ظهر
للكاتب المغربي محمد كروم إصدار جديد، هو عبارة عن رواية بعنوان"بادية
الرماد"، عن دار"كلمات" بالرباط،، في 97 صفحة من الحجم المتوسط.. وهو ثاني
إصدار له بعد مجموعته القصصية "شجرة القهر"(2008).. وبذلك يدخل الأستاذ
محمد كروم عالم الرواية بخطى ثابتة بعد تمرس بالقصة القصيرة على مدى سنوات
طويلة، كتابة ونقدا وتأطيرا، إذ تورط على يديه عدد من الشباب في حب القصة
القصيرة، باعتباره مشرفا على نادي الإبداع الأدبي والمسرحي بالثانوية التي
يعمل بها.. هذا التوريط الذي أثمر إصدارا مهما ضم عددا من إنتاجات أولئك
الشباب، بعنوان"أصوات الفراشات"عن مطبعة السعديين بتارودانت سنة2010..
"بادية الرماد" رواية بطلها الحقيقي هو المكان.. وبذلك ظل الكاتب وفيا لما
دأب عليه في معظم قصصه التي كانت تتخذ من البادية فضاءها الأثير.. يقدم لنا
الكاتب صورة للبادية التي تعيش الفقر والحرمان والتهميش.. وعندما تقترب
منها مشاريع حديثة( السينما أو الكولف) لا تستفيد منها، بل على العكس تصبح
هي نفسها هدفا لأطماع الوافدين الجدد الذين ينهبون أراضيها ويصادرونها من
أصحابها الأصليين.. وكرد فعل ناقم على ذلك يتم إحراق البادية بعد أن قررت
السلطات ترحيل أهلها قسرا..
بنى الكاتب روايته على شكل دائري.. إذ تنفتح على سامي المحقق الشاب الذي
يكلف بإنجاز تحقيق عما حدث في البادية.. وتنتهي بإتمام إجراءات البحث
وتقديم التقرير إلى العقيد علال.. وبين البداية والنهاية تتداخل الحكايات
وتتناسل لتعرفنا بشخصيات البادية: حكاية إبراهيم البندير وزهيرو، وحكاية
المعلمة ليلى والدركي، وحكاية محمود المُقعد، وحكاية موح وزوجاته الثلاث..
وهي الحكايات التي ستعرف أحداثها تطورا وامتدادا في مكررات لها.. وهذه
الطريقة الفنية التي تجعل هذه الحكايات تتوسط بداية التحقيق ونهايته، تعطي
الانطباع بأنها هي نفسها جزء من هذا التحقيق.. إلا أن هذا البناء الدائري
للرواية لا يعني أن لها نهاية مغلقة.. بل على العكس بقيت نهايتها مفتوحة،
لأن العقيد علال لم يرقه البحث الذي أنجزه سامي، سيما وأنه لم يتم الاهتداء
إلى مرتكب أو مرتكبي فعل إحراق البادية..
"ـ هل هكذا تكون التقارير البوليسية؟هل هذا ما تعلمته في تكوينك؟
ـ هذا…
ـ اصمت..
هذا تقرير أدبي أو قل سيناريو يمكن أن تقدمه لأي مخرج فاشل مثلك. هذا عمل لا يمكن أن يصدر عن رجل سلطة تنتظر منه بلاده الحماية والأمن.."
ويقرر العميد التكفل بمهمة التحقيق بنفسه، لكن وصوله إلى البادية جاء متأخرا، لأن الجهات العليا قررت ترحيل السكان من المنطقة..
تطرح هذه الرواية تيمة أساسية، هي التحولات التي تشهدها البادية في علاقتها بالمدينة.. تحولات لم يتناولها الكاتب بشكل مطروق ومكرور، بل نظر إليها من زاوية الاستغلال المتوحش الذي يجعل البادية ملكا مشاعا لفئة متحكمة في البلاد والعباد، تجيز لنفسها التكالب على ممتلكات الغير، تحت غطاء تنمية المناطق القروية وإنشاء المرافق السياحية الجالبة للعملة الصعبة.. وهي ظاهرة عرفت انتشارا كبيرا بفعل تفويت عدد من الأراضي لهؤلاء المعمرين الجدد الذين عاثوا فيها استنزافا واستغلالا.. وهو ما يعطي لهذه الرواية قيمة أدبية وتاريخية تذكرنا بمنجز رواية"الأرض" لعبد الرحمان الشرقاوي..
أما على مستوى اللغة فإن قارئ رواية"بادية الرماد" لن يخطئ الحضور الشامخ لأحلام مستغانمي، خاصة في ثلاثيتها"ذاكرة الجسد"و"فوضى الحواس"و"عابر سرير".. لغة تتلاعب بالكلمات وتخترق العواطف وتحرق أمام المحبين بخور العشق والولع.. لغة تساكنت بنعومتها مع لغة أخرى تميزت بخشونتها وواقعيتها، لأنها تمتح من بؤس البادية وشظفها.. وكأن الكاتب بذلك يضعنا أمام هذه المفارقة الصارخة بين المدينة المؤنثة والمخنثة والبادية الموسومة بالخشونة والفحولة.. لغتان تقفان على طرفي نقيض تماما.. فالأولى موغلة في الرومانسية، والأخرى ضاربة في عمق الواقع المأساوي بقساوته وعنفه.. نسوق على الحالة الأولى هذا النموذج:
" لما بدأت ذات هزة أتعلم حروف الهجاء في صفحة مقلتيك، أخبرتني أنني سأنهار إذا زينت رموشك بما لديك من ألوان. وقبل أن أتشمم عطرك همست في غنج:
ـ أمي أوصتني ألا أضع عطرا حين أقابلك.
فغرت فاهي شاردا فواصلت:
ـ لن تستطيع الصمود، صدقني أنك ستذوب أو تتلاشى، ستسيح كقطعة شكولاطة .
وضعت القطعة في فمك فذابت .وصدقت أنا ما قلت أنت."
ونسوق على الحالة الثانية هذا النموذج:
"ـ حتى أنت أسي محمود عالم وفقيه؟
ـ أحسن منك أ الحمار.
ضحك الجميع فأضاف:
ـ الله يلعن أبوكم أ الكلاب، نوضوا غبروا علي …
قالها بحدة وعنف وهو يقذفهم بإبريق الشاي الفارغ. أحدث دويه صوتا مزعجا فقفزوا هاربين حتى إذا ابتعدوا انفجروا ضاحكين ، ومن بين ضحكاتهم المتواصلة جاءه صوت حميدة:
ـ الله يمسيك بخير أ العرج.
ـ الله يلعن والديكم يا الزنادقة حتى باقي يقرب لي شي واحد ويشوف إلى ما نوريه منين كيبول الحوت."
كما أن قارئ هذه الرواية لا بد أن يستوقفه رأي الكاتب في دور المثقف داخل الحياة العامة.. وهو موقف إما أن يكون منحازا إلى جانب الشعب، فيكون فاعلا ومثقفا عضويا بمفهوم غرامشي، أو أن يتخندق في الصف المواجه له فيناصبه العداء ويخدم مصالح المعادين له.. تمثل شخصية المعلمة في هذه الرواية نموذج هذا المثقف العضوي الذي انخرط حتى النخاع في هموم مجتمعه/البادية.. فهي بعد تخرجها ألقى بها حظها العاثر في هذه البادية الفقيرة.. وعندما علمت أن أراضي سكانها ستصادر ليقام عليها مشروع سياحي نواته مسالك للغولف، تزعمت رفقة موح حملة التصدي لهذا التجاوز، رغم أنها مجرد وافدة لا تملك شبرا من تلك الأرض..
" ـ الأرض التي أدافع عنها هي أرضي أنا أيضا.
ـ لم افهم.
ـ هي جزء من هذا الوطن الذي أنتمي إليه. لكي أدافع عنه لا بد أن أدافع عن أي جزء أينما كان. والمسالة ليست مسالة امتلاك أرض أو عدم امتلاكها. المسألة تعني قيما ومبادئ، هل نحن مستعدون للدفاع عنها أم لا؟"
ويمثل موح الوجه الآخر لنفس العملة.. فقد أنهى دراسته الجامعية في تخصص علوم الحياة والأرض، ولما وجد أبواب الوظيفة موصدة عاد إلى باديته يستثمر فحولته في حرث الأرض وزوجاته الثلاث.. وكان طبيعيا أن يقوده وعيه إلى الاشتراك مع ليلى المعلمة في قيادة حركة التمرد على قرار المصادرة..
وحتى يظهر الكاتب نبل الموقف الذي تبنته المعلمة، يقدم لنا بالمقابل شخصية سامي الذي التحق بعد تخرجه في الجامعة بسلك الشرطة.. وعندما واجهته المعلمة التي كانت زميلة الدراسة باستهجان واستغراب شديدين حاول أن يبرر اختياره:
"قد تقولين مع نفسك الآن أني بدلت مواقفي وأفكاري وخنت مبادئي. لكن صدقيني، سدت في وجهي كل أبواب الرزق والعمل. والعمر كان يجري وكان علي أن أختار بين الموت البطيء وبين هذه الوظيفة، وأكثر من هذا قلت مع نفسي بأن هذا الجهاز الذي طالما ارتبط لدينا بالقمع والقهر يمكن أن نغيره من الداخل، يمكن أن نؤسس فيه على الأقل لمفهوم جديد للسلطة يقوم على احترام الناس."
تمثل رواية"بادية الرماد" إضافة نوعية مهمة للمشهد الروائي المغربي، إن على مستوى الشكل أو على مستوى المضمون.. ورغم البناء الدائري لها إلا أن نهايتها المفتوحة قد توحي للكاتب بمشروع جزء ثان، ما دام كل رماد يخفي تحته جمرا قابلا للاشتعال في كل حين..
"ـ هل هكذا تكون التقارير البوليسية؟هل هذا ما تعلمته في تكوينك؟
ـ هذا…
ـ اصمت..
هذا تقرير أدبي أو قل سيناريو يمكن أن تقدمه لأي مخرج فاشل مثلك. هذا عمل لا يمكن أن يصدر عن رجل سلطة تنتظر منه بلاده الحماية والأمن.."
ويقرر العميد التكفل بمهمة التحقيق بنفسه، لكن وصوله إلى البادية جاء متأخرا، لأن الجهات العليا قررت ترحيل السكان من المنطقة..
تطرح هذه الرواية تيمة أساسية، هي التحولات التي تشهدها البادية في علاقتها بالمدينة.. تحولات لم يتناولها الكاتب بشكل مطروق ومكرور، بل نظر إليها من زاوية الاستغلال المتوحش الذي يجعل البادية ملكا مشاعا لفئة متحكمة في البلاد والعباد، تجيز لنفسها التكالب على ممتلكات الغير، تحت غطاء تنمية المناطق القروية وإنشاء المرافق السياحية الجالبة للعملة الصعبة.. وهي ظاهرة عرفت انتشارا كبيرا بفعل تفويت عدد من الأراضي لهؤلاء المعمرين الجدد الذين عاثوا فيها استنزافا واستغلالا.. وهو ما يعطي لهذه الرواية قيمة أدبية وتاريخية تذكرنا بمنجز رواية"الأرض" لعبد الرحمان الشرقاوي..
أما على مستوى اللغة فإن قارئ رواية"بادية الرماد" لن يخطئ الحضور الشامخ لأحلام مستغانمي، خاصة في ثلاثيتها"ذاكرة الجسد"و"فوضى الحواس"و"عابر سرير".. لغة تتلاعب بالكلمات وتخترق العواطف وتحرق أمام المحبين بخور العشق والولع.. لغة تساكنت بنعومتها مع لغة أخرى تميزت بخشونتها وواقعيتها، لأنها تمتح من بؤس البادية وشظفها.. وكأن الكاتب بذلك يضعنا أمام هذه المفارقة الصارخة بين المدينة المؤنثة والمخنثة والبادية الموسومة بالخشونة والفحولة.. لغتان تقفان على طرفي نقيض تماما.. فالأولى موغلة في الرومانسية، والأخرى ضاربة في عمق الواقع المأساوي بقساوته وعنفه.. نسوق على الحالة الأولى هذا النموذج:
" لما بدأت ذات هزة أتعلم حروف الهجاء في صفحة مقلتيك، أخبرتني أنني سأنهار إذا زينت رموشك بما لديك من ألوان. وقبل أن أتشمم عطرك همست في غنج:
ـ أمي أوصتني ألا أضع عطرا حين أقابلك.
فغرت فاهي شاردا فواصلت:
ـ لن تستطيع الصمود، صدقني أنك ستذوب أو تتلاشى، ستسيح كقطعة شكولاطة .
وضعت القطعة في فمك فذابت .وصدقت أنا ما قلت أنت."
ونسوق على الحالة الثانية هذا النموذج:
"ـ حتى أنت أسي محمود عالم وفقيه؟
ـ أحسن منك أ الحمار.
ضحك الجميع فأضاف:
ـ الله يلعن أبوكم أ الكلاب، نوضوا غبروا علي …
قالها بحدة وعنف وهو يقذفهم بإبريق الشاي الفارغ. أحدث دويه صوتا مزعجا فقفزوا هاربين حتى إذا ابتعدوا انفجروا ضاحكين ، ومن بين ضحكاتهم المتواصلة جاءه صوت حميدة:
ـ الله يمسيك بخير أ العرج.
ـ الله يلعن والديكم يا الزنادقة حتى باقي يقرب لي شي واحد ويشوف إلى ما نوريه منين كيبول الحوت."
كما أن قارئ هذه الرواية لا بد أن يستوقفه رأي الكاتب في دور المثقف داخل الحياة العامة.. وهو موقف إما أن يكون منحازا إلى جانب الشعب، فيكون فاعلا ومثقفا عضويا بمفهوم غرامشي، أو أن يتخندق في الصف المواجه له فيناصبه العداء ويخدم مصالح المعادين له.. تمثل شخصية المعلمة في هذه الرواية نموذج هذا المثقف العضوي الذي انخرط حتى النخاع في هموم مجتمعه/البادية.. فهي بعد تخرجها ألقى بها حظها العاثر في هذه البادية الفقيرة.. وعندما علمت أن أراضي سكانها ستصادر ليقام عليها مشروع سياحي نواته مسالك للغولف، تزعمت رفقة موح حملة التصدي لهذا التجاوز، رغم أنها مجرد وافدة لا تملك شبرا من تلك الأرض..
" ـ الأرض التي أدافع عنها هي أرضي أنا أيضا.
ـ لم افهم.
ـ هي جزء من هذا الوطن الذي أنتمي إليه. لكي أدافع عنه لا بد أن أدافع عن أي جزء أينما كان. والمسالة ليست مسالة امتلاك أرض أو عدم امتلاكها. المسألة تعني قيما ومبادئ، هل نحن مستعدون للدفاع عنها أم لا؟"
ويمثل موح الوجه الآخر لنفس العملة.. فقد أنهى دراسته الجامعية في تخصص علوم الحياة والأرض، ولما وجد أبواب الوظيفة موصدة عاد إلى باديته يستثمر فحولته في حرث الأرض وزوجاته الثلاث.. وكان طبيعيا أن يقوده وعيه إلى الاشتراك مع ليلى المعلمة في قيادة حركة التمرد على قرار المصادرة..
وحتى يظهر الكاتب نبل الموقف الذي تبنته المعلمة، يقدم لنا بالمقابل شخصية سامي الذي التحق بعد تخرجه في الجامعة بسلك الشرطة.. وعندما واجهته المعلمة التي كانت زميلة الدراسة باستهجان واستغراب شديدين حاول أن يبرر اختياره:
"قد تقولين مع نفسك الآن أني بدلت مواقفي وأفكاري وخنت مبادئي. لكن صدقيني، سدت في وجهي كل أبواب الرزق والعمل. والعمر كان يجري وكان علي أن أختار بين الموت البطيء وبين هذه الوظيفة، وأكثر من هذا قلت مع نفسي بأن هذا الجهاز الذي طالما ارتبط لدينا بالقمع والقهر يمكن أن نغيره من الداخل، يمكن أن نؤسس فيه على الأقل لمفهوم جديد للسلطة يقوم على احترام الناس."
تمثل رواية"بادية الرماد" إضافة نوعية مهمة للمشهد الروائي المغربي، إن على مستوى الشكل أو على مستوى المضمون.. ورغم البناء الدائري لها إلا أن نهايتها المفتوحة قد توحي للكاتب بمشروع جزء ثان، ما دام كل رماد يخفي تحته جمرا قابلا للاشتعال في كل حين..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق