لا يني أدونيس يستنفر الأسئلة في جهده النقدي، وحفرياته المعرفية، وغوصه على ثوابت الثقافة العربية الإسلامية وأصولها المتحكمة بمفاصل القول والحياة، بقصد مواجهتها وتحريكها ونقض صلابتها النسقية المولّدة للطغيان، والمرسّخة لمختلف أشكال الأحادية التي تنتهي جميعاً إلى اعتقال العقل وتطويق الجسد ومصادرة الإبداع، بما ترسيه حول ذلك كلّه من سياج دوغمائي مغلق، يفرض على الحركة أن تدور، من جديد، في حصنه الحصين ونطاقه المضروب، من قبل، على نحو نهائي، يشكل أسّ القمع، ويكون لحمته وسداه معاً.
وإذا كان عمل أدونيس هذا، وغيره، لا ينفكّ عن كونه متابعة لمشروعه الأساسي في «الثابت والمتحول»، فإنه، في الوقت نفسه، يشكل إغناءً له، ورفداً متجدداً يمتدُّ به من ماضي الذات إلى حاضرها، ومن نقد حضورها بذاتها إلى تخصيب تعريفها بغيرها، في حفز دائب للحركة موجّهٍ بأفق المستقبل، وحاجات التقدم، وممكنات الانعتاق والتأسيس الجديد. وعلى الرغم من الأهمية القصوى لما يطالعنا به أدونيس، يبقى من الملاحظ أنه لا ينطوي على إعادة النظر في ثوابت مشروعة، بل إن كتاباته الجديدة تأتي دعماً له وامتداداً به أكثر من كونها مراجعة له بالنقد والتعديل.
وسأقتصر، في حدود هذه المتابعة، على مناقشة كتابه الجديد من خلال الزوج العلائقي الذي يختطّه أدونيس وينطلق منه في تقابل «تفكير/ تكفير» و «حوار/ تسامح».
يشخّص أدونيس مشكلة الثقافة العربية الإسلامية السائدة بهيمنة الرؤية الدينية على حقول النشاط الإنساني كافةً، بحيث إنها تغدو الأنموذج الأوحد للحقيقة. وهو ما يعطّل التفكير من خارجها، وينعطف بفاعله إلى معنى التكفير.
صحيحٌ أن ثقافة التكفير ـ كما يقول أدونيس ـ أدّتْ، تاريخياً، إلى الامتناع عن التفكير. لكنّ منطق التناول، الذي يصدر عنه، ينتهي به إلى أن يجوهر «الديني»، ويجعل منه علّة العلل، وكأنه مبدأ الحياة ومركزها الثابت، وليس واحداً من تجليات نظامها الاجتماعي السياسي أو بعداً من أبعاده. وجوهرةُ الديني، عنده، ستقود إلى جوهرة الثقافي وإعلائه. وبهذا الإعلاء يغدو «الديني» واحداً، و«الثقافي» واحداً، لا ينطوي أيّ منهما على نتوءات الفرق والتعارض والاختلاف، بل يتقدم، من داخل هذا المنظور، على أنه كتلة متراصّة، وآلة موحّدة محكمة الائتلاف، من شأنها ـ كيفما دارتْ ـ أن تنتج العنف والطغيان والإبادة.
التسامح
وبمثل ما سبق، يبيّن أدونيس أن تاريخ القتل وحروب التصفية والتطهير يرجع إلى اقترانها بمفهوم الإله الواحد الذي تُشنُّ باسمه. بمعنى أن فكرة الوحدانية المنقولة من السماء إلى الأرض هي التي أسَّستْ لذلك كله. إذا كان هذا صحيحاً كيف يمكن أن نفسّر، في ضوئه، الصراع الدموي العنيف في ثقافات وأديان قائمة على التعدد، ماضياً وحاضراً، كما هو في أديان وثنية تقرّ بتعدد الآلهة، أو كما هو في مثال الهند واليابان الذي يستشهد به أدونيس؟! يبدو لي أن الأمر يحتاج إلى إعادة تدقيق، تستوجب، بدورها، تعديل المنطلقات، لأن قطع التناقضات عن جذورها الضاربة في عمق البنية الاجتماعية هو الذي يجعلها تبدو على شكل صراع بين أفكار مجرّدة وأديان متخالفة تخفي وراءها مستوى الصراع الأساسي في الوقت الذي تتعيّن فيه مظهراً إيديولوجياً له.
في الكلام على الحوار، يقول أدونيس: تتخذ لفظة التسامح اليوم شكل المفتاح الأول لبناء هذا الحوار. وتشير هذه الكلمة، بدلالتها العامة السائدة، إلى «مخطئ» وإلى «مُصيب» يتناسى الخطأ. ويعني ذلك أن المُصيب يتسامح مع شخص هو «دونه»، أو ليس «مساوياً» له، أو «منحرفاً» عن «الصراط» المستقيم. وهذا التركيز على الدلالة اللغوية يطمس البعد الاجتماعي التاريخي للتداول. فهل يتخذ القول بالتسامح إقرار وضعية (الأعلى/الأدنى) في مقولات التنوير وسياقه الخاصّ؟! ألا يمكن أن يكون التسامح فعلاً لفاعلين يضمن القيام على مبدأ التكافؤ، من حيث هو معطوف على إقرار حق الاختلاف، ووجوب توسيع النظرة من الجهات المختلفة. فالمغلوب والأقلوي، عرقياً ودينياً، يملك أن يكون فاعلاً للتسامح على قاعدة المساواة بغيره. إنه، في هذا الحال، يتسامح مع الغالب والسالب بموجب حقّه المكفول بمبدأ التسامح نفسه، وصولاً إلى إدارة جديدة للحياة، تقوم على صيانة الحقوق وضمان المشاركة. فليس التسامح هنا هو غاية نفسه. إنه توسط غايته الوصول إلى وضعية أرقى، تكفّ معها الأصول القديمة عن الفعل والتوجيه، ويعني ذلك أنه يفتح على صيغة تعلو على فعل التوسط نفسه، بحيث لا يبقى معها التراتب القديم، المعلن أو المضمر، بين «مخطئ» و«مُصيب»، وبين أكثرية عليا وأقلية دنيا ... الخ، أي ينتفي التمييز بين البشر من هذه الجهات، ويحضرون معاً كأفراد متساوين على أساس المواطنة.
هذه فروق في أشكال الاستخدام. ألا تقوم الديموقراطيات على مبدأ التسامح باحترام رأي الأكثرية السياسية لا الأكثرية الفئوية؟! أَولا ينتج التسامح في ضفيرة واحدة مع مبدأ المساواة في صيغة القانون الذي يصون الحقوق والحريات؟ أين هي الحدود بين مبدأ التسامح ومبدأ التعاقد؟ عندما تقبل الأقلية السياسية برأي الأكثرية وبرنامجها الذي هو محل الإجماع، ألا يكون ذلك تسامحاً وامتثالاً لروح العقد والنظام، لا يتيح لتلك الأقلية الخروج والانشقاق وممارسة العنف لفرض رؤيتها؟!
ثمة حدود تضيع في الإنشاء اللغوي والعمومية البيانية، يجب ضبطها وإعادة التفكير فيها. إن «التسامح» يتخذ مفهومه المحدّد من داخل المنظومة التي يعمل فيها وينتسب إليها، ولذلك فهو يتعــرف في فــضائها، ويكتـسب شحنته من هذه المصــفوفة النظامية أو تلك الــتي يتعين بها. أما عندما يكون مكفوفاً بالقـطع وعالقاً في فضاء التجريد، فإنه يقــبل تحـميل المعاني المتضاربة التي تجري عليه معاً في غياب التحديد.
إن بناء النظام الحقوقي الضامن للمساواة، يتضمن في ذاته مبدأ التسامح، الذي هو قبول يتقرر على مبدأ التعاقد، ويلتقي عليه الطيف المشكّل للهيئة الاجتماعية. أفلا يمكن أن نرى التسامح بوصفه جزءاً من هذا النسق الرامي إلى بناء دولة الحق والقانون؟ إذا كان ذلك ممكناً فلماذا يتعين علينا أن نحصر مبدأ التسامح بالرؤية السائدة دينياً وعرقياً، أو بمبدأ الإحسان الذي يتنزّل من أعلى نحو المستضعفين والمهمّشين، فيكون آنئذٍ إقراراً بهامشيتهم واستبعادهم؟!
يبدو، في طريقة تقديم أدونيس، أن الرؤية الخاصة بالأديان الوحدانية هي التي تحكم ماضي البشر وحاضرهم ومستقبلهم، وليس السياسات والتناقضات الموضوعية الموصولة بالصراع ومتغيراته القائمة على أرض الواقع الحي.
تناقضات
لقد كان شكل فهم الدين، أو تأويل النص الديني، متقلباً في تغاير الأوضاع الاجتماعية ومستجدات الصراع ومشروعاته السياسية، وكان خاضعاً في كل مرة للتأويل والتأويل المضاد. وهو ما يعكس خضوع الديني للدنيوي، وتكييف الأول لمقتضى الثاني في مجرى التغيّر. ويعني ذلك أن الرؤية الدينية ليست حاكماً مطلقاً على التاريخ الاجتماعي. المشكلة هنا ـ كما أقدّر ـ أن أدونيس ينظر إلى الحوار بين الحضارات على أنه حوار بين أديان، يرتب عليه جملة من التناقضات التي تبدو مستعصية وبمنأى عن إمكان الحّل. وكأن الحوار لا يجري على أرض الواقع ومصالحه المتنازع عليها، وبهذا يظل حواراً على الماضي الذي يظل ماضياً في تشريعه، ويظــل مجــرداً في نصوصه، فتبدو معه الرؤية الدينــية هي المهيــمنة على كل شيء. ولعلّ هذا ما يدفــع إلى مساءلة التوجه وفحص شكل المقاربة التــي يقوم بها أدونيس ويعزّر بناءها في كتابه الجــديد. على أن هذه الأسئلة وسواها لا تعدو أن تكــون من قبيل الحفاوة الخاصة بالاستـقبال النقدي لما يطالعنا به أدونيس في كل مرة من حلــقات مشروعة الذي كان وما يزال يضطلع بتشكيل الوعي الضدي الذي يعصف بثوابت الثقافة العربية، ويخلخل أسسها الراسخة بتشريعها على المستقبل.
وفيق سليطين
المصدر: السفير
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق