تشظّي ميتافيزيقا أرسطو - نزهـة الحلوانـي - مدارات ثقافية

احدث المواضيع

الاثنين، 25 يناير 2016

تشظّي ميتافيزيقا أرسطو - نزهـة الحلوانـي


لماذا أرسطو؟ وهل سيمكننا من تخطّي محنة الاستشكال التي تعصف بالميتافيزيقا؟ أسئلة نطرحها قبل أن تطرح علينا، ولن ندّعي قدرة الأرسطية على تحمّل فشل الفلسفة في تأسيس الميتافيزيقا كعلم، أو فشل الفكر البشري في الدفاع عن الميتافيزيقا من تيّارات زعزعت ثوابتها وأفرغتها من المعنى واتهمتها بالتعالي والانفصال. ولكننا لا ننكر تنبه الأرسطية الى تأزم الميتافيزيقا وتنبهها إلى أن كل تأسيس لها هو تأسيس مرتجّ، إذ لم تزعم الأرسطية امتلاكها للميتافيزيقا لتكتفي بنعتها بــ «العلم المبحوث عنه»(1)، وذلك لإدراكها بأن الإنهمام بالميتافيزيقا هو دأب قد لا يفرغ منه الشأن الفلسفي. إذن، لم نقصد من خلال عودتنا لـ أرسطو إبراز السبق الأرسطي في تحطيم الهويات الملأى ولكننا أردنا البرهنة بأن التخطّي والتشظّي كامن في الطبيعة المتحركة للميتافيزيقا(2). فمنذ قتل الأب بارمنيدس زجّ بالكينونة في صخب الوجود وفي أنطولوجيا علائقية تعترف بالمختلف والمغاير لتتبدّى الميتافيزيقا متمرّدة على استغلاق المركز. فتطلّع الميتافيزيقا للإطلاقية والكليّة استوجب تمركزها في اللامركز، في التخوم وفي الفواصل. هذا التمركز المتحرّك للميتافيزيقا يشظيها، فهي تتحرّك نحو كلّ مناحي الوجود عساها تدرك الكينونة في كليتها. نفهم إذن انشغال أرسطو بالتضاد، فالميتافيزيقا وكما عرّفها: «لا تنظر في الجوهر فقط بل وفي الأشياء التي هي للجواهر أيضا […] كالقبل والبعد والجنس والصورة والكلّ والجزء وسائر الأشياء التي تشبه هذه»(3).
وقد شدّد ابن رشد في شرحه لهذا القول على تواشج النظر في الميتافيزيقا والنظر في الأضداد حيث يقول: «ورأس هذه الأضداد الواحد والكثير»(4).
عزم الأرسطية على قول الأضداد من عزمها الإضطلاع بالاستشكالي في الميتافيزيقا عندما استوعبت ذلك الثبات التعدّدي للكينونة، هي مفارقة أنطولوجية أفضت الى ميتافيزيقا مضاعفة، ميتافيزيقا الكائن الخالص المتعالي وميتافيزيقا الانتليخيا المحايثة. ولعلّ المربك في الأمر أن بنية مدوّن أرسطو الميتافيزيقا ظلّت محمولة على التناقض بشكل ملفت، وهو تناقض دأب الشرّاح على تجاوزه نحو وحدة مزعومة كانت في كثير من الأحيان نحو نصرة ميتافيزيقا المتعالي الخالص البديل الأرسطي لنظرية المثل الأفلاطونية(5). على النقيض من هذه المواقف، سنحاول البرهنة أن الوحدة بدت غائبة عن مباحث أرسطو الميتافيزيقية، إذ لم تفلح الأرسطية في إدراك الوحدة رغم تحصين العقل بالمنطق، ولم تفلح في تأسيس الميتافيزيقا كعلم، ولم تفلح أيضا في امتلاك علم جذّره مؤسسه في ارض متحركة. هذا ما أكّده هيدڤر بقوله: «لم يمتلك أرسطو أبدا ما فهم بعده بلفظ أو مفهوم “الميتافيزيقا” حسبه البحث عن علم هو الأقرب أو الأشدّ شبها لهذا الذي كنّا نعتقد دوما أنّنا قادرون على اكتشافه عنده تحت اسم الميتافيزيقا»(6).
1. في تشظّي بنية الميتافيزيقا
لم تنتصر المباحث النقدية التاريخية لمبدأ تشظّي ميتافيزيقا أرسطو، فالتشظّي هو تفكك قوامه التناقض، والتناقض يؤول بالفكر خارج المعقول وخارج الحكمة وفي تضاد مع الحقيقة. منظور المؤرخين للتناقض هو منظور أرسطي بالأساس، إذ أرست الأرسطية تقاليد فكرية ـ منطقية أنزلت من خلالها التناقض في اللافلسفي، ولكن يبدو أن أرسطو كان مغايرا لذاته عند الخوض في المباحث الميتافيزيقية ليضطر في كثير من الأحيان الى تخطي ما كان قد فرضه من شروط للمعقولية(7). إذن، نحن بصدد قراءة حيوية للفكر الأرسطي بما هو فكر له تطوّره الذي لا يخلو من تراجع وتردد وتعثر. وقد استندنا في هذه القراءة الى شروحات توجهت للنص الأرسطي وأعادت استنطاقه من داخل بنيته، إذ أخضع يايجر(8) بنية النصوص الأرسطية الى كثير من الفحص والتعديل ليدشّن قراءة حيوية مستجدة للفكر الأرسطي كان لها بالغ الأثر على المفكرين المعاصرين. كما استندنا الى قراءات نقدية حديثة تجاوزت الهرمينوتيقا التقليدية لتتوجه رأسا الى المعضلات التي اربكت الأرسطية(9). وقد تبدّى ارتباك الأرسطية منذ محاولتها رصد موضوع للميتافيزيقا لينتهي أرسطو الى مواضيع أربعة: الميتافيزيقا هي بحث في العلل والمبادئ الأولى، وهي أيضاً «علم الكينونة بما هي كينونة»(10) وأعراضها، والميتافيزيقا هي نظرية في الجواهر ثم هي معرفة بالمبدأ الثابت لتكون ثيولوجيا.
يبدو أننا إزاء مواضيع أثارتها ميتافيزيقا أرسطو ولسنا أمام موضوع بعينه، فبين الثيولوجيا وانطولوجيا الانتليخيا المحايثة تتموضع ميتافيزيقا مضاعفة، والغريب في الأمر أن الأرسطية تدافع وبنفس الشدّة على ضرورتهما رغم تناقضهما . فمنذ مقدّمة مدونه الميتافيزيقا، شدّ أرسطو «العلم الذي يبحث عنه» للمتعالي الأفلاطوني عندما قال: «العلم الألوهي هو أشرف علم يمتلكه الله لأن مواضع هذا العلم ألوهية»(11).
إذن موضوع الميتافيزيقا هو علم ما وراء الطبيعة وهو أشرف العلوم النظرية حيث يقول أرسطو أيضا «أما العلم الأول فهو للأشياء المفارقة والتي لا تتحرك أيضاً […] وينبغي أن يكون العلم الشريف للجنس الشريف […] وهذا العلم يؤثر على جميع العلوم التي بالرأي»(12). وقد عمّق الأفلاطونيون المحدثون هذه المماهاة بين الثيولوجيا والفلسفة الأولى والميتافيزيقا بل إنهم وجدوا في مصطلح الميتافيزيقا ما يدعم هذه الرابطة. فـالميتا(13) تتضمن معنى النظام والتصنيف التراتبي لتفيد الأولوية والانفصال ولكن، هل لنا أن نختزل ميتافيزيقا أرسطو في ما هو ثيولوجي؟
لقد أجمع الشراح المعاصرون على أن الثيولوجيا ليست العلم الذي يبحث عنه أرسطو(14). وفي تعليق لـ ريكور يقول: «أن نعرّف الفلسفة الأولى ـ وهي العلم بالجواهر الأولى المنفصلة والثابتة ـ بالثيولوجيا فنحن لم نقل شيئا بعد بشأن الطبيعة الدقيقة لموضوع هذا العلم، بل نحن نسيء الفهم عندما نماهيه بشكل مبكر مع الله»(15).
اعترض أوبنك أيضاً عن اختزال ميتافيزيقا أرسطو فيما هو ثيولوجي، والفهم الجيد لمضمون المدوّن حسب أوبنك هو ما نأى بالشراح القدامى عن عنونته بالفلسفة الأولى(16). أعمال يايجر النشوئية(17) عمّقت هذا التمييز، بل ذهبت الى حدّ البرهنة عن وجود ميتافيزيقا ـ أفلاطونية تعود لمرحلة شباب أرسطو، ووجود ميتافيزيقا ـ أرسطية تعود لمرحلة الشيخوخة، المربك حسب يايجر هو في إقرار أرسطو بضرورتهما لتحافظ ميتافيزيقا أرسطو على ذلك التشظّي بين الجوهر المتعالي والجوهر المحسوس. فنظرية الجواهر الأرسطية تطرقت للمتعالي من خلال معضلات أفلاطونية بالأساس، كما تطرقت نظرية الجواهر الى جواهر أشياء العالم ليؤسس أرسطو مفهوماً جديداً للجواهر باعتباره صورة متواشجة مع الميل المادي تأكيداً على التحايث في الكائن بين مادته وصورته . اعتراف أرسطو بالمتعالي الذي هو محض صورة واعترافه أيضاً بالمحايث الذي هو صورة متواشجة مع المادة أفضى إلى مأزق نظري لحظة البحث عن آصرة تصل المتعالي بالمحايث. وبقطع النظر عن الإخفاقات أو التناقضات فإن العزم الأرسطي على شدّ كينونة الكائن المتعالي للكينونة المحايثة هو عزم على تخطّي التفكير الإغريقي برمّته ليؤسس علماً يقول الكينونة في كليّتها.
2. فشل أرسطو في تأسيس الميتافيزيقا كعلم
لقد استهلَّ أرسطو مقالة الجيم بقوله «يوجد علم (أي الميتافيزيقا) يبحث في الكينونة بما هي كينونة ومحمولاتها الأساسية»(18).
يبدو أرسطو واثقاً من علمية علمه ومن تميّزه عن باقي العلوم التي تتفرّع عنه بالضرورة، إذن يقتضي هذا الوثوق برهنة دقيقة على أولوية وكليّة علمه. وبما أن تأسيسه للميتافيزيقا كان بالخطاب والدلالات، فينبغي أن تكون البَرْهَنة خطابية بالأساس. وقد حدّد أرسطو شروطاً ليكون خطابه الأنطولوجي جديرا بعلمه المستحدث، ومن شروط علمية الخطاب هو اقتضاء الاستقرار والتحديد: «حسب اعتقادنا العقل يعرف ويفكر من خلال التوقف والراحة»(19).
شرط الاستقرار والثبات كان قد أكّده أفلاطون، فالعلم لا يكون بالمتغيّر والمتحوّل، وبما أن الأشياء المحسوسة متغيّرة فإنّ المثل هي المواضيع الثابثة التي يمكن أن نكوّن حولها معرفة علمية. هذا الحلّ الأفلاطوني كان قد تخلّى عنه أرسطو عندما نقد نظرية المثل. فمبدأ الثبات أرسطياً ليس مفارقاً بل هو متجذّر في الأشياء المتغيّرة. اقتضاء الثبات إذن هو استقرار النفس على ما هو كلّي في التجربة. فإن كانت تجربة الأحاسيس تضعنا إزاء اشياء لامحدودة، طبيعتها التغيّر والتحوّل، فإن المعرفة العلمية تقوم على التحوّل من اللامحدود الى المحدود من خلال معرفة الكلّي أي التحوّل من الخاص والجزئي نحو الكلّي ذلك أنه «بقدر ما تكون البرهنة جزئية بقدر ما تسقط في اللانهائي في حين تكون البرهنة الكلية مشدودة للبسيط والمحدّد. لذلك تستحيل معرفة الأشياء الجزئية بما أنها لامحدودة، فوحده المحدود قابل للمعرفة»(20).
إدراك الكلّي أرسطياً يقتضي تخطّي أشكال التعميم ويتطلب ارتقاء من الجزئي نحو الأجناس والأنواع. ولكن، وضوح الخيارات فلسفياً لا يمنع بروز عوائق لحظة تفعيل هذه الخيارات. فبما ان العلم أرسطياً هو علم بالكلّي والمحدّد، فعليه إذن التيقظ إزاء خطرين: خطر الانشغال بفرادة الجزئي الذي يتكوّن منه الكلّي ضرورة، وخطر الانشغال بتجاوز الكلّي نحو مبادئ أشدّ تماماً وكليّة. هذان الخطران مجالهما اللانهائي. واللانهائي وكما لاحظ أوبنك يهدّد الكلّي من جهتيْ الإفراط والتفريط إذ «يمثّل الكلّي وككلّ حدّ نقطة توازن، فإذا وجد لانهائي من جهة التفريط في الكلّي، فإنه يوجد لانهائي من جهة الإفراط في التعميم»(21).
هذه المخاطر التي تتربص بالخطاب الأنطولوجي الكلي متولدة أساساً عن الانشغال بفرادة الجزئي الذي يتكوّن منه الكلّي، وما رصد أرسطو للمقولات إلا لقول هذه الفرادة التي تنبثق عن الفروقات حيث «الهوية التي تقال بنوع مبسوط تقال بأنواع كثيرة وقد قلنا أن أحدها يقال بنوع العرض وأحدها يقال كالحقيقة والذي ليس بهوية كالباطل وأنواع أخرى غير هذه أي بأنواع القاتيغورياس (catégories) مثل هذا الشيء ومنها الكمية ومنها أين ومتى وما كان مما يدل على مثل هذا النوع وأيضاً سوى جميع هذه التي بالقوة وبالفعل»(22).
تشديد ارسطو على تعداد تبديات الكائن في أكثر من موضع من مدوّناته يؤكد انهمامه بالجزئي والمتفرّد لغاية قول الكلّي. وما فاق انتظارات الأرسطية هو عجز المقولات عن الإحاطة بكل الفروقات. هذا ما  تفطّن له فورفريوس، فبعد أن ذكّر بتخلّي ارسطو عن اعتبار الكينونة جنساً مفارقاً يضيف «يجب أن نقبل تبعا لما قيل في المقولات أن الأجناس العشرة الأولى هي بمثابة المبادئ العشرة الأولى. وحتى إذا افترضنا إمكان تسميتها جميعها كائنات، فذلك من جهة اشتراك اللفظ على الأقل وفق قول أرسطو وليس من جهة اشتراك المعنى. وإذا كانت الكينونة هي فعلاً الجنس الوحيد والمشترك لكل الأشياء فإن كل الأشياء ستسمّى كائنات باشتراك المعنى لكن بما أنه ثمّة أجناس عشرة أولى فإن اشتراك التسمية هذا يظل لفظياً محضاً، ولا يتطابق مع تعريف موحّد قد تعبّر عنه هذه التسمية»(23).
عجز نظرية المقولات عن قول الكينونة يفضي الى إخفاق أرسطو في الالتزام بعلمية خطابه الأنطولوجي ولكن سيحاول أرسطو إنقاذ هذا العلم المستحدث عندما يقرّب كليّة علمه من دلالة الاشتراك. هذا ما شدّد عليه فورفريوس الذي استند الى مواقف أرسطو في مقالة الجيم والتي يقول فيها: «الكينونة هي ما تشترك فيها كل الأشياء»(24).
إذن ميتافيزيقا أرسطو علم واحد، واشتراك الأشياء في هذا العلم لا يفهم بمعنى اشتراك الاسم لأن الخطاب الأنطولوجي سيكون عندئذٍ ضبابياً وعاماً، بل هو اشتراك «ينسب إلى شيء واحد وطباع واحد مثل ما ينسب كل مبرئ إلى البرء فإن من الأشياء ما يقال مبرئ لحفظ الصحة ومنها ما يقال لفعله الصحة ومنها للدلالة على الصحة ومنها لقبوله الصحة»(25). إن حمل الكينونة على المشترك يقرّب الخطاب الأنطولوجي الأرسطي من الخطاب الديالكتيكي والسفسطائي اللذين «يرتديان المعطف ذاته الذي يرتديه الفيلسوف»(26). فهما مظهران خادعان للفيلسوف لأنهما اكتفيا بالخوض «في مجموعة من الأشياء حيث تكون الكينونة هي ما تشترك فيها كل الأشياء»(27).
تتبدى إذن هشاشة الحد الذي ضبطه أرسطو لتحقيق شرط علمية خطابه الأنطولوجي، فبين المشترك اللافلسفي والمشترك الفلسفي تقاطع وتداخل يعسر رفعه بتشبيه علم الكينونة بما هي كينونة بصناعة الطب، ورغم توجّس أرسطو من المشترك الذي يفضي إلى خطاب عام ولامحدود، إلا أن توجّسه الأشد هو إزاء علم واحد كلي بالكينونة، رغم أن العلم الذي يبحث عنه أرسطو وكما عرّفه: «فمعلوم أن لعلم واحد النظر في الهويات بكنهها (الكينونة بما هي كينونة) والعلم الذي هو علم بالحقيقة في جميع الأشياء هو علم الشيء المتقدم الذي به يتصل سائر الأشياء وبسببه تسمّى وتذكر فإن كان هذا المتقدم هو الجوهر فمعلوم أنه ينبغي أن تكون معرفة أوائل الجوهر وعللها للفيلسوف ولكلّ جنس جنس واحد وعلم واحد كقولنا إن علم الصوت واحد وله النظر في جميع الأصوات ولذلك نقول إن النظر في جميع صور الهوية على كنهها هو لعلم واحد بالجنس فاما الصور فهي صور الصور»(28).
هذا التأكيد على وجود علم واحد للكينونة بما هي كينونة لم يحظ باستمرار بدعم أرسطو، ففي صراعه ضد الأفلاطونيين سواء في الطوبيقا أو في كتاباته الأخلاقية، اعترض أرسطو على الأغاتون، مثال المثل وأَسَاسُ وحدة أنطولوجيا أفلاطون. فتمثل الأفلاطونيين الكينونة كوحدة أفضى إلى خطاب عام وضبابي حول الكينونة، فـ الأغاتون مشترك من جهة اشتراك الاسم، لا ريب إذن من استحالة علم واحد بالكينونة :«ومثلما هي الكينونة ليست واحدة في المقولات التي كنّا بصدد تعدادها، فإن الخير أيضاً ليس واحدا، ولا يوجد تبعاً لذلك علم واحد بالكينونة أو بالخير»(29).
رغم تشكيك الشراح في انتساب مدوّن الاخلاق إلى أوديم لـ أرسطو، إلا أننا نجد موقفاً قريباً منه في تبكيت السفسطائيين(30)، حيث أكد أرسطو استحالة علم واحد بكل الأشياء لأنه سيكون علماً لعلوم لامحدودة، والعلم باللامحدود مستحيل لأن معرفته غير ممكنة، فلا يمكن إذن معرفة الكلّي اللامحدود. هذه المواقف الاستهلاليّة التي تحسب على أنطولوجيا الشباب سيعود عليها أرسطو بأكثر عمق وخاصة في مدوّنه الميتافيزيقا ليؤسس علماً كليّاً وواحداً بالكينونة بما هي كينونة مثلما أوضحت ذلك مقالة الجيم، ولكن الكلّي الأرسطي مباين لمعاني الكلّي الأفلاطوني أو الإيلي أو حتى السفسطائي، فالكلّي الأرسطي لا يقوم على وحدة فارغة لأنه ينفي الانحباس والجاهزية. وهو إمكان مفتوح على الشامل والمتعدد والجزئي أمّا وحدته فهي وحدة تؤزم سلسلة العلل عندما تدعي قدرتها على ضبط حدّ لما لا حدّ له. يبدو أن تأصيل العلم الكلّي بالكينونة في معرفة أشرف العلل أفضى بالخطاب الأنطولوجي الارسطي إلى مآزق. ولعلّ أشدّها طعون أرسطو على السفسطائيين والافلاطونين، ففي التحليلات الثانية وردّا على مغالطات السفسطائيين، رصد أرسطو مغالطة منطقية تقوم على البرهنة على القضايا بالاعتماد على علل عامّة، فنظام البرهنة أرسطيا يكون من داخل العلم ولا يجوز الانتقال من جنس إلى آخر عند البَرْهَنَة. لكن إذا كانت «البرهنة لا تمتد من جنس إلى آخر»(31)، وكانت العلوم الجزئية تحتاج علماً كليّاً يكون أشرف العلوم للبَرْهَنَة على عللها ومبادئها فإن هذا اللإستدراك يتناقض مع القاعدته الأرسطية: «من الواضح أن العلل الخاصة كلّ الأشياء لا تقبل البَرْهَنَة لأن هذه العلل هي علل كلّ الاشياء والعلم الذي يدرس هذه العلل سيكون أرفع العلوم. إن هذا العلم سيكون أشرفها أو بالأحرى في أسمى المراتب»(32).
استنتاج أرسطو يفضى منطقيّاً إلى استحالة العلم الكلّي نتيجة استحالة بَرْهنة العلوم الجزئية على عللها، ويترتب عن ذلك عجز العلوم الجزئية عن البرهنة على جزئيتها في انتظار علم كلّي يقوم بالبرهنة على جزئيّة هذه العلوم. تداعيات دحوضات أرسطو على العلم الكلّي هي تداعيات خطيرة إذ «يبدو الأمر وكأن أرسطو في اللحظة ذاتها التي يظهر فيها كمؤسس لعلم الكينونة بما هي كينونة يضاعف الحجج للبرهنة على استحالة علمه»(33).
استحالة علم كلّي بالكينونة، هو ما تنبّه له أوبنك في المشروع التأسيسي الارسطي برمته، ففي مقالة الألف، وفي اعتراض أرسطي على الديالكتيك بما هو العلم الكلّي لدى الافلاطونيين، شدد أرسطو على العلاقة التراتبية التي يكون فيها لكلّ علم جزئي علما كليّا أشرف منه للبرهنة على علله، وعيب الدياليكتيكا ـ وهذا ما انتهى إليه أرسطو في مقالة الجيم ـ أنها حركة تؤول بهذه التراتبية إلى سلسلة لانهائية يستحيل معها العلم الكلّي فـ «يبدو وأن هؤلاء الفلاسفة يقولون اللامحدود معتقدين قولهم الكينونة، وهم في حقيقة الامر لا يقولون إلاّ اللاكينونة»(34).
إذن، يعترض أرسطو على انشغال أنطولوجيا أفلاطون «بالبحث في مبادئ كلّ الكائنات»(35)، لأنه انشغال يؤول بالمبحث الأنطولوجي إلى البحث في اللانهائي، ولكن أرسطو يدرك في نفس الآن أن اقتضاءات المباحث الفلسفية متجذرة في معرفة شاملة وخطاب شامل يتجاوز ضرورة المجالات العلمية الجزئيّة والضيّقة: «الفيلسوف وكما نتصوره هو من يعرف الكلّ ولكن في حدود إمكانه ودون أن يملك العلم الجزئي لجميع الأشياء»(36).
يضطر أرسطو للاعتراف بالشامل بعد دحضه، فالكلّي هو الشامل في تعدّد وتباين أجزائه وفي فرادة وتراشح عناصره ليكون عندئذ بالقوة للإفلات من اللانهائي، ويتحوّل إلى كلّي بالفعل عند توحيد الإنيّات. معرفة الشامل ممكنة إذن، فالكلي مبدأ المبادئ يعرّف كلّ العلوم على جزئيتها وتعددها لأن معرفة المبدأ تمكّن من معرفة ما يكون به المبدأ مبدأ. وعليه فإن العلم الكلّي الشامل ممكن أرسطيّاً من جهة العلم بالعلل الأولى: «إنّ المطلّع على الكلّي مطلع بوجه من الوجوه على كلّ الحالات المنفردة التي تنضوي في الكلّي»(37).
أصل المشكل إذن يكمن في معرفة حدود الممكن الإنساني، فعندما راهن أرسطو على إمكان معرفة الكلّي وهي معرفة تكون من جهة العلل والمبادئ، اصطدم بمحدوديّة الممكن الإنساني الذي أراده تبئيراً لضرب من الانتظام العامل في صلب الكثرة والتغاير لوحدة متشظية في كل مناحي الوجود، هي وحدة يعوزها الخطاب لتلوذ بخطاب سفسطائي غايته تمرير العرضي تحت طائلة الكلّي، هكذا نفهم الغموض الذي تخلّل العلاقة الثلاثية بين الكلّي، والشامل والمشترك وفي تعليق أوبنك على الصعوبات التي واجهت تأسيس علم كلّي بالكينونة يقول: «أن يدّعي علم قدرته على البرهنة على مبادئ كلّ الأجناس بواسطة مبادئ مشتركة لكل الأجناس هو أمر مستحيل ونضيف أيضاً، أنه علم مستحيل رغم كونه أسمى العلوم وأشدّها نفعاً وحضوراً من باقي العلوم»(38).
خاتمة
لقد نجحت قراءة يايجر الثورية لـ أرسطو في استهلال خط تأويلي مستجد يعيد محاورة المتون الأرسطية بعد التحرّر من القيود التي فرضها التقليد الفلسفي. هذا الخط التأويلي مازال يدافع عن ذاته كقراءة حيوية ممكنة تتموضع في اللامفكر فيه، في معضلات كان حضورها أشدّ من حضور الحلول. إذن، دفاعنا على تشظّي ميتافيزيقا أرسطو هو مساهمة متواضعة منا في هذا الخط التأويلي حيث شدّدنا على تشظّي ميتافيزيقا أرسطو وعلى استحالة تأسيسها كعلم. ولا يعود فشل أرسطو الى نقص أو نقيصة في جهد الفيلسوف بل يعود الى طبيعة الميتافيزيقا ذاتها، بما هي قلق يريد قول الكينونة في كليتها. الميتافيزيقا قلق. لعلّها الدلالة القصوى التي أدركتها الأرسطية(39)، واحتفظ بها تاريخ الفلسفة(40). القلق أرسطياً محكوم بالسلب، بالحركة نحو التخطّي والاختراق.
يبدو أنّ ادّعاء المحدثين هدم أو تجاوز الميتافيزيقا فيه سوء فهم لمنابتها الإغريقية. فالإعتراف الصامت للفلاسفة الإغريق بعجزهم عن تسوير الميتافيزيقا في قوالب جاهزة هو اعتراف بأن طبيعة الميتافيزيقا موسومة بالتشظّي وبدينامية مبدعة لا تكفّ عن خلق دلالات متعدّدة ومتشعّبة للميتافيزيقا. ألسنا اليوم ـ وفي غمرة مزاعم أعلنت موت الميتافيزيقا ـ ألسنا إزاء ولادة ميتافيزيقا حديثة هي ميتافيزيقا التقدّم العلمي والهيمنة التكنولوجية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق