تشكّل الكتابة عن الموت بالنسبة للروائية السورية سمر يزبك في يومياتها «بوّابات أرض العدم» (دار الأداب - 2012) طريقة للدفاع عن الحياة، ووسيلة للتشبُّث بالحلم والثورة والأمل، عبر التقاط التفاصيل التي ترسم المشهد العام الذي تسير وفقه إلى الحياة أو إلى العدم. محاربة العدم بالكتابة، وإن كان عبر الدخول في بوّابات أرضه، واستجلاء خباياه وأسبابه وألغازه وأسراره، محاولة تفكيك الألغام المجتمعية الموقوتة التي دسّها النظام في بنية المجتمع السوريّ منذ عقود، وأخرى نشأت على هامش الثورة، وأصبحت جزءاً من تركيبتها.
تصوِّر يزبك عبث الواقع الذي يختلط بصور مرعبة تتفوَّق على المجازات والأخيلة، تنقل حكايات الناس وآراءهم وتناقضاتهم واختلافاتهم وسجالاتهم التي لا تهدأ، تدوّن قصص الثوّار والشهداء والقتلى والمنشقّين واللاجئين والمصابين، تؤرّخ لآلام ذوي الشهداء: النساء والأطفال منهم بشكل خاص، والمعاناة التي يلاقونها في واقعهم وحياتهم، بحيث يجدون أنفسهم دون معيل في واقع شرس لا رحمة فيه.
توثّق صاحبة «رائحة الـقــــرفـة»، في شهادتها، حياة مئات العائلات التي أصبحت من سكّان الكهوف بعد تدمير بيوتها وتهديدها الدائم بالقصف والقتل، وافتراشها الجوع الذي يظلّ ضيفاً ثقيل الظلّ ملتصقاً بها، بحيث يكون الأمر كما لو أنّ طبقات الجحيم يتراكم بعضها فوق الآخر. وما تسمّيه (فنّ صناعة الشياطين).
عبر ثلاث بوّابات/فصول، البوّابة الأولى (آب 2012)، البوابة الثانية (شباط 2013)، البوّابة الثالثة (تمّوز – آب 2013) تكمل يزبك ما بدأته في كتابها «تقاطع نيران» محاولتها لقراءة الثورة السورية من داخلها، عبر التقاط المتغيِّرات التي أحدثتها في المجتمع على أكثر من صعيد.
تستهلّ الكاتبة بتصوير مشهد عبورها الحدود التركية إلى ريف إدلب، وكيف أنّ الأسلاك الشائكة خدشت ظهرها، واستقرّت في منتصف رأسها. تقول إنّه لم يكن بصحبتها، آنذاك، غرباء كثر، ولم تعرف أنها ستكون قادرة على متابعة هذه التفاصيل، إذ كانت تظن -لسبب غامض- أنها ستضيع في زحمة الموت هناك، حيث قرّرت العودة إلى الوطن.
تصف الأجواء في ريف إدلب الذي لم يكن قد تحرّر بشكل كامل، حيث كتائب متحاربة، حواجز كثيرة، صراعات ناشئة وناشبة بين أطراف مختلفة. تصف مشاهد مقاتلين يحملون أسلحتهم، ويرفعون شعارات النصر، تتذكّر مشاهد مصابين وجرحى ممّن فقدوا بعض أعضائهم، تقول: «الفراغ يحتلّ مكان الساق المبتورة. الفراغات تحدِّد شكل العضو البشري الناقص. نحن ناقصون بالكمال. نحن كمال النقصان».
تؤكّد يزبك أنّ كلّ ما يحصل في سرد يومياتها هو واقع. وأنّه لا يوجد سوى شخصية واحدة متخيَّلة تلاعب السرد فيها. تقول: «أنا الوحيدة التي تستطيع العبور وسط الدمار. وكأنّني شخصية متخيّلة في كتاب، أستعين على الواقع بالخيال، أراقب التفاصيل والواقع وما يحدث، ليس على أساس ما أنا عليه، ولكن، أفترض أنّني شخصية روائية، أفكّر في خيارات شخصية مفترضة في رواية، لأقوى على الاستمرار. المرأة الواقعية أتركها جانباً، أصير الأخرى المفترَضة التي يجب أن تقوم بردّ فعل تناسب ما عاشت لأجله.».
تشير الكاتبة إلى أن الهدف من مشروع عودتها كان إقامة مشاريع صغيرة للنساء، وتأسيس منظَّمة في الشمال السوري لتمكين النساء اقتصادياً ومعرفياً، وتعليم الأطفال، وكانت تبحث عن فكرة قابلة للتطبيق، تساهم من خلالها في إقامة مؤسَّسات مدنية ديموقراطية في المناطق التي صارت خارج سيطرة الأسد، وتلفت إلى أنّها لا تستطيع الكتابة عن طريق التسلسل، وأنّها لا تجيد السرد المتسلسل، ولا بدّ من كسر الزمن.
تحكي عن البطولة المطلقة للموت في أرض العدم، حيث لا بطل سوى الموت، لا قصص يرويها الناس سوى عن الموت. كلّ شيء قابل للنسبية والاحتمال إلا بطولة الموت المطلقة، أو لحظة خارجة عن السياق الزمني، ثم تصف لحظة عبورها الأسلاك الشائكة ليلاً، بعبور التيه إلى التيه.. وباللحظة المتأرجحة في سؤال المنفى والوطن، كما تصف العبور بأنه كان بمثابة اكتشاف متأخّر للهويّة السورية، ولجغرافية بلد من طين ودم ونار، ومفاجآت لا تنتهي.
تستعيد لحظات التقائها بالنازحين السوريين في المطارات، وعلى الحدود، تشعر بأن الفكرة يمكن أن تتكثَّف عبر مكان، ثمّ تتحوّل إليه، كافتراضها أن عبور السوريين من خارج جحيم الداخل، تختصره النقاط الحدودية في الجهات الأربع، وهي بوّابات جحيم منفلتة من طبقة إلى أخرى. وتكتشف أنّها تستطيع من خلال تلك المصادفات واللقاءات سبر حجم التغييرات في الشهور الماضية.
تروي صاحبة «طفلة السماء» لحظات كادت أن تستسلم فيها للموت، أو تقع ضحية غدر أو قصف، كما تحكي عن شخصيات حاضرة معها، منها آلاء، ورها، وميسرة، ومارتن سودر، وفداء،ومنهل، وشاهر، وغيرهم عشرات الشخصيات الحاضرة في التنقُّل والارتحال عبر «بوابات أرض العدم». ومن قرية إلى أخرى، يساهمون معها بترميم الخراب وتحدّي الموت، بحيث يصيب بعضََهم ويخطئ آخرين.
تؤكّد يزبك أنّ الثورة على الأرض واقع مختلف، الكتابة عنها مختلفة أيضاً. تقول إنّ هذا الواقع لا يحتاج إلى تنظير وترتيب، ولا حتى إلى معرفة نهاية كل يوم. يحتاج، فقط ،إلى هدوء الأعصاب وتدبير الأمور ساعة بعد ساعة.. أشياء بسيطة يجب الإلمام بها، وأهمّية التماسك أمام الأعضاء البشرية الممزَّقة والدمار الهائل للبيوت، كي لا يغيب عن المرء، للحظة، أن انهياره هو مشكلة لمن حوله.
تصف يزبك كيف تتحوّل الحياة في واقع الموت والعدم إلى معجزة يومية متجدِّدة، تلفت إلى مشاعر الإحباط واليأس بالموازاة مع العمل والأمل، والصراع الذي لا يهدأ بينها. تقول إنّها كانت تريد رؤية الأشياء على حقيقتها. وإنّ عودتها إلى سوريا بين وقت وآخر متسلِّلة ومتنكِّرة، لم تكن -فقط- من أجل إنشاء مراكز تنموية للنساء أو مدارس للأطفال، وإنّها كانت تبحث عن علاقة ما مع هذا الشرّ المتناسل من أبسط الأشياء، البحث عنه، عبر الكتابة عن حقيقته: ما هو، وما أصل سهولته. وأنها حاولت فهم الشرّ لأنّها لم تستطع الوجود على الضفّة الأخرى، حيث تمّ تصنيعه، في المناطق التي يسيطر عليها النظام، وأنها على تلك الأرض، حيث كانت تقف، كان الشرّ ينمو باعتيادية.
تشير الكاتبة إلى جانب من التمزّق الذي يتناهب الهويّة، تتحدّث عن انشطار الذات أمام هول الواقع وخرابه، تقول إنّها ربّما كانت تعود لتواجه المرايا الموشورية التي قطّعت أوصالها وجذورها، وإنّ الحرب التي بدأت تأخذ أبعاداً طائفية فرضت عليها، وإنّها كانت -حسب المولد - تنتمي إلى ذلك المكان، ولكنها- أيضاً -لا تنتمي إليه، وحسب الفهم المنطقيّ لعلاقتها بالحرّيّة، فإنّها تنتمي إلى هذا المكان الذي Jiتضطرّ إلى التسلّل إليه سرّاً، ويرفضها بعد أن احتلّته الكتائب التكفيريّة.
تذكر صاحبة «لها مرايا» أنها دخلت طبقة جحيم أنهت بها شهادتها الأولى في كتابها «تقاطع نيران» عن بداية الثورة وشهورها الأربعة الأولى. وهي في شهادتها الثانية هذه تخرج من طبقة، لتدخل الطبقة الأعمق من هاوية الجحيم، تعود إلى معايشة واختبار شعور المنفى المتجدِّد، تبحث عن إعادة تعريف للمنفى والغربة، تشير إلى أنّها ظلّت تعاني من قسوة الواقع وفظاعته، تتساءل عن جدوى الكتابة في واقع عبثيّ إجراميّ، لكنها تؤكّد أنّ الكتابة هي وعي بفعل الموت، وهي مهزومة أمامه، لكنّها هزيمة شجاعة، وتقول إنّها لم تعِِ هذا
التداخل بين الموت والكتابة قبل الآن.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق