فرانكشتاين في بغداد.. تَماهي الواقع مع المُتخيّل - مدارات ثقافية

احدث المواضيع

الاثنين، 31 مارس 2014

فرانكشتاين في بغداد.. تَماهي الواقع مع المُتخيّل

منشورات الجمل بيروت – بغداد
الطبعة الاولى 2013
ماوراء السرد
السعداوي وهو يبني روايته ذَهَب في مَسارٍ فنيٍّ إستَمَدَ حمولته من تقاناتِ ماوراء السرد،فأوكَل مسؤولية سرد الحكاية إلى ساردين إثنين.الأوّل،مؤلفٌ خارجيٌ(ضِمْني).والثاني مؤلفٌ داخليٌ (مُعْلَن) يُشكل حضوره جزء من شخصيات وبنية العمل ذاته،كما اشار الى ذلك الناقد ــ والاس مارتن ــ في كتابه نظريات السرد الحديثة “إنَّ السرد المُضَمَّن،هو القصة التي تسردها شخصيةُ في القِصَّة،هي مُضَمَّنةٌ “.
السعداوي وهو يتناول العنف والتفجيرات التي سادت العاصمة بغداد مابين الاعوام 2003 – 2005 بعد سقوطها في قبضة الاحتلال الاميركي،لم يستند على شخصية رئيسة واحدة تتمحور حولها الرواية،انما عدد من الشخصيات،منح لكل واحدة منها مساحة واسعة من الاهتمام والمتابعة.
الشخصيات
إيليشوا العجوز المسيحية التي فقدت ابنها دانيال قبل عشرين عاما في الحرب،مازالت تنتظر عودته،ورفضت أن تغادر العراق مع بناتها الى استراليا لتبقى وحيدة في بيتها مع قطّتها نابو..وهناك شخصية فرج الدلال صاحب مكتب دلالية الرسول للعقارات،الذي استثمر أجواء الفوضى،وغياب الدولة،ليضع يده على العديد من بيوتات حي البتاوين مجهولة المالك،ليحوَّلها الى موتيلات صغيرة ورخيصة،يقوم بتأجير غرفها الى العمال الوافدين من المحافظات أو العوائل الهاربة من مناطق مجاورة لاسباب طائفية،وقد حاول أكثر من مرة أن يقنع العجوز ايليشوا في أن تبيع بيتها ولم ينجح. وهنالك أيضا شخصية هادي العتّاك جار العجوز إيليشوا الذي طلب منها أكثر من مرة أن تبيعه الانتيكات التي تحتشد في بيتها ..وشخصية أبو زيدون الحلاق،الرجل الحزبي الذي قاد ابنها من ياقته الى المجهول وفقدته بسببه..وشخصية أبو أنمار صاحب فندق العروبة الذي بات شبه مهجوراً بعد نيسان 2003 كغيره من الفنادق.إضافة الى شخصيات أخرى تضمها صفحات الرواية تشكل بحضورها نماذج طفت على سطح المجتمع العراقي خلال الاعوام التي اعقبت سقوط بغداد،منهاعلى سبيل المثال:حازم عبود المصور الصحفي الحُر،محمود السوادي الصحفي الشاب الطموح،نوال الوزير مخرجة سينمائية في الاربعين من العمر الصديقة المقربة لرئيس تحرير جريدة الحقيقة علي باهر السعيدي،العميد سرور محمد مجيد مدير دائرة المتابعة والتعقيب .
في اولى الصفحات بدأ السعداوي مُستنداً إلى إجراء تقني يحاكي آليات السرد(المَاوراء قَصَّي)وذلك بانفتاحه الواضح على استثمار سجلات ومخطوطات ووثائق ورسائل..فقدافتتح الرواية بهذه الجملة:”تقريرنهائي،سريّ للغاية “. بعدها أورَدَ مجموعة ملاحظاتٍ وتوصياتٍ وقراراتٍ،سجَّلتها لجنة تحقيقية خاصة،تتألف من ممثلين عن المؤسسة الأمنيّة والاستخبارتية العراقية،ومراقبين من الاستخبارات العسكرية الاميركية،وتتعلق هذه النقاط،بعملِ دائرة المتابعةوالتعقيب،المرتبطة جزئياً بالادارة المدنية لقوات الائتلاف الدولي في العراق.إلاّ أنَّ السعدواي وبَعدَ أن يُنهي عمله الروائي ،يكتب في الصفحة الاخيرة،إشاراتٍ،ينفي فيها وجود “دائرة رسمية عراقية باسم دائرة المتابعة والتعقيب.بالوصف الذي وردت فيه داخل الرواية،لابالأشخاص ولابالأسماء ولا بالمَهام أو الأحداث ،وأيّ تشابه بينها وبين دائرةٍ فعليةٍ لها الاسم نفسه،فهو أمرٌ غير مقصود”. وبهذه الإشارة التي يدفع بها الى القارىء يضعه أمامَ لعبة فنيةٍ ليس إلاَّ يتوجب عليه أن يعيد قراءتها اكثر من مرة لكي يمسك بخيوطها المتشابكة .
رواية داخل الرواية
معمارالرواية تمظهر بعدة مستويات متراكبة ومتداخلة مع بعضها، تنتمي من حيث الشكل والمضمون إلى مايطلق عليه اصطلاحاً (ماوراء السرد) كما اشرنا،وذلك:لانفتاح فضائها على استثمار تقانات(الرواية داخل الرواية).وبذلك إبتعد العمل عن إعادة انتاج الواقع،بواقعيته المألوفة والمرئية،في مقابل أستحضار واقع مُتخيَّل للكشف عنه.
وفق هذا الاجراء الفني،لم يعد بامكان القارىء،الاستدلال على أيِّ منهماــ الواقع والمتخيَّل ــ طالما يتبادلان المواقع والادوارفي لحظاتٍ خارج التَّوقع،دون تمهيد واستدراج،ليصبح الواقع خيالاً، والخيال واقعاً.
هذا الأنطباع يتولد بكثافة،من خلالِ مخطوطِ روايةٍ يتم العثورعليها من قبل أفراد دائرة التعقيب والمتابعة،أثناء تفتيشهم في غرفة مؤلف روائي شاب،بحثاً عن شخصية مجرم بات يخلف وراءه بين فترة وأخرى عديد من الضحايا،وتتألف المخطوطة التي لم تكتمل بعد  ،من مئتي صفحة مقسَّمة إلى سبعة عشر فصلاً.إعتمد فيها المؤلف(المُعْلَن)صاحب المخطوطة على مجموعة من الوثائق ،سُرِّبت اليه من دائرة المتابعة والتعقيب،تتعلق بشخصٍ مُطاردٍ من قِبل السلطات العراقية والأميركية،يُشتبه بارتكابه لعدد من  جرائم القتل.
السعداوي صاغ حبكة روايته بذكاء واضح،الى الحد الذي تماهى فيها الواقع مع الخيال،وذلك عبر شخصية بائع الاثاث المستعمل (هادي العتّاك)الذي يعمل على إنتاج وَهْمٍ تعوَّدَ أنْ يَسرُدَهُ في حكاياتٍ غريبةٍ وطريفةٍ على مسامع رواد مقهى عزيز المصري ،مُستجيباً لطلباتهم،رغم قناعتهم بأنَّ مايسرده ليست سوى حكايات غريبةتختلقها مخيلةٍ مخبولةٍ،يعيد العتّاك من خلالها  الحياة الى أشلاء بشرية،يتولى جمعها من عدة أجساد لضحايا كانوا قد سقطوا قتلى نتيجة انفجارات تقع  هنا أوهناك،وقد سمى هذا المخلوق  (الشِسْمَهَ)لأنه حسب قوله :”ليس جثة فعلاً .الجثة تشير إلى شخص أو كائن مُحدَّد وهذا مالاينطبق على الشِسمه”. بينما اطلق عليها إسم تسمية(فرانكشتاين)الصحفي محمود السوادي الذي سمع القصة من هادي العتَّاك مثل بقية رواد المقهى،وتمكن من اقناعه بأن يسجل صوت(فرانكشتاين/الشِسمه)على شريط صوتي بجهاز تسجيل صغير أعاره للعتّاك،الذي مالبث أن أعاده إليه بعد عشرة ايام، ليستمع الى الصوت وهوياتي عميقاً من جهاز التسجيل :” أنا الردُّ والجواب على نداء المساكين.أنا مُخلِّصٌ ومُنتَظرٌ ومَرغوبٌ به ومأمولٌ بصورة ما..أنا الردٌّ على ندائهم برفع الظلم والاقتصاص من الجناة.سأقتص بعون الله من كل المجرمين.سأنجز العدالة على الارض أخيراً،ولن يكون هناك من حاجة لانتظار مُمِضٍّ ومؤلمٍ لعدالةٍ تأتي لاحقاً في السماء أو بعد الموت …… ” .
مَنَحَ السعداوي شخصية (الشِسْمَهَ/ فرانكشتاين)مساحة وحضوراً في بناء وتطور الاحداث،خاصة مع كلِّ جريمةِ قتلٍ تقع في حي البتاوين،إضافة إلى أحياء أخرى في العاصمة بغداد: “فالشِسمَه،مَصنوعٌ مِن بقايا أجسادٍ لضحايا،مُضافا إليها روحُ ضحيةٍ وإسمُ ضحيةٍ أخرى.إنَّهُ خلاصةُ ضحايا يطلبون الثأر لموتهم،حتى يرتاحوا.وهو مخلوقٌ للأنتقام والثأر لهم “.
التراجع والتكرار
الزمن السردي الذي نسج فيه السعداوي تفاصيل أحداث روايته لم يكن يسير بخط مستقيم،بقدر ما اعتمد على الاختلالات الزمنية “تتميز الاختلالات الزمنية بالمدى والاتساع ” كما جاء في كتاب “نظرية السرد من وجهة النظرالى التبئير” لجيرار جنيت واخرين.  وبتأثير من آليات الفن السينمائي تحرك الزمن السردي لديه وفق تركيبةٍ مونتاجية لعبت على مفردة التراجع والتكرار،وهو إجراء يتيح له أن يسردَ حدثا واحداً من عدة شخصيات،وبذلك يكون قد التجأ الى تفتيت الزمن الى وحداتٍ صغيرةٍ،ليعيد بنائهاجزئية جزئية،حتى تكتمل صورة الحدث،هنا يكون السعداوي قد تجاور وتماهى كثيراً مع مايتيحه المونتاج السينمائي من حرية وسرعة في القطع والانتقال السريع لبناء الحبكة في الفلم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق