قطعة الأرض الفضاء الواقعة على ناصية الطريق التجاري في البلدة كانت في الماضي قصرًا رائعًا يزدان بأعمدة رومانية الطراز، ونوافذ كبيرة مكللة، وفراندات بديعة تحملها رؤوس متوجة تُشبه ملامح وجوهها الإسكندر الأكبر. كان القصر يبدو وسط حديقته الأنيقة كأنه انتقل توًّا من أحد أحياء روما أو أثينا إلى بلدتنا بشمال الدلتا. بعد الثورة خلا القصر من ساكنيه البكوات، ووضعت الحكومة يدها عليه ليصبح مقرًّا للشهر العقاري ومأمورية الضرائب.
في البداية كان الناس يلجونه برهبة خفية يطالعون تفاصيل فخامته وهم في طريقهم بين غرفه التي صارت مكاتب موظفين، وجدرانه التي اتسعت لعشرات من رفوف تحمل أكداسًا من الأوراق والملفات.
القصر العريق حافظ على جماله من الخارج، أما داخله فقد تحول إلى خلية نحل تعج بمشترين وبائعين ومحاسبين ومحامين وتجار وسماسرة من البندر والريف. اصطلح الناس على تسمية المكان (الضرايب).. رايح الضرايب.. جاي من الضرايب.. العنوان الفلاني بعد الضرايب شمال.. وشيئًا فشيئًا بدأ القصر يفقد مهابته في أعين الناس وإن حافظ على أناقته العريقة.
مرت سنوات حتى صدرت أوامر حكومية بنقل الشهر العقاري والضرائب إلى مبنى حكومي تم الانتهاء من بنائه. أغلقت الأبواب إلا بوابة الحديقة الحديدية التي طوقها جنزير صدئ بقفل كبير. خصص للمبنى خفير نظامي استقر في غرفة إلى يسار البوابة، يبدو أنها كانت فيما مضى غرفة الحارس أو الجنايني. انعدمت الإضاءة ليلا في القصر كله إلا بصيصًا خافتًا ينسرب من غرفة الخفير الذي يجهز قوالح أرجيلته، ويغلي شايه الثقيل استعدادًا لسهرة يفترض أن تكون حتى الصباح. مع إغلاق البوابة الكبيرة والظلام الذي يلف القصر العالي ليلا، وفخامته التي يعتقها الزمن، عاد الناس يتطلعون إلى القصر من بعيد كأنهم يرنون إلى شيء انبثق توًّا من ماضٍ بعيد، وشيئًا فشيئًا صار الناس يسمونه باسمه القديم.. قصر الباشا.. قدام قصر الباشا.. ورا قصر الباشا.. بعد قصر الباشا.
نشأت حول القصر أساطير كثيرة. بعضهم قال إن فيه غُرفًا بعدد أيام السنة. بعضهم أضاف أن في حماماته صورًا عارية لنساء إفرنجيات، وبعضهم أكد أن القصر أصبح مسكونًا بأسرة من أسر الجن الأزرق لا يسمحون لأحد بدخوله.
مرت سنوات طويلة حتى استيقظ الناس ذات يوم فلم يجدوا القصر، وجدوا مكانه ركامًا هائلا من أحجار وغبار وجرافات تعيث هنا وهناك. تتشابك أسئلة الجمع، ومن قلب الأسئلة تخرج دومًا إجابات. أولاد الباشا يا جماعة كانوا رافعين قضية على الحكومة لاسترداد الأرض. القضية طولت في المحاكم سنين وسنين. أولاد الباشا يا جماعة في فرنسا كلهم مبسوطين ومش محتاجين. بالهم كان طويل لحد ما في الآخر كسبوا القضية، واستردوا القصر. كانت إجابة صحيحة بالفعل لكن لها بقية. لقد باع أولاد الباشا القصر ببضعة ملايين للحاج شربيني صاحب أكبر مزارع دواجن في الناحية، وعضو مجلس الشعب. الحاج شربيني عضو المجلس عن الدائرة منذ أكثر من عشر سنوات، يفوز الحاج في الانتخابات بشعبيته الكاسحة المبنية على ثلاثة ملايين جنيه، وقيل خمسة ملايين ينفقها في حملته الانتخابية.
أهل الرأي حذروا الحاج شربيني من المساس بالقصر لأنه يُعتبر من الآثار، وسيدخل في مشاكل كبيرة مع مصلحة الآثار، لكن علاقات الرجل الواسعة وبعض أهل الخبرة نصحوه بسرعة هدم القصر، ويستحسن لو تم ذلك في ليلة واحدة. بالفعل نفذ الحاج شربيني بجيش من البلدوزرات والجرافات، ومع إشراقة الصباح كان قصر الباشا أثرًا بعد عين. وفي فترة وجيزة كان الحاج يُلقي بأطنان الأسمنت والخرسانة ليضع أساس برجه السكني العملاق، تصوره مولا تجاريًّا ضخمًا يعلوه خمسة عشر طابقًا.
نهضت جدران المول، وبزغت أعمدة الطابق الأول فانتشى الحاج شربيني حين رأى مبناه ينهض على هذه المساحة الشاسعة من البقعة الاستراتيجية في البلدة، والأهم من هذا أنها أرض الباشا. شكر الحاج نعمة ربه الفائقة، وقد أحس يقينًا أنه أصبح بالفعل الباشا الحقيقي. ذبح الحاج أمام المبنى عشر ذبائح للفقراء والمساكين، ولم ينتظر حتى يعلو المبنى فعلق لافتة عملاقة بعرض الواجهة كلها مكتوبًا عليها بخط الثلث “إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين”.
وتحتها بخط النسخ عبارة:
(ملك الحاج شربيني)
الأستاذ شوقي المحامي المنافس الرئيس للحاج في الانتخابات، وابن تاجر إطارات السيارات الكبير اشتعل قلبه نارًا حين رأى اسم الشربيني على قصر الباشا. ألمّ بما حدث من مخالفات، فسارع بالشكاوى إلى كل الجهات المعنية، وسرعان ما نجح في استصدار حكم بوقف البناء فورًا.
أيامها لم يقلق الحاج شربيني كثيرًا بعد ما لجأ إلى محامٍ شهير في القاهرة يظهر في التلفزيون كثيرًا. طمأنه، وقال له إنها مسألة وقت بسيط، وإجراءات قانونية -هو خبير بها- ستعيد العمل إلى البناء قريبًا. كان ذلك منذ أكثر من أربع سنوات أنفق الحاج خلالها كثيرًا في الطرق القانونية وغيرها. بدأ الحاج يتعرض لمشكلات كثيرة قد تهدد وضعه السياسي فلم يعد بحرصه السابق على إقامة برجه المأمول.
شيئًا فشيئًا بدأ بائعو الخضروات والفاكهة والباعة السريحة الذين يعانون من عدم وجود مستقر لهم يأوون إلى جدران المبنى، يستقل كل منهم بمتر أو مترين يعرض فيها بضاعته بعيدًا عن مطاردة المرافق أو رذالة أصحاب المحلات.
دب العمران في المكان فآوى إليه أطفال شوارع، واصطنعوا لهم غرفًا من قماش، وفرشًا من قش. قسم بعضهم خلفية المبنى إلى أماكن تصلح لوقوف السيارات فاستقر بعض صبيان السمكرة والدوكو والميكانيكا على جانبي الموقف، متخذين مما كان سيصبح مولا كبيرًا بذور ورش صغيرة. أطفال الشوارع بدأوا يعملون في تنظيف السيارات. بعضهم هوى الصنعة فصار صبيًّا في الورش الناشئة. في المساحة الداخلية الفسيحة قامت “نصبتان” متقابلتان للشاي والقهوة تناثرت أمامهما بضعة مقاعد.
تحول المكان إلى بؤرة حياة متوهجة في البلدة. أطلق الناس عليه اسمًا جديدًا، فلا هو قصر الباشا، ولا هو الضرايب. إنه (السويقة). رايح السويقة.. جاى من السويقة.. أقابلك في السويقة.
تختلط النداءات على الفجل الورور، والطماطم المجنونة، والعنب البناتي، ومشروبات العناب، والخروب، والسوبيا مع الدقات الرتيبة لسمكري يستعدل رفرف سيارة، وصوت موتور مفوت يختبره الميكانيكي الناشئ. يضج المكان بنشاط البيع والشراء والصنعة والاستصلاح.. زبائن، صنايعية، باعة، خلق من كل شكل ولون تعلو رؤوسهم جميعًا ذات اللافتة التي علقها الحاج شربيني من قبل “إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين”.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق