الكفيف ولذَّة الكفوف - سعيد بوخليط - مدارات ثقافية

احدث المواضيع

الجمعة، 13 يونيو 2025

الكفيف ولذَّة الكفوف - سعيد بوخليط


يصمت الكفيف بعدها، يجرُّ رجليه بتؤدة معتمدا على عكَّازه في انتظار من يمدُّه بالمساعدة المنشودة، كي يرفع وتيرة الإيقاع ويبلغ بسرعة قصوى مكان وقوفه اليومي قصد الاستفادة أكثر من صدقات المارَّة، قد لا تكون دائما وفق المطلوب، لذلك عاد غير ما مرَّة إلى وكره بدريهمات قليلة؛ بالكاد توفِّر له صحن عدس و كأس شاي، و أحيانا خاوي الوفاض وقد انقضت ساعات سدى مرسلا عبارات استجداء؛ تنهل من هنا وهناك، قصد استدرار العواطف و تليين الأحاسيس.

يستجيب أحدهم، يمسك به، يحاول الكفيف لملمة خيوط حديث يستدرج ضمنيا من خلاله صاحب المساعدة إلى عالمه كي تتحرَّك مشاعره أكثر ويبثّ الألفة بينهما، يخفِّف شيئا من عبء مسؤولية الاقتياد، مادامت العملية تبطئ زمن المساعِد؛ و ربما كان في عجلة من أمره، غير أنَّ سلطة الواجب الإنساني بدت أكثر إلحاحا. يعرف الكفيف بذكائه التواصلي، ما يجول في ذهن مرشده، بالتالي التجأ إلى اصطناع حوار كيفما اتّفق،حتى يخفف من الإحراج و طيِّ المسافة التي رسمها في خياله، ثم بلوغه الوجهة المتوخاة.

غير أنَّ الكفيف، تكتنفه من البداية مشاعر الضجر، إذا وجد فاعل الخير رجلا راشدا، يصعب التخلُّص منه؛ و أحيانا بعبارات أبويّة متعالية، مثلما يصنع بكل يسر عندما يحسُّ بكون الممسك هو طفل أو شاب في مقتبل العمر، بعد أن تحسَّس يده، وسمع صوته، فاستوعب جنس الشخصية الماثلة أمامه :

-''اذهب يا بنيَّ إلى حال سبيلكَ، سيعطِّلُكَ اجترار خطواتي الثقيلة عن المدرسة أو العمل''.

إذا صمَّمَ المبادِرُ على مبادرته، وأراد إكمال سعيه، يرفع حينها الكفيف نبرة صوته أكثر، وقد أزاح بسرعة اليد الممسكة :

- '' شكرا يا بنيَّ، لقد بلغتُ هدفي، اتركني هنا، ويمكنكَ الذَّهاب''.

في المقابل، يغدو النفور سعادة عظيمة، حينما تقتاد الصدفة امرأة كي تمسك بيد الكفيف، متوخيَّة إرشاده إلى موقعه المعتاد، لحظتها ينتعش وجود الكفيف ويشعر بأنه في كنف نعمة لا يتوقَّعها دائما، لاسيما إذا تركته المرأة يمسك بيدها وتحسُّسِ جلد كفِّها بأريحية، فيغدق عليها خطابا تنويميا بأدعية أبويَّة تجعله ضمنيا في مقام أبيها.

لم يعد حينها، راغبا في نهاية مدى المسافة، مثلما لا يترك حكيه مجالا للفراغ أو الصمت، حتى تستمرّ اليدان ملتصقتين قدر ما يمكن، مبتغى مكمن اللذة كلما استكانت المرأة لحركته أو لحركاته ولم تصدَّه بطريقة من الطرق، ثم تتضاعف سعادته إذا بدا الكفّ أملسا، ناعما، لامرأة مكتنزة ذات أصابع طريَّة.

انقضت فترة زمنية، بدأ أمر الكفيف يفتضح شيئا فشيئا بين حكايات الساكنة، شخص يستثمر عاهته ويستغلّ تعاطف الناس، النساء بالدرجة الأولى ويتحرَّش بهنّ مجانا على طريقته، فأطلق البعض عليه نعت: ''الكفيف عاشق الكفوف''.

إذن، ذاع خبر الكفيف، وطريقة انتقائه الأيادي النسائية بدل الذكورية، غير أنَّ لا أحد تعامل بالحزم مع شذوذ السلوك والجهر علنا بالفضيحة، غاية حدوث الأمر مع عَمَّة أمِّي؛ ذات صباح، فلم تتردَّد قط في دفعه، و جمعت خلق الله كي تشهدهم على أفاعيل كفِّ الكفيف، واستغلاله الجبان للمساعدة كي يستمتع مجانا بطريقة محتالة.

حقيقة، ليس غريبا أن تكون عَمَّة أمِّي جدارا مفصليا، تحطَّمت عليه رغبات الكفيف، وافتضحت أخيرا شخصيته مما اضطرَّه إلى الرحيل عن الحَيِّ.  

شخصية فولاذية استثنائية لقَّبناها داخل الأسرة، ب''جيمي القوية'' إحالة على بطلة السلسة التليفزيونية الأمريكية الشهيرة أواخر السبعينات، و أحيانا أخرى نعتناها ب"الشينيوية'' (الصينية) أخت بروسلي الهاربة، نظرا لقرب ملامحها من الآسيويين، لا سيما وأنَّ أخيها الكبير جدِّي من جهة أمِّي، شارك في حرب الهند الصينية. جملة نكت ساخرة، تقتلنا ضحكا خلال تلك الأمسيات العائلية، نظرا لحذقها وحيويتها المفرطين. اشتغلت لسنوات طويلة قبل تقاعدها، خادمة لا غنى عنها، عند عائلة أوروبية مكثت في المغرب؛ بعد مغادرة المعمِّرِين.

كائن يدمن الحركة طيلة اليوم، مثلما عاينت ذلك بأمِّ عيني، طيلة سنوات الطفولة قبل موتها. تستيقظ يوميا الساعة الخامسة صباحا، و تنام بعد صلاة العشاء مباشرة. قاعدة عسكرية،  لم تتنازل عنها كيفما جاء سياق الظروف. تنهي أشغال البيت، مع بداية شروق الشمس، طبخا وعجينا، ثم تقضي ما تبقى من ساعات اليوم، منكبَّة على إنجاز حرفها اليدوية كالخياطة والتطريز اليدوي، و لا تتناول أبدا أكلا سوى خلال الوجبتين الرئيستين والاكتفاء بحساء ساخن ليلا.

عاشت بين جدران منزل كبير، تواجد بجانب منزل ثان مهجور من ساكنته، داخل نفق مظلم أشبه بعتبة كهف، لا تعرف له الشمس سبيلا؛ أو ما كان يسمى في مراكش القديمة ب ''الصَّابات'' .اكتسحني دائما رعب شديد، كلما بعثتني أمِّي عندها لغرض ما ،خاصة ليلا، بحيث يلزمني المشي لأمتار محفوفة جميعها بالمخاطر، كأنِّي داخل قبوٍ لمومياء الفراعنة، قبل بلوغ عتبة الباب، ثم أطرق بلهفة عطشان الصحراء أمام بئر ماء.

بمجرد نهاية الطرقة الأولى، يصدح نباح الكلب الضخم المسمَّى جاك، القابع منذ أن وعيي بحكاية عَمَّة أمِّي، داخل قفص كبير في سطح المنزل، لا يغادره أبدا و لا يعلم  من حقيقة العالم سوى رَبَّته، لذلك كاد يلتهمني ذات شغب طفولي حينما تجرَّأتُ وصعدتُ إلى السطح، متسلِّقا في غفلة من الحاضرين السلَّم المترهِّل المعلَّق هواء، و لولا يقظة جيمي قوية لكنت منذئذ في عداد أهل المقابر.

نباح أشبه بعويل ذئب شائخ على امتداد غابات موحشة. أنتظر قليلا، يضاء مصباح خافت جدا، تخيَّلتُ باستمرار طيفا من الأرواح الشرِّيرة واقفا خلفي، سأكتشف ملامحه الرهيبة مع انقشاع أولى خيوط الضوء .كلمّا تأخَّر فتح الباب، تضاعف رعبي و تمثَّلت بين ثنايا تلك الظلمة أشكالا مخيفة عدَّة.

عاشت عَمَّة أمِّي مع ابنتها المتبنَّاة داخل هذا المنزل الكبير الأنيق والنَّظيف و المُرَتَّبِ حقيقة، بغضِّ النظر عن مقدِّمة ولوجه العسيرة، تؤنس صحبتهما قِطَّتان سمينتان في غاية النظافة والأخلاق الحسنة قدر إبائهما وكبريائهما، يكشف وَبَرُهما الكثِّ والرَّطب عن عناية وتغذية، و لازلت أذكر كيف كانت تتجاوب معهما عَمَّة أمِّي لغويا وإيمائيا على نحو مثير للدهشة.

في زاوية أخرى من صحن الدار، تدبُّ بخيلاء عزلة الكبار سلحفاة حكيمة، نحو طبق من بقايا قشور الطماطم و الخسّ. 

عموما، كانت حياة تلك السيِّدة/الأيقونة، ديناميكية تماما، مغايرة للسائد، مزاجها مختلف، غير مقبلة على جلسات الأسرة، و حتى إن اضطرَّت لا تطيل الجلوس، لا تحضر مناسبات سوى لماما وبشكل عابر، لذلك جَسَّدَت نموذجا شاذّا قياسا لنمط الثقافة الاجتماعية المستتبَّة التي نهلت الأسرة منها؛ كباقي الساكنة.

صبيحة نهاية لعبة الكفيف، انطلق كعادته ينادي مثلما دأبت تسخيناته، على فاعل خير يأخذ بيده، لسوء حظِّ المسكين تصادف تطلُّعه مع مرور جيمي قوية، و هي مسرعة نحو سوق الخضر، تجاوبت بسرعة مع دعوته رغم نفورها الشديد من البطء والثِّقل، مدَّت يدها، التقت يداهما، تحسَّسَ الهديَّة المسمومة، افتقدت حقيقة للطراوة المنشودة التي تشعره بالحرارة. مع ذلك، لا ضير،المهمّ هويتها النِّسائية.

فرح الرجل، بهذا الصيد من الوهلة الأولى، بدا يشدُّ  و يضغط و يمرِّر، شعرت عَمَّة أمِّي بذكائها الفطري أنَّ الأمر غير أخلاقي، جذبت يدها بسرعة البرق، ثم تداعى خيط شتائمها،  تحلَّق حولهما العابرون ومظاهر الاستنكار بادية على ملامحهم وجهة الكفيف المطروح أرضا، لأنَّ سيرته بخصوص الكفوف صارت متداولة، لكن لا واحدة من النسوة اللواتي أتاحت أناملهنّ مرتعا خصبا لانتشاء الكفيف، بادرن إلى صدِّه وكشف صنيعه علنا، غاية مجيء عَمَّة أمِّي ، فوضعت حدّا له، وفق بصمة شخصيتها المعهودة.   

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق