِ وحَكيمهم، ذلك الموت الذي لا يحتكره العُشاق:

"وعَذِلْتُ أهلَ العشـقِ حتى ذُقتُـهُ       فعَجِبْتُ كيفَ يَمُوتُ مَن لا يَعشِقُ؟"

إنّ الشعراءَ هُم صُنّاَع الكَلِمِ لأجلِ الحياة، ومُبدِعو الغزلِ لأجلِ الموت. إنّ الشعراءَ هُم أوّلُ القتَلَة، وهُم أوّلُ الضَحَايَا، ضَحَايَا أَنْفُسِهِم، ونحنُ ضحايَاهُم، بحسبانٍ وقَدَرٍ.

تَحُلُّ الحربُ بوازِعٍ من الحُبّ المُفرِطِ للذاتِ، ويستحيلُ موتُ البشرِ، جميعا،ً حَاصِلَ ذلك التَعَالُقِ بين الحُبِّ والحَرْبِ.

فهل من سبيلٍ إلى حبٍّ خالصٍ يَنهضُ بالخلاصِ من حروبِ القلوبِ والأسلحةِ!؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق