عبد الجليل غزالة
المغرب
الأطروحات
أماطت الممارسةُ المنهجية القولية النقدية اللثامَ عن بعض ثغرات الطرح البنيوي الألسُني الذي أنجزه العالم السويسري فردينان دو سوسُّور. فما هي هذه الثغرات؟ كيف استطاعت الممارسة القولية (التلفظية) الألسُنية سدَّ هذه النقائص وإضافة الجديد، دون إحداث "قطيعة منهجية" داخل الطرح الألسُني البنيوي؟
يتمحور الطرح البنيوي السوسُّوري حول دراسة النصوص الفعلية دراسة لغوية داخلية/"مثولية" صرفة. فالبنيوية الألسُنية تدرس الأشكال والصيغ اللغوية لأقسام الكَلَم في النص؛ أي أنها تعتمد على تفكيك هذا النصِّ إلى عناصره اللغوية المكوِّنة. ولذلك فإن الضرورة المنهجية غير المشروطة قد دفعت سوسُّور إلى إقصاء العناصر القولية الخارجية، وهي:
- المتكلِّم (= المبدع)، الذي يُبرِز ذاتَه وإبداعَه الشخصي الذي يصعب رصده، حسب رأي البنيويين الألسُنيين. فالمتكلِّم (المبدع) يُعَدُّ من اختصاص علم النفس وعلم الاجتماع النفسي.
- السياق: وهو مظهر يُبرِز ظروف النصِّ المتغيرة ومرجعيته وأهدافه وعِلِّيَتَه.
إن هذين العنصرين القوليين قد أوقعا البنيويين الألسُنيين في تناقض مع طرحهم المنهجي،[1] مما يحرك التساؤلات الآتية: هل يستطيع الباحث البنيوي الألسُني أن يجرِّد النصَّ تداوليًّا (عمليًّا) من سياقه، مهما تغيَّر وتلوَّن؟ وهل يمكن إقصاء شخصية المتكلِّم (أو الكاتب الفاعل) عن عملية الإرسال الألسُني المبثوث داخل النصوص؟
الإطار النظري القولي
تقوم الرسالة الشفوية أو النصُّ المكتوب على عنصرين مهمين، هما:
أ. عنصر المتكلِّم (أو المبدع بتعبيره الشخصي).
ب. عنصر السياق أو الظرف الذي وُجِدَتْ فيه الإرسالية أو النص.
ترى البنيوية الألسُنية أن هذين العنصرين يخرجان عن نطاق اللغة. والحقيقة أن المتكلِّم والسياق يحدِّدان الاتصال بين أبطاله (عوامله)، في ظروف معينة، حيث تكون الصياغة اللغوية البنيوية هي القالب النهائي المحدَّد.
تقف البنيوية الألسُنية عاجزة عن خلق نظرية تحدِّد بها السياق والمتكلِّم. وقد حدَّد رومان جاكبسون أنموذجه الوظيفي الألسُني بإدراج المتكلِّم والسياق ضمن مشروع متميِّز، يرتكز على خمسة وظائف وعناصر، هي:
المتكلِّم – القانون – المخاطب
القناة
السياق
والملاحظة أن النظرية القولية (التلفظية) تسدُّ ثغرات البنيوية اللغوية من خلال إضافة دراسات عن:
1. الجانب الذاتي في اللغة.[2]
2. ظروف وأسباب إنتاج النصوص ووضعها.
3. تحديد الضمائر والأزمنة وأسماء الإشارة...
4. "تعبيرية" الكلام: أي المسافة التي يقيمها المتكلِّم بينه وبين النصِّ أو الرسالة التي ينتجها من خلال مشاركته أو انعدامها في القول.
إن الإطار القولي يعيد النظر في التجديدات القديمة: العبارة المقولة، اللفظة، المفردة، الكلمة، المقطع، الجملة، الفقرة، إلخ. فما هي حدودها وقواعدها الشكلية؟
يعرِّف إميل بنفنِسْت، أحد أعلام النظرية القولية، بـ"الجملة" بوصفها مجموعة من المستويات القولية؛ فالقول يضمُّ عدة جمل تتحدَّد من خلال الجانب البلاغي وشخصية المتكلِّم والسياق. وينتج القول (الملفوظ) من خلال متوالية صوتية يبثُّها شخص واحد أو مجموعة أشخاص؛ وتملك المتوالية المذكورة بداية ونهاية يغلقها الصمت المؤقت. ويقوم القول على قواعد نحوية تجعله مقبولاً من الاتصال أو لاحنًا عنه. وتلعب علامات الترقيم (نقطة، فاصلة، علامة تعجب، استفهام، إلخ) دورًا في تحديد القول.
الخروج الأول
تمثل مجموعة الخروج الأول عملاً انتقائيًّا، اصطفاه إبراهيم الكوني من بين أعماله الكاملة المتنوعة، ورتَّبه تحت هذا العنوان.[3]
مظاهر القول القصصي في الخروج الأول
تطالعنا منذ البداية (ص 9) بعض الشخصيات المتحدثة عن "أناها القولية"؛ شخصيات متنوعة مثل: الداموس، الشيخ محمدو، مصباح سعيد، جبور، عبد الله القاضي، سي الطاهر، الحاج بو كعبة، سيدي عمر، مسلم، مرزوق، ميمون، الأب، الابن، المعلِّم، مهدي الغرنوق، شناني، مأمون، الشيخ غوما، بوسعيد، أمود، إلخ.
تمارس بعض هذه الشخصيات (العوامل) أحداثًا لغوية من خلال أسماء إشارة وأفعال وضمائر تحيل عليهم نحويًّا بشكل دقيق. ومن حيث التواضع والاتفاق تُعرِب فئة محددة من الشخصيات السالفة عن انكساراتها وتفرغ مكبوتاتها وتحوك تراثها. إنها تستشرف مستقبلها من خلال دقة الاستعمال لـ"علامات أيقونية"، أو "دوال مباشرة"، ذات معاني حقيقية وظاهرة تحيل على ظروف الحياة الليبية وتقلباتها.
نلاحظ أن إبراهيم الكوني يوظِّف شخصيات أخرى نعتبرها ثانوية؛ إنها شخصيات تشقُّ عصا الطاعة، حيث يحرِّكها الكاتب بإبداعه الشخصي ضمن سياقات يرسمها بمهارة عالية. وهو أمر نعتبره يمثِّل "شذوذًا قوليًّا"، لخروجه عن دائرة إطارنا النظري القولي، حيث تعيد هذه الفئة بناء الموروث الشفهي الأسطوري، باعثة فيه دلالات غير متناهية ورموزًا متنامية.
يلوح المظهر القولي، المبرِز للإبداع الشخصي وللسياق عند إبراهيم الكوني، من خلال مجموعته القصصية الخروج الأول، انطلاقًا من الرموز اللغوية التي تستعملها الشخصيات. ويقوم الاتصال الألسُني بين الدامومي، الشيخ محمدو، سيدي عمر، شناني، الشيخ غوما، وأمود، باعتبارهم متكلِّمين ومخاطَبين أيضًا، عبر قانون لغوي عربي فصيح أو لهجي ليبي وسيط، تمرِّره قناة الحوار الشفهي. تتواصل هذه الشخصيات من خلال الوظائف اللغوية المتمحورة حول سياقات الواقع الليبي وظروفه. نجد في ص 56:
نهض مصباح سعيد من السرير، جلس متكئًا بظهره على الجدار، وقال ساهمًا:
- الحمد لله، استعدتُ نشاطي... ولكن الطبول مازالت تدق في رأسي.
فالطبول رمز أيقوني، نعرف فخامتها وجلدها وحبالها وصوتها الجهوري؛ ولكن مصباح سعيد يمنحها رمزًا لغويًّا يربط اعتباطيًّا بين الدال والمدلول بقوله: "مازالت تدق في رأسي". لقد حرَّك إبراهيم الكوني في هذه العيِّنة المقتضبة إبداعه الشخصي حول سياقات الأسطورة والأعراس ومجالس الشعر الشعبي، فكان محترفًا بدهاء.
تنتظم الرسالات القصصية بين عوامل الخروج الأول كحبَّات عقد من اللؤلؤ. تبدو الرسالة لامعة، موصِلة للسياق الذي يجعل إبراهيم الكوني يتعاون مع المتراسلين ضمن "عيِّناته الرمزية"، بغية مسح ظروف هذه الشخصيات وتفسيرها، وتحديد مؤثرات الواقع فيها، وتفاعلها معه أو هروبها منه. نجد الأشخاص المتواصلين (باثِّين ومستقبلين) يجادلون الأسطورة والعجائب والشعوذة، ويحاربون الصحراء والدخلاء، ليبنوا معتقدات رصينة، ويطوِّروا أرضًا وفكرًا، ويرسموا مخططات "تنموية" للغد القادم.
تتعدَّد تمظهُرات إبراهيم الكوني كمبدع يحمل رؤية قصصية تغييرية وبديلة عن الشخصيات البَاثَّة/المرسِلة التي تتوارى وراء هذا الإبداع حينًا، وتنصُّ أحيانًا أخرى بمؤشراتها اللغوية الناصعة.
إن المظاهر القولية (الكاتب المبدع + السياق) التي حاولنا استخلاصها من خلال الخروج الأول لإبراهيم الكوني قد أوضحت لنا أن الإبداع الشخصي والسياق يرسمان رحلة استكشافية لكلِّ "العينات القصصية الرمزية" التي انتقاها المؤلِّف ورتَّبها في هذه المجموعة، راسمًا من خلالها البعد الإنساني والأسطوري في أزمنة صيرورة المجتمع الليبي. إن المظاهر القولية قد أوضحت لنا طريقة تفسير المؤلِّف للواقع الليبي، بكلِّ معتقداته وتراثه وفلكلوره ومخزونه الأسطوري.
تصادفنا أحيانًا بعض الشخصيات في الخروج الأول غير متفاعلة مع السياق والمرجعيات التي "يقصُّها" إبراهيم الكوني؛ وإننا نعتبرها شخصيات سلبية: تسرد الأحداث والوقائع بأسلوب خَبَري تقريري، دون ضغط أو ممارسة ألسُنية قولية. نجد في ص 56:
ليس هناك جديد... تلقيتُ آخر مكالمة منذ قليل. لم يعثروا على شيء... والسيارات مازالت تذرع الصحراء بالطول والعرض.
فهذه شخصيات "ناقلة أخبار"، بأفعال ماضية و"صيغ محكية"، أي غير مباشرة. إنها شخصيات بسيطة/شعبية، تابعة لسياقات رمزية، تدفعها إلى عدم إبراز "أناها القولية"، من خلال أقسام الكَلَم في الخروج الأول.
الجمل القولية في الخروج الأول
إن الإطار النظري القولي المعاصر يحدِّد الجملة على أنها منظومة كلامية وليست لغوية؛ أي أنها إنجازية أو أدائية استعمالية، لا تصنَّف ضمن مستوى اللغة، بل ضمن مستوى الكلام. تطالعنا ص 97 من الخروج الأول بالجمل القولية الآتية:
- شَنْ سَمَّاكْ رَبِّي؟ [1]
- الطاهَرْ. [2]
- من أيِّ قبيلة؟ [3]
- والله لا أعرف... [4] يقولون إنني من الصيعان. [5]
- الله يبارك... [6]
- الله يبارك... [7]
- أنا اسمي مبروك من الرنْتانْ. [8]
فهنا لدينا ثماني جمل قولية، تبعًا للحوار المتواصل المترابط. فالقول الواحد يضم العديد من الجمل.
التركيب
لقد أبرزت لنا الدراسة الألسُنية القولية أن إبراهيم الكوني يتميِّز بإبداع شخصي، تنسِّقه لغة متعدِّدة المستويات. كما أنها أبرزت لنا أيضًا أنه يحرِّك أحيانًا بعض شخصياته ويتعاون معها من خلال إرسالياتها اللغوية المتعددة، ليخلق جدلاً ويغير تصورًا حول بعض الأفكار والمعتقدات والأساطير الليبية. ويمزج المؤلِّف بين الرموز والأيقونات والإشارات، ليرسِّخ بعض المدلولات المباشرة وغير المباشرة والاتفاقية.
- شَنْ سَمَّاكْ رَبِّي؟ [1]
- الطاهَرْ. [2]
- من أيِّ قبيلة؟ [3]
- والله لا أعرف... [4] يقولون إنني من الصيعان. [5]
- الله يبارك... [6]
- الله يبارك... [7]
- أنا اسمي مبروك من الرنْتانْ. [8]
فهنا لدينا ثماني جمل قولية، تبعًا للحوار المتواصل المترابط. فالقول الواحد يضم العديد من الجمل.
التركيب
لقد أبرزت لنا الدراسة الألسُنية القولية أن إبراهيم الكوني يتميِّز بإبداع شخصي، تنسِّقه لغة متعدِّدة المستويات. كما أنها أبرزت لنا أيضًا أنه يحرِّك أحيانًا بعض شخصياته ويتعاون معها من خلال إرسالياتها اللغوية المتعددة، ليخلق جدلاً ويغير تصورًا حول بعض الأفكار والمعتقدات والأساطير الليبية. ويمزج المؤلِّف بين الرموز والأيقونات والإشارات، ليرسِّخ بعض المدلولات المباشرة وغير المباشرة والاتفاقية.
*** *** ***
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق