ياله من أب أحمق، هذا الذي يرسل ابنه إلى المدرسة من أجل غاية واحدة هي أن يتعلم ما يفكر فيه المعلم - القديس أغوسطين
لا يفتأ الفيلسوف الفرنسي “جون بودريار” ينتقد المدرسة وأنظمة
التكوين مؤاخذا إياها على أساس آليات التنميط والمطابقة التي تعمل على ترسيخها ضدّ
منطق الإبداع والاختلاف. يقول بودريار “إنّ وسائل الإعلام تتحدّث كلّ يوم، بطريقة
أو بأخرى عن هذا الموضوع لكنّني لا أعتقد أنّها تمكّنت من الإمساك بما يدور داخله.
فمثلا لا يُتحدث عن الاستنساخ إلا في بعده البيولوجيّ. ولكنّ هذا النوع من
الاستنساخ مسبوق باستنساخ ذهنيّ، فنظام المدرسة والتكوين وثقافة الجماهير تسمح
بصنع كائنات تصبح نسخا مطابقة لبعضها البعض “حوارات من أجل المستقبل (4)، الاتّحاد
الاشتراكي ع 6697 ترجمة وإعداد عبد الصمد الكباص – حسن أوزال) وفي خضم هذا التطابق
يحدث الحصر الأنطولوجيّ الذي لا ينفكّ يعرقل مسيرة الإبداع ويحول دون حرية التعبير
والاعتقاد.
والحال أنّ بودريار في هذا الصدد يكاد لا يختلف عن كانط الذي كثيرا
ما عبَر عن يأسه من المؤسّسات التعليمية ( أنظر qu’est ce que les lumières ) التي لا ينبغي أن يعوَل عليها كثيرا موليا أهمية كبرى لحرية
التعبير والاعتقاد مادامت هي ما يسمح للمفكرين والناس ذوي التكوين بالإفصاح عن
أفكارهم وبالتالي إنشاء جمهور قادر على استخدام عقله، جمهور بقدر ما يتكاثر شيئا
فشيئا يضحى متنورا أي منفلتا بتعبير بودريار من الاستنساخ الذهنيّ الذي هو الروح
المشتركة لزماننا هذا.
فالمدرسة مثلا إذ تحرص المعرفة في فضائها والتربية بين جدرانها عبر
سلسلة من الشواهد ورزنامة من الوثائق تضع حدّا في أذهان الناس لمفهوم التعلّم على
نحو يغدو فيه العارف والأكفأ هو من يحوز أعلى الشواهد ويبلغ أرقى مراتب الهرم
التعليميّ، بيد أنه لا وجود في الحقيقة لأية شهادة للإنسانية بمثابة الحدّ
النهائيّ الحاسم في اكتمال العملية التربوية. وفضلا عن ذلك يلاحظ أنّ المدرسة
اليوم غدت تعتمد معايير من قبيل: ” العادي” والإدماج الاجتماعيّ” التكيّف”
والإصلاح” فتقود بذلك إلى أقصى درجات التنميط والإمتثالية معرقلة بذلك كل ما يبرز
تفوق الفرد ويسمو به عبقريا ” فبعد كل شيء ألم يكن كلّ من موزار و بيتهوفن روسو،
نيتشه، فان كوخ وغوكان غير متكيّفين وعبقريتهم تفسر بعدم تكيّفهم نفسه؟ ( أليفي
روبول، فلسفة التربية، ترجمة عبد الكبير معروفي، مراجعة عبد الجليل ناظم، دار
توبقال للنشر ص 20). بديهيّ إذن أن ينتقد ثلة من المبدعين أنظمة الاستنساخ هاته،
فهذا “ميلان كونديرا” في مشروعه الروائيّ لا يكلّ، يصف آليات التنميط تلك والتي
تتمّ باسم توحيد تاريخ الكوكب الأرضيّ على اعتبار أنّ هذا الحلم الإنسانويّ الذي
بحسبه” أراد الله لأمر ما أن يتحقق كان مصحوبا بعملية تقليص مدوخة. حقا إنّ دود
التقليص يقرض الحياة الإنسانية منذ الأبد: فحتى قصص الحب الكبرى تنتهي بتقلصها إلى
هيكل من الذكريات الهزيلة. لكنّ طابع المجتمع الحديث يعزّز هذه اللعنة بشكل وحشيّ:
تتقلّص حياة الإنسان إلى الوظيفة الاجتماعية، وتاريخ شعب ما إلى عدد من الأحداث
تتقلّص بدورها إلى تفسير متحزّب، والحياة الاجتماعية إلى صراع سياسيّ (…) يجد
الإنسان نفسه في إعصار تقليص حقيقيّ حيث يظلم فيه على نحو قدريّ “عالم الحياة ”
الذي كان “هوسلر” يتحدّث عنه وحيث يسقط الكائن في النسيان (كونديرا فن الرواية،
ترجمة بدر الدين عرودكي، أفريقيا الشرق، ص 23).
بوسعنا بطبيعة الحال أن نلمس هاهنا مدى سيطرة ” هوى النسيان” الذي
ما فتئ كونديرا يحيلنا عليه لكن شريطة استيعابنا ما يقصده من وراء هذا اللفظ.
فالنسيان عنده إنما هو قرض دود التقليص الذي لا يقلّص معنى العالم فحسب وإنما معنى
المبدعات أيضا (فن الرواية ص 24). إنّه بذلك ما يقوم ضدّ الإبداع والابتكار أي ضدّ
التميز من أجل التسوية وضدّ الاختلاف من أجل التطابق وضدّ السؤال إبقاء على لغط
الأجوبة. فالضدّية التي يشير إليها كونديرا بحسب المفكّر عبد السلام بنعبد العالي
هي ضدّ ” تقدّم العالم” قاصدا بذلك التقدّم وبنوع من السخرية، التبسيط والتسوية
وغياب الاختلاف التي تطبع روح عصرنا “(عبد السلام بنعبد العالي ضد الرهان، ص 85)
على هذا النحو، نجرؤ على القول بأنّ نظام الاستنساخ الذهنيّ الذي ما فتئ فرسان
البيداغوجيا يؤكدون عليه اليوم أكثر من أي وقت مضى، يكاد يتجاوز الحقل المدرسيّ
ليشمل كل قطاعات الحياة. وأضحى هو ما يحكم منطق المهنة والوظيفة إلى درجة غدا
التمييز فيها ما بين هذا الموظف أو ذاك مستحيلا ولا فرق يذكر ما بين هذا الحرفيّ
وغيره. لقد حلّ اللباس النظاميّ الموحّد محلّ اللباس العقائديّ وارتفع إلى مستوى
المطلق. فاللباس النظاميّ الموحّد هو ما لا نختاره، هو ما يفرض علينا، إنه يقين
العالميّ في مواجهة هشاشة الفرديّ” ( فن الرواية، ص 52) وعليه” فمقدار الهمّ اليوم
ازداد أكثر مما كان. ذلك أنّ المهن قديما لا يمكن الحديث عنها، دونما استحضار ذلك
الارتباط الوجدانيّ بها: فالفلاح كان محبّا لأرضه، وكان جدّي ـ يقول كونديراـ أكثر
شغفا بالطاولات الجميلة، بينما كان الاسكافيّ يعرف جيدا كلّ قياسات أحذية أهل
القرية كذلك الشأن بالنسبة لحارس الغابة والبستانيّ، لا بل حتى الجنود ما كانوا
حينئذ يقاتلون إلا عن حبّ. فما كان معنى الحياة مثار دهشة أحدهم، لقد كانوا
يحيونها على نحو طبيعيّ سواء داخل محلاّت شغلهم أو حقولهم. وكل حرفة كانت تنفرد
بمنطقها الخاصّ، بل وبأسلوبها الفريد الذي هو ما به تغدو حرفة. وهكذا كان الطبيب
يفكّر بشكل مختلف عن الفلاح، وكان للجندي سلوك مغاير لسلوك المعلم أما اليوم فنحن
أشدّ ما نكون تشابها (كونديرا، الهوية، ص 104، طبعة غاليمار 1997) بل قل ليمات (des sosies) وأجهزة هاضمة لا تجمعنا إلا القرابات التافهة التي مافتئت تفرزها
بيداغوجيا السرّ بحيث نكاد لا نخرج من كهف أفلاطون حتى نجد أنفسنا في حاجة ماسّة
للعودة إليه، وتلكم ميكروفيزيائية سلطة الاستنساخ الذهنيّ حيث يضحى الاختلاف نتاج
التشابه لا العكس.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق