الوِعْدهْ - عبد اللطيف العلوي - مدارات ثقافية

احدث المواضيع

الاثنين، 9 يونيو 2025

الوِعْدهْ - عبد اللطيف العلوي


لا أحد يعرف متى بدأت حكاية "داده" مع "الوِعْدة" ومع "سيدي عبد القادر".

منذ بدأت أعي ما حولي، وجدتها تذبح كلّ عام عجلا تسمّيه " وِعْدة سيدي عبد القادر"، فهمتُ حين كبرت أنّه نذر نذرته له مقابل أن يحمي أبناءها ويحفظهم من كلّ مكروه، عهد مع السّماء وميثاق، ظلّت تلتزم به لعدّة سنوات فتعطيها اﻷمان، وتحمي ظهرها، ولعلّ اﻷمر بدأ حين مات ابنها اﻷكبر موتا غريبا مفاجئا. لا أحد يعرف، غير أنّ الثّابت أنّها لم تخلف وعدها يوما، ولا "سيدي عبد القادر" خذلها أو تنكّر لها يوما، كما هي تقول ...

إيمان أهل القرى، وخاصّة العجائز منهم، باﻷولياء الصّالحين كان أمرا شائعا، فلكلّ منطقة وليّها الصّالح الّذي يرعى مصالح أحفاده هناك، فهو في عرف الجميع جدّهم الأكبر. ومنذ القدم، عرفت قريتي "عين البيّة" بكثرة الأولياء الصّالحين، لكنّ أهمّهم بلا منازع كان "صالح البلطيّ" الّذي تقام له زردة سنويّة معروفة، غير أنّ لكلّ هؤلاء اﻷولياء، رغم صيتهم وسطوتهم، سلطة محلّيّة عادة لا يتجاوز تأثيرها حدود تلك المناطق، كنّا نشعر أنّ هناك تقسيما ترابيّا خفيّا بالغ الصّرامة يقوم على اتّفاق مسبق بين الأولياء، وقد روى الكبار من قريتنا أنّ حربا شعواء جدّت ذات ليلة بين "سيدي صالح"، وليّ البلطيّة، و"سيدي عبد الجبّار"، وليّ منطقة أولاد العابد، عندما حاول الأخير أن يتجاوز منطقة نفوذه ليؤثّر على سير الأحداث في بلطة، ويذكر الكثير من الأجداد بكثير من الثّقة واليقين، أنّهم شاهدوا تلك اللّيلة، في زمن لا يذكرونه، كيف كانت الصّواعق تنطلق من الجانبين كأنّها تخرج من مدافع عملاقة، كرات ضخمة من اللّهب كانت تطير فوق رؤوسهم، ظلّت تضيء ليل القرية حتّى الفجر، ولم تنته المعركة إلاّ بعد أن استسلم " عبد الجبّار"، وحكم عليه سيدي "صالح البلطيّ" أن لا تقام له صومعة أبدا، وهو ما يفسّر لدى كثيرين منهم أنّه كلّما بنيت له صومعة، إلاّ وسقطت بلا سبب واضح.

أمّا "سيدي عبد القادر"، فهو في عرفهم وفي عرف "داده" وليّ اﻷولياء، ومن تعدّى على حرمته، هالك لا محالة وما له من وال.

يوم "الوِعْدة" يكون عادة في أواخر الرّبيع، يوم أذكره بكلّ سمات العيد، تجتمع فيه عمّاتي وأبناؤهنّ، ويذبح العجل تحت الكرمة، ثمّ تقعي جدّتي أمام اللّحم المجمّع في القصعة الكبيرة، وتقسّمه إلى "حِسَبٍ" وزن الحِسبة ما يعادل كيلوغراما أو يزيد قليلا نتولّى أنا وعمّي الأصغر الّذي هو في مثل سنّي، ومن حضر من الصّغار توزيعها على كلّ سكّان الدّوار، وكانت تخصّ من تسمّيهم "القلالّة" أي الفقراء، بحِسَبٍ خاصّة تزوّدها قليلا وتعظّم اللّحمة في يدها قبل أن تضعها. نمرّ على البيوت وننادي على أهلها، نعطيهم اﻷمانة ونردفها بجملة يتيمة "بعثتها لكم داده"، فترتفع الدّعوات الصّالحات لها بالصّحّة والخير وطول العمر إلى عنان السّماء، وننصرف وقد ظفرنا ببعض ما يسرّنا.

لا أذكر أنّني رأيت تعبيرا أو معنى للسّعادة يوما، أبلغ ممّا كنت أراه على وجهها في ذلك اليوم، كانت تصبح ملاكا من نور، بوجه ورديّ ناعم وعينين شفّافتين، حتّى حركتها تصبح أخفّ من حركة طائر، وصوتها يصبح له رنين غير الّذي كنّا نسمعه في سائر الأيّام.

مع مرور السّنوات، كبر الصّغار وبدأ إيقاع الحياة يتغيّر وقيمها أيضا تتغيّر، لم يعد اﻷبناء يتقبّلون بسهولة أن يحرموا من تلك الثّروة كلّ عام بسبب ما يعتقدونه مجرّد أوهام وخرافات لا توجد إلاّ في عقلها البسيط. ظروف العيش أيضا صارت أقسى ممّا كانت وبدأت اﻷصوات تتعالى معارضة ومحتجّة غاضبة ومتوعّدة أحيانا، لثنيها عن تلك العادة التي صارت مكلفة وثقيلة على النّفوس.

اﻷمر بالنّسبة إليّ كان يختلف قليلا، كنت أعترض فقط على تسميتها باسم سيدي عبد القادر، وحاولت أن أفسّر لها أكثر من مرة أنّ ذلك يعتبر شركا بالله، لكنّها لم تكن تفهم أبدا ما معنى الشّرك بالله، هي تعرف أنّه لا إله سوى الله، لكنه يسخّر من ينفّذ إرادته في الكون، يسخّر سيدي صالح كي يصلح أحوال الناس، ويسخّر سيدي عبد القادر كي ينفّذ قدرته في الرّحمة بالنّاس ويحفظ أرواحهم وأعراضهم، هكذا كانت تفهم اﻷشياء، وإن كانت لا تعبّر عنها إلاّ بجملة يتيمة: "كلّ حاجة في بقعتها، ربّي في بقعتو وسيدي عبد القادر في بقعتو".

كانت "داده" امرأة على الفطرة، وكلّ التّناقضات محسومة بالكامل في عقلها، فالعالم كلّه مقسّم إلى قسمين: مسلمون وكفّار. حين تسمع حديثنا عن حرب أو ترى مشاهد منها في نشرة الأخبار، كانت تسألنا: "شكون المسلمين؟ وشكون الكفّار؟"

وحين تسمعنا نتحدّث عن صدّام حسين أو عبد النّاصر أو مانديلاّ أو هتلر، كانت تسألنا: "هو مع المسلمين، ولاّ مع الكفّار؟"

وحين تشاهد شريطا سنمائيّا يتساقط فيه القتلى من هنا وهناك، تسألنا: "شكون ربح؟ المسلمين ولاّ الكفّار؟"

وعندما ترانا منغمسين في مشاهدة مقابلة كرويّة ساخنة بين فريقين أوروبّيين أو نشجّع البرازيل في نهائيّات كأس العالم، كانت تقف قليلا أمام الشّاشة، وحين تهتزّ الشّباك تسألنا: "شكون مركوا؟ المسلمين ولاّ الكفّار؟"

"داده" كانت ترى الدّنيا كلّها فيلم الرّسالة، لا مجال فيها إلاّ لأن تكون حمزة، أو أبا جهل. كانت ترى الدّنيا كلّها بالأبيض والأسود. المسلم يعني في ذهنها الخير المطلق، والكافر هو تجسيم في ذهنها للشّرّ المطلق.

أحيانا كنت أفكّر أن أخبرها أنّ هناك مسلمين كفّارا وكفّارا مسلمين، وأنّه يوجد بين هؤلاء وأولئك الكثير من غير المصنّفين أصلا، لكنّني لم أكن أفعل، ربّما اتّقاء لضربة عكّازها، أو خوفا من أن تصنّفني مع الكفّار.

عندما أعيتنا الحيلة في إقناعها بضرورة التّخلّي عن تلك "الوعدة"، التجأنا إلى برنامج كان يبثّ على الإذاعة الجزائريّة، عنوانه على ما أذكر: "أنت تسأل والدّين يجيب"، وكانت تستمع إليه دائما وتثق في الشّيخ الّذي يقدّمه ثقة عمياء، فاقترحنا عليها أن نبعث إليه برسالة، نطرح عليه الوضعيّة ونسمع جوابه، فوافقت، وتعرّض فعلا إلى سؤالنا وشدّد على أنّ تلك العادات هي من قبيل الشّرك بالله! استمعت إليه قليلا، ولم تطق صبرا، ثمّ قالت قبل أن ينهي حديثه:

ـ يمشي يـ .......... (شتيمة نابية) من أين له هو أن يعرف سيدي عبد القادر؟ أنا وقف عليّ في المنام، بلباسه وهيأته، الّتي يجب أن تكون كالعادة أبيض في أبيض ولحية طويلة مهيبة ، وقال لي: "خلّي متاعي ثمْ! إيّاك تقربيه!"

شيئا فشيئا غلبت على أمرها حين استقوى عليها الجميع، ورضخت في النّهاية مثلما يرضخ ثور المصارعة ويسقط أمام صاحبه بعد أن يغرس الرّمح بين كتفيه، عبثا حاولت، توسّلت، بكت، حذّرت من لعنة تصيبنا جيلا بعد جيل... لكن، لا حياة لمن تنادي!

تغيّرت "داده" بعد ذلك بشكل كبير، صار يسكنها حزن صامت طويل، وصارت متوتّرة على الدّوام، خائفة من كلّ شيء، تغضب وتبكي لأتفه اﻷسباب، وإذا حاول أحدنا أن يخفّف عنها أو يطمئنها، كانت تكتفي بأن تقول له بصوت يفلق الصّخر: "غرّيتوا بيّا.. ماكمش أولادي!"

اليوم، بعد أن تغيّر حال النّاس إلى هذا الحدّ واصطبغت كلّ مظاهر حياتنا بقدر مرعب من الأنانيّة والتّوحّش، صرت أرى كلّ ما كان يحدث بعين أخرى. لم تكن داده تحمي نفسها باﻷولياء الصّالحين كما كنّا نظنّ، كانت تحمينا بالصّدقات، بيدها السّخيّة الّتي لم تملك يوما شيئا، ولم تبخل يوما بشيء. لم نفهمها جميعنا، حتّى أنا الّذي كنت أظنّ أنّني قادر على أن أعطيها دروسا في الدّين واﻹيمان، مررت بجانب الحقيقة، حقيقتها التي، صارت تزداد نصوعا وتوهّجا في روحي المتعبة، يوما بعد يوم.

يوم ماتت ، قالت الّتي غسّلتها : " كدت أشكّ في أنّها ميّتة... كانت طريّة نضرة مثل عود أخضر..." وأردفت : " لقد كانت رحمها اللّه من أكرم الناس !"

(من رواية أسوار الجنة)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق