” الأنا ليس الكائن الذي يبقى في وجوده هو عينه بل الكائن الذي
يرتكز وجوده على التماهي وعلى البحث عن هويته من خلال كل ما يحدث له…”[1]
السؤال الذي استفز الفيلسوف امنيال ليفناس ( 1906/1995) كثيرا وأثار فيه عدة استفهامات هو تخوفه من وجوده في عالم لا يحمل أية جدة ممكنة وانخراطه في حياة خالية من الأمل ومعدة بشكل مسبق دون ضمانات للاستمرار في البقاء والمعطى الذي عزز تخوفه هذا أن لا أحد من المجموع البشري يملك أي نوع من أنواع القدرة على التغيير والاختيار ولذلك لم يكن مشروعه منصبا فقط حول تعويض روحانية المعرفة بروحانية الحب المهددة من قبل اللاعقلانية الطاغية نتيجة هيمنة التقنية وانتصار التصور الوضعي للعلم بل تمحور حول السبل الكفيلة بإيقاظ البشر من سباتهم الدغمائي الذي جعلهم يعتقدون أنهم قادرون في يوم ما على التحكم في الأزمات التي يتعرضون إليها واقتراح الحلول الجذرية لها. القرار الذي اتخذه بالتوجه نحو الفلسفة لم يكن وليد الصدفة بل نتيجة إيمانه الراسخ بأن “الفلسفة هي نفس الثقافة وروح الحضارة التي شكلتنا وجعلت منا نحن ما نحن” بالإضافة إلى تتلمذه ومقابلته لأهم الفلاسفة في عصره وبالخصوص هيدجر وياسبرس ومرسال وبرنشفيك.
بيد أن الشحنة الكبيرة التي دفعته نحو التفكير في عالم الحياة أتته من التراث اليهودي المستنير وخاصة تأويلات حاييم فولوزنار المتحررة للتوراة واعتباره هذا الكتاب “الكلمات الأولى التي ينبغي أن يصرح بها من أجل أن يكون للحياة الإنسانية معنى”،كما تأثر بكل الكتاب والسياسيين الذين واجهوا الحكم الشمولي سواء الشيوعي أو النازي وحاولوا إيجاد علاقة جديدة مع المستقبل تتميز بسخاء إبداعي وقد انخرط هو نفسه في مشروع مناهضة النازية بكتابته مقال بلور فيه “بعض الأفكار حول الفلسفة الهتلرية سنة 1934 أين رفض مفهوم الحشد وقاوم سياسة تكبيل الجسد التي تمارسها الدعاية النازية واعتدائها على قيم الكرامة والحرية الشخصية وقد بدأ يتحسس هنا المشكل الفلسفي المركزي الذي سيرتبط اسمه به ويرفعه إلى صف الفلاسفة الكبار وهو مشكل علاقة الانية بالغيرية فكيف يتسنى لنا منذ البدء أن نعلن أن ليفناس هو فيلسوف الغيرية؟ ماهي علاقة الانية بالغيرية؟ ومن يحدد الآخر؟ هل المطابق هو الذي يحدد الآخر أم الآخر هو الذي يجعل من المطابق مطابق لذاته؟ كيف يكون المرء ذاته ويصبح أنا؟ هل عن طريق الوعي أم عن طريق الإرادة؟ هل عن طريق القول أم عن طريق الفعل؟ كيف تطرح هذه الذات ذاتها؟ هل بالانفصال عن العالم والانطواء على ذاتها أم بالانخراط في العالم والانفتاح على الآخر؟ ماهو الآخر؟ ولماذا أصبح الآن مشكلا فلسفيا بامتياز ؟ هل هو عدو للذات أم هو عين الذات كآخر؟ من أين ينبع إحساس الذات بالضياع في العالم وباللاحماية من الآخر؟ وماذا تفعل للتغلب على هذا الخطر المتأتي من الآخر؟ كيف يمكن للذات أن تفتك مكانا ما تحت الشمس وتنجز كيانها دون أن تعرض حياة الآخر إلى الخطر؟ ماهو الطريق الجديد الذي انخرط فيه ليفناس وساعده على حل معضلة الانية والغيرية؟ ألا ينبغي أن تتوقف على اعتبار الآخر مجرد شيء ونبدأ في معاملته كشخص ينتمي مثلنا إلى دائرة النوع البشري؟ هل يقدر الحوار على إزالة سوء التفاهم بين الأنا والآخر أم يجب أن نتعدى ذلك نحو المقابلة rencontre laوالتلاقي وجه لوجه؟ ماذا تضيف المقابلة إلى الحوار؟ كيف تبدأ الذات في التجلي l’épiphanie للأخر دون تزييف في لحظة المقابلة والتلاقي؟وألا يفعل الآخر نفس الأمر من خلال الوجه الذي يتيح له فرصة التجلي للذات والكف عن الغربة والانطواء؟ وهل يجوز أن نعتبر الوجه visage الجسر الاتيقي المنشود الذي يربط بين العين والغير؟ لكن عن أي وجه آخر نتحدث؟ وما المقصود بأخر الوجود بالنسبة للذات؟
ما نراهن عليه هو تخطي منطق التنافي والتخاصم وتفكيك قلاع الهويات المتكتمة على ذاتها ومد جسور التواصل والتصافي بين الذوات والأمم من أجل تحقيق مجموعة من التفاهمات وانجاز جملة من التشاركات قصد بناء الهوية الإنسية الكونية المؤهلة لتحمل مسؤولية المحافظة على الحياة الأرضية وتحقيق وصية الاستخلاف والائتمان والتعمير.
1. التفكير في الأنا من جهة علاقته باللانهائي:
نشر ليفناس سنة 1934 مقالا بعنوان l’évasion عبر فيه عن رغبته في الخروج من الوجود وذلك لتبينه أن الذات منسحقة من طرف الوجود وبقائها في خدمة النسق ولاكتشافه فظاعة الممارسات اللاانسانية التي يحملها التاريخ إلى الناس وسبب هذه الفظاعة هو ما يحمله الإنسان من كره وحقد على الإنسان الآخر وتفشي النزعات العنصرية التي تعتمد على مبادئ الإقصاء والتمركز على الذات واستئصال المخالفين وتصفيتهم جسديا ومعنويا ولذلك حاول ليفناس أن يعطي الإنسانية اللمسة التي تنقصها لكي تصبح إنسانية بحق بحيث تحدث عن الصداقة ونادي بضرورة احترام الآخر والاعتراف بحقوقه والسماح له بالمشاركة ولذلك نظر لإنسانية الإنسان الآخر l’humanisme de l’autre homme . إن خطأ الإنسانية الغربية المهيمنة الأول هي أنها جعلت العين هو دائما الذي يحدد الغير ولم تنظر إلى الغير على أنه هو الذي يحدد العين، الخطأ الثاني هي أنها اعتبرت الوجود من أجل الله واعتبرت الله من أجل الوجود بينما الله هو منفصلا عن الرغبة بشكل لامتناهي انه آخر الوجود أو الوجود الآخر المنفصل. لذلك يناهض هذا الفيلسوف غير الفلسفي الميتافيزيقا الغربية في معناها الميتافيزيقي التي سعت جاهدة إلى دمج كل شيء ضمن دائرة المعرفة الموضوعية السببية وهمشت الذات ووقعت في الخلط بين الطبيعة والفكر والتاريخ والبنية ويهتم بما أبقته هذه الميتافيزيقا خارجها من مشاكل وقضايا ويتناول المواضيع التي أسقطتها من حسابها وهمشتها مثل الغيرية والجسد والوجه.
إن كل واقعة مهما كانت غرابتها وتفاهتها تنتمي إلى مجال الوجود هذا ما أكده ليفناس وكل ما يعزب عن الوجود هو عدم ولا يتعلق الأمر هنا بفعل وجد الذي يعني كان بل باسم يشير إلى الكائنات والأشياء وماهيتها وما يجعلها هي هي. إن الفلسفة هي علم الوجود أو أنطولوجيا لا يعزب عنها شيء أي هي نظرية للكلية Totalité أما العلم فهو أثر للعقل و مرتبط بالتقنية ويظهر كتفعيل لمعرفة مسيطرة على الطبيعة. من هذا المنطلق يتحدث ليفناس عن شمولية Totalitarisme العقل ويقصد أن المعرفة العقلية هي التي تتحكم في سلوك الذات البشرية وفي حرصنا على أن نفتك مكانا تحت الشمس، انه بالمشاركة في هذا الحدوث للوجود تكون الذات هويتها وتصبح أنا وهذا الجهد من أجل إثبات الذات يمكن أن ينتج عنه عنف وحرب وذلك لتضارب المصالح وتدافع الرغبات واصطدامها ببعض. ينقد ليفناس الأنطولوجيا التي ترد كل الموجودات إلى الوجود ويقترح ميتافيزيقا جديدة مهمتها التطلع إلى اللانهائي L’infini الذي لا يختزل في غيره ولا يمكن أن تحتويه أي كلية لاهوتية أو تاريخية.
2- التفكير في الأنا من خلال جسد الآخر:
يبحث ليفناس في مقاله المراوغة عن طريق جديد يسمح للذات الإنسانية من الخروج من غل الوجود الزائف واختراق السلسلة الأكثر صلابة وهو هنا لا يقول شيئا جديدا بخصوص هذا الطريق بل يكتفي بأخذ مسافة نقدية مع أحلام الشاعر ورغبة الرومانسي التي تصطدم مع واقع المجتمع وتحفظات تقاليده. إن هذا الطريق الجديد الذي يسلكه ليفناس لا يحملنا خارج العالم بل يقحمنا في حضن الوجود أي وجودنا الآخر أو آخر وجودنا Autrement qu’être.
تساعدنا الفنومنولوجيا على اكتشاف الكيفية التي نمر بها في حياة كل يوم إلى الوجود الذي نحن وهي انجاز حالة من الانفصال Séparation كحدث حقيقي للميلاد وحتى يحافظ هذا الميلاد على مبادأته لابد أن تدركه الذات في اللحظة التي أنتجها فيها أو عاشته فيه ويسمى ليفناس هذه اللحظة بحدث الحرية وهي لحظة تفك فيها الذات ارتباطها بالوجود الزائف وتصبح اثنين واحدة في مواجهة أخرى أي أنا مناظر للآخر. أما الإنسان العامي فهو خاضع لسلسلة الوجود المكبلة مستسلم لمشاعر الضياع والكسل والكسل Paresse هو رفض البدء والعزوف عن الاستئناف، انه تردد أمام قدوم الوجود والكف عن استقدامه أو تعب من المستقبل ورضا بالحاضر وهذا التعب والكسل والملل هي من الأمور التي تساعد على إنشاء المستقبل بالنسبة للذات وتبين لها أنها ليست مجرد صفحة تعكس حقيقة الوجود وأن وجودها بيدها وليس مجرد قدر أما البدء فليس فرصة لولادة ثانية بل هو حدث ولادة أصلية ولحظة حرة وممتعة تدشن فترة جديدة تنطلق فيها الذات نحو الاعتناء بذاتها وذلك باشتغالها بحراسة ذاتها بذاتها من أجل تحصينها من الخلاء الذي يملئ الأمكنة والضجيج الذي يدوى في الساحات قصد حمايتها من الإحساس باللاحماية Insécurité.
يسمي ليفناس هذه التجربة المأساوية التي يحس فيها الإنسان أنه تحت رحمة ضربات القدر بتجربة الوجود غير الشخصي أو الوجود العام حيث لا يوجد أي صوت يمكن أن يسمع ولا أية صورة يمكن أن ترى وكأن الذات موجودة في الليل ولا تدري ماذا سيحصل لها فهي لا ترى شيئا ولا تستطيع أن تحرس نفسها بل هذا هو الذي يحرس انه الوجود المسلوب من روح الأشخاص.
من هذا المنطلق يصعب على الأنا أن تلمس بأصابعها العمق الغامض للوجود الذي يسمح بظهور الأشياء في الليل طالما أن الوعي مخترق من قبل هذا الضجيج المتصاعد من الساحات العامة ومرتعب من صمت الفضاءات اللامتناهية أين يصعب عليه أن يميز بين الأشياء والأشخاص.
الانفصال لا يعني الانطواء على الذات بل تأكيد لاستحالة العودة إلى القوقعة والشروع في الاحتكاك بالهذا وتفكيك الشعور بالخطر من لقاء الآخر. لحظة الولادة هي منعطف بالنسبة للذات وهي معانقة الوعي للوضوح وانقشاع الظلمة وهي تحصل في الزمن الذي ينبعث فيه الضوء وتشعل الشمعة وتشرق الشمس وتتلاشى وضعية بائسة ويدرك أثناءه المرء آخر الدرب…إننا نرى ديمومة الأشياء ومهجة الألفاظ ورائحة العطر ولحن الآلة ونصل إلى الحل النهائي أين يأخذ العالم صورة وتختفي مجهولية الوجود ويقترن الانفصال في الحياة بالشعور بالغبطة كسعادة و”الغبطة وسيلة حياة مثلما كانت الريشة وسيلة كتابة” وهي لا تدرك بالعودة إلى الذات وعندما يفهم المرء ما يحصل له بالإحساس بالهوية عن طريق انخراط الجسد في عالم الحياة لأن “الجسد ليس ذلك الدخيل الأبدي” الذي يحطم وثبة الفكر الحرة ويعيده إلى شروطه الأرضية كالقبر الذي ينتظره بل هو الأقرب إلي الذات من باقي أشياء العالم والأكثر ألفة والذي يتحكم في مزاجنا ونشاطنا وحياتنا النفسية،أليس الجسد هو أساس الإحساس بالهوية “ألا نثبت ذواتنا في هذه الحرارة الفريدة التي تنبثق من جسدنا قبل تفتح الأنا الذي سيدعى التميز عن الجسد؟”[2]
الحياة هي الدلالة الخاصة بالغبطة التي تنتمي إلى مجال الإحساس والجسد وهي ليست انفصالا بالمقارنة مع الكلية بل مصدر الهام ينادي بالتعالي في الداخلية، يقول ليفناس في هذا السياق:”كل غبطة بهذا المعنى هي تغذية،أما الجوع فهو الحاجة والحرمان بامتياز.إن الحياة في… بهذا المعنى ليست مجرد الوعي بما يشغل الحياة.هذه المضامين تعاش:إنها تغذي الحياة.إن المرء يحيا حياته”[3]
يحدث ليفناس منعطفا فكريا يتجاوز به منعطف الحداثة الذي أحدثه ديكارت لأنه عندما صرح:أنا شيء يفكر فانه ربط الوجود بالتفكير ولكنه فصل الذات عن الواقع المعاش وعن الحياة اليومية لكن ما يثير الإعجاب في الكوجيتو الديكارتي هو لفظ شيء وآيته في ذلك أن الشيء يقطن مكانا ما وله مأوى والوعي بوصفه شيء مفكر لا يخرج عن هذا الوضع فهو شيء متحيز،إن كل من يفكر يرتكز في تجربة تفكيره دائما على قاعدة يجمع نفسه حولها ويصبح سيدا على ما يفكر فيه وهذه القاعدة هي الجسد بوصفه حدث الوعي وحدثان الوجود. على هذا النحو يجري الجسد انقلابا في علاقة الإنسان بالواقع وفي عالم ذات البين Intersubjectivité طالما أن الوعي يكون عالم الذات عن طريق الجسد دون أن يقوم بتجريده أو يغادره يقول ليفناس في هذا الصدد:” يبدو الجسد دائما وأبدا من أجل أن يكون أكثر من كومة من المادة،إذ يمكن له أن يكون أكثر كثيرا واقل قليلا من مجموعة أجزائه…الوجه والعينين بوصفها مرايا الروح هي أعضاء التعبير بامتياز. لكن روحانية الجسد لا تقطن قدرته على التعبير عن الداخل.الجسد لا يعبر عن الحدث انه هو نفسه هذا الحدث”[4].
الذات ليست خارج العالم بل متجذرة فيه عن طريق الجسد،إنها في البيت حيث مربض الجسد ومأواه والمأوى ليست القوقعة والعزلة ونهاية الحياة الإنسانية وانغلاقها بل شرطها الضروري وبدايتها،ألم يأتي الأنا إلى العالم داخل البيت وبدأ انطلاقته نحو الوجود من عتبته؟
إن المأوى من حيث هو شقة ينتمي إلى عالم الأشياء ولكنه من حيث هو بيت الإنسان يجعل العالم الحميمي الذاتي ممكنا،انه ليس مكان الوحدة والعزلة بل مجال لممارسة حق الضيافة والانتظار والاستقبال لجميع زائريه دون تحفظات،انه وجود الجسد وجسد الوجود ومكان لقاء الأنثى وتحول الأنثى إلى وجود بالنسبة للذكر،بعبارة أخرى لم يعد الوجود الأنثوي داخل البيت آخر الوجود أو الوجود الآخر بل يصبح وجود الأنثى هو الشرط الضروري لذكورة الوجود إقبالا وانفتاحا.
3- التفكير في الأنا من خلال الوجه :
“الوجه هو الهوية عينها للكائن”[5]
تدور فلسفة ليفناس حول مقولة الآخر كفكرة مركزية تعطي للوجود معنى والآخر يتجلى من خلال مقولة الوجه الذي يمثل مرآة عاكسة لشخصية الأنا وكينونته ينبغي على الآخر أن يحترمها ويعترف بمنزلتها من تأسيس علاقة ذات البين ترتكز على فكرة اللاتناهي من جهة مناظرة الأنا للآخر وتبادلهما المسؤولية من أجل المحافظة على الحياة على الأرض. وتلعب اللغة دورا أساسيا في العلاقة بين الأنا والآخر فهي تجعل العلاقة بين المتحاورين ممكنة وتسمح بتبادل المعارف والمعلومات بينهم وتحقق التواصل بين جميع الفرقاء لأنه حتى في حالة اندلاع النزاع والصراع بين مجموعة من الأطراف فان اللغة تظل في قلب الأحداث وتبقى الوسيلة الوحيدة لإجراء مفاوضات من أجل الوصول إلى تسويات ظرفية واتفاقات ترضي الجميع وتبلور السلم الاجتماعية، إذ يقول ليفناس في هذا الشأن:” يمكن أن نسمي حوارا هذه المقابلة التي يدخل عبرها المتحاورين إلى فكر الآخرين حيث يعطون للحوار قيمة.ويمكن أن نسمي اجتماعية وحدة أشكال الوعي المتعددة الداخلة في عين الفكر”[6]. هذا الحوار كفيل بإيقاف النزاع وتحييد العنف وإرجاع الناس إلى طبيعتهم العاقلة وتمكينهم من السيطرة على أهوائهم وتثقيف طبيعتهم العدوانية وتكوين الحقيقة عن طريق الإجماع Unanimité ويربط ليفناس هذا الحوار بالمحايثة حيث تظل الذات ملتصقة بذاتها ومنهمكة في الاعتناء بوجودها ويربط بين إثبات الذات والانفتاح على الآخر واحترامه أين يحدد المطابق le même الآخر L’autre ويحدد الآخر بدوره المطابق لكن ليفناس ينبهنا إلى أن وراء كل اقتناع convaincre توجد غلبةvaincre وهيمنة وقهر وبالتالي يبرز خطر العنف مجددا في علاقات ذات البين وبالتالي ثمة تخوف من اعتبار الآخر كمجرد شيء وموضوع للرغبة وأداة للاستعمال ومن أن ينظر إليه الأنا على أنه ضدا وعدوا ومزاحما يجب إزاحته والقضاء عليه.يتجاوز فلاسفة الحوار هذه المعضلة بتأكيدهم أن لحن الأصوات وشذى المعاني المتبادلة وليس دلالة الكلمات هي التي تصنع هذه العلاقة المتكافئة وأن شكل العلاقة التي تنجزها اللغة هي علاقة أنا – أنت وليس شكل العلاقة أنا-هو إذ عندما يتكلم كائنان بشريان ويستعمل ملاهما لغة التخاطب فان الأنا يتوجه إلى الآخر ويقول له أنت قبل أن يبدأ في الحديث عن نفسه وفي هذا التوجه نحو الآخر بالحديث خروج عن النرجسية الفارغة واعتراف بالآخر واحترام له كطرف حقيقي في الحديث،يقول ليفناس حول هذا الموضوع:” أن نتحدث مع الآخر هو في نفس الوقت أن نعرف الآخر ونجعله يعرفنا،فالآخر هنا ليس فقط معروفا بل وأيضا مرحبا به، ليس فقط مسمى بل وأيضا مدعو من طرفنا.أنا لا أفكر في كل ماهو بالنسبة إلي فقط بل وأيضا وفي الآن نفسه أفكر في كل ماهو بالنسبة إليه”.[7]
العلاقة الشرعية بين الأنا والآخر هي إذن مقابلة Rencontre وتقتضي هذه المقابلة المحافظة على المسافة والبقاء في حالة الانفصال بين الطرفين لأنه بمجرد أن أتعلق بما يقوله عني أو يتعلق هو بما أقوله عنه فان الاتصال يتحول إلى ذوبان وانمحاء والمقابلة تتحول إلى علاقة تطابق بين الأنا والآخر وبالتالي لم يعد هناك لا أنا ولا آخر بل مجرد شيء واحد هو المثيل Même أو المطابق Identique . إن المقابلة تجرى عندما يتم احترام المسافة التي تفصل بين الطرفين وتسمح لهما بالتواجد معا والعيش سويا والمسافة الضرورية ليست مسافة مكانية بل مسافة زمنية وثقافية وتاريخية وهي غير قابلة للتذليل والاجتياز لأنها هي التي تسمح للغيرية للوجود عند الطرفين. نعثر على خاصيات الحوار المتعالي في علاقة الترابط بين الأنا والأنت لكونها علاقة اتيقية متعادلة وهذه هي صورة الحوار المتعالي أو التعالي بالحوار من أجل إتاحة الفرصة للأنا لكي يقابل الآخر وللآخر من أجل مقابلة الأنا دون أحكام مسقطة ودون برمجة مسبقة. بيد أنه ثمة تخوف من أن علاقة الترابط يمكن أن تمحي الغيرية وتفسخ الخاصية التقابلية للطرفين لأن”المقابلة الحقيقية تحدث بين كائنات لا تعرف بعضها البعض”،لإزالة هذا التخوف يقترح ليفناس أن تكون العلاقة بين ذات البين علاقة تناظر وتقابل أين يكون كل واحد في خدمة الآخر وليس علاقة تنازع أو تطابق لأن التنازع بل وحتى التطابق يؤدي إلى انتفاء أحد الطرفين والقضاء بالتالي على العلاقة وتنعدم شروط المقبلة ووضعية الحوار.
إن الحوار يتضمن كلاما أرسله إلى الآخر وردا من الآخر يرسله إلى أنه يفترض الانخراط في لعبة تبادل للرسائل بين الباث والمتقبل وهو يوقظ عندنا روح المسؤولية لأنه ينبغي أن يجب كلانا على ماهو مرسل إليه من نداء ولا أحد بإمكانه أن يعوضنا في ذلك لأن الكلام موجه إلينا وليس لأحد آخر.إن الحوار يخرج المرء من وحدته الصماء الفارغة أي من أنانته ويقحمه ضمن الكلية التي هي نتيجة إجماع المتحاورين على الحقيقة وهي ليست تطابق بين العقل والواقع بل رفع المتحاورين للغطاء عن أسرار الواقع لرؤية وجهه الحقيقي طالما أن العلاقة أنا-أنت هي مكان حدوث الاتيقا وطالما أن الأنا أثناء مقابلتها بالآخر تأخذ بعين الاعتبار الكل أو تطمح إلى أن تتكلم باسم الكل ولا تكتفي بالكلام عن الفردي الجزئي.
يتراوح وجود الذات بين الاستقالة والارتماء في الوهم بالانطواء في النوم من أجل الحلم بعالم آخر أفضل ولكن ليفناس يرفض هذا الحل ويعتبره جزءا من شجاعة الانتحار أين تسقط الذات بين حبائل الهيمنة خوفا من الموت أو رعبا من تجربة الهناك ويبحث هذا الفيلسوف عن النسيج الذي يشد الذات إلى الوجود في قلب المحايثة وفي اليومي أين تتواجد عبر الصور وعن طريق فعل السكن وتشعر بالغبطة حين ينفتح أفق الجسد على جدة أصيلة. يقول في هذا السياق:” إن اختراق قوقعة العزلة هو وحده الذي يسمح لنا بالنفاذ إلى آخر الوجود بطريقة مغايرة عنه”.[8]
علاوة على ذلك يؤكد ليفناس على الدور الاتيقي للوجه في العلاقة التناظرية بين الذات والغير لأنه عندما تتوجه الذات نحو ذات أخرى فإنها تحاول على التو معرفة من تكون وتفهم ماذا تريد وتقول لها ما تنتظره منها ولن يتسنى لها تحقيق هذه المقابلة إلا بمنحها وجهها وبالتعرف على وجه الذات الأخرى،في هذه العلاقة أي أثناء المقابلة بين شخصين نحن لسنا فقط أمام فهم ومعرفة بل أمام وجه لوجه face à face و”الوجه يحدثني ومن هنا يستدعيني إلى علاقة دون قياس مشترك مع قدرة تمتحن”[9]. لكن تبادل الكلام هو أكثر من تبادل المعارف لأن هذا الشخص الذي يكلمني لا أفكر فيه كما هو بل أتحدث إليه فهو مشارك لي في علاقة تجعلني حاضرا دائما وأبدا بالنسبة إليه وتجعله حاضرا دائما بالنسبة إلي ومن هنا ينشأ الاحترام والاعتراف المتبادل. لقد تحدثت إليه وتحدث هو إلي وبالتالي أهمل الوجود الجزئي الذي يخصه وانخرط في الكلي. عندئذ يكون الإنسان هو الكائن الوحيد الذي لا يستطيع عندما يلتقي بغيره ألا يعبر له عن سعادته بهذا اللقاء أو سخطه وامتعاضه الشديد.يتميز اللقاء عن المعرفة بكونه يوجه إلى الآخر تحية وسلاما ويترجم موقفا إنسانيا وليس مجرد لقاء تعارف لأنه عندما أتحدث مع غيري فان الأمر لا يتعلق بتبادل الكلام معه بل باستدعائه واستضافته. هنا ليس الآخر هو الذي يفرض عليه الأنا هيمنته بل ذاك الذي يحافظ على نفسه ويتماسك في خارجيته . انه الشخص الذي يتحدث إليه الأنا ويوجد خارجه والذي يستمد مرجعيته من ذاته وليس هو فقط موضوع الحديث أو ذاك المشار إليه بالهو.
يتدخل الوجه بطريقة حاسمة في انفتاح الانية على الغيرية وفي تحول الغيرية إلى شرط إمكان إثبات الانية لأن الآخر عبر وجهه يظهر للأنا في خارجيته وغرابته وتميزه،” انه من خلال الوجه يتجلى الآخر للأنا” بل إن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يمتلك وجه ويتميز عن الآخرين بوجهه بينما الأشياء والكائنات الأخرى ليس لها وجه ولا تتميز عن بعضها البعض بهذه الخاصية لأن لها نفس الملامح والصفات وبالتالي فالوجه إنساني أو لا يكون.
إن تجلي وجه الآخر للأنا يتم عبر النظرة والنظرة ليست مجرد الرؤية الحسية بل التمعن والتحديق والإبصار لأنه كما يقول هيدجر:”ليس المهم أن نرى بل الأهم أن نبصر في ما نراه” والوجه ليس مجرد الجبهة والأنف والفم والعينين والوجنتين بل هو بصمة الشخصية ورمزها العلني وأكثر الملامح مجلبة للانتباه وكما يقول ليفناس:” دلالة الوجه تكمن في البعد الجديد الذي يفتحه في إدراك الوجود”[10]، والمقصود أننا نحن موضوع الإدراك بحكم الاختلافات في الوجه والتي تعطينا كيفيات تميزنا. يتميز الوجه بمجموعة من الخصائص مثل النقاء الأصلي و المقاومة اللامتناهية والخارجية الجذرية، فالتجلي كوجه ليس انكشافا لعالم باطني بل خارجية الوجه هي هنا ما لا يمكن إخفائه والاضطلاع به وتحملها،إنها من الآن فصاعدا تقدم نحو اللانهائي والبرانية الجذرية،فالآخر ليس له أن يعبر ويظهر إلا عن طريق وجهه والوجه هو بالتحديد هذا الظهور الاستثنائي للذات بذاتها. تجلي وجه الأنا للآخر هو زيارة الآخر عن طريق وجهه المختلف وبالتالي يفتح الوجه نوافذ الذات للزائرين ويسمح لها بزيارة الآخرين عبر وجوههم وهكذا يدخل الوجه إلى عالمنا عبر حقل غريب والإنسان الغريب يأتي إلينا من الخارج منفصلا عبر وجهه المتجلي ويعترف ليفناس أن:”دلالة الوجه في تجرده هو في معناه اللغوي خارق للعادة وخارج كل نظام وخارج كل عادة”[11].
إن المحاور يطرح نفسه في مواجهة الآخر دون أن تعني المواجهة صداقة وحسن ضيافة ودون أن تكون النظرة المصوبة نحو الوجه هي نظرة معرفة وإدراك فحسب بل قد تكون نظرة حقد وازدراء أو نظرة حب واحترام، وبالتالي ينبغي أن نتوقف عن معاملة الآخر كموضوع حتى نستطيع أن نراه على حقيقته ونقابله مقابلة حقيقية كما يقول ليفناس:”إن أحسن طريقة لمقابلة غيرنا لا تتطلب ملاحظة لون عينيه” لأن التفرج على وجه الآخر يشترط التحلي بالاتيقا والتسلح بالبعض من الاحتشام والحياء ولأننا عندما نرى لون عيني الآخر فإننا لا نكون في علاقة اجتماعية مع آخرنا بل في علاقة عاطفية شعورية. في الواقع يوجد أسلوبان من أجل اعتبار وجه الآخر:
– العلاقة مع الوجه يحددها الإدراك المعرفي أين يقع الهيمنة على الوجه عن طريق الرؤية مثل الهيمنة على أي موضوع آخر.
– العلاقة مع الوجه هي علاقة اتيقية تسمح بإنقاذ خارجيته الجذرية أين يوجد الآخر برمته قبالة الذات دون موانع أو تحفظات.
الدخول الاتيقي في الآخر يتوقف على حركة فتح الأبواب والنوافذ الخاصة بالذات من أجل استضافة وحسن استقبال الآخر والوجه من خلال استقامته وصفائه ومقاومته هو ميدان هذا الانفتاح وأفقه واستقامته لا تعني صراحة الآخر وإخلاصه بل تتحقق في الحركة التي يظهر بها الوجه قبالة الآخر دون تردد. من جهة ثانية يرفض الوجه كل تملك ويند عن كل موضعة ويتنطع عن كل اختزال ويقاوم الوحدة في القراءة والتنميط في الصورة وصفاؤه ونقاؤه وبراءة جلده وعريه كلها شهادات على فرادته وتميزه كما أن المقاومة التي ينخرط فيها لا يستمدها من سلطة خارجية يخضع لها بل يأخذها من تحرره من كل نظرة اختزالية طالما أن الوجه هو ما لا يمكن تلخيصه ووصفه وصفا شافيا،يمكن أن أضرب الوجه وأشوهه ولكن لا أستطيع إخضاعه واستعباده ويوجد حل جذري لذلك وهو أن أسحقه وأقتله لكن إذا كان الموت ممكنا فان القتل مستحيلا أخلاقيا،انه ليس أبدا نصرا بل إرادة يائسة تختزل الآخر الذي يتحدى رغبتنا في شهوة القتل،هذا الآخر هو الوجود الوحيد الذي نشتهي قتله عندما تتعارض القوة التي تضربه على وجهه مع مقاومته وامتناعه عن الموت الذي يمثل النظرة نفسها نحو الوجه. هنا يتعالى الآخر على وجود القوة الموجهة ضده نحو لامتناهي الوجه وهذا اللامتناهي هو الذي يفتت القوة الغاشمة المسلطة عليه بمقاومته اللامتناهية للقتل.
فلسفة ليفناس هي فلسفة اللامتناهي وهذا الأخير لا نحصل عليه بعد امتحان المعرفة التي تحاول فهم الواقع وليس مجرد نقيض للمتناهي بل هو الأفق الذي يتعالى على كل معرفة وهو كذلك رغبة في المطلق وليس مجرد حاجة تنبع من الذات. تتعلق رغبة الإنسان بلامتناهي نابع من وجود لا ينقصه شيء ولذلك يظهر الآخر في هذه العلاقة كشيء مرغوب فيه.
فكرة اللامتناهي تتعلق بتجربة الغيرية وبالعلاقة مع الآخر بوصفها علاقة اجتماعية تتمثل في الاصطدام مع وجود خارجي بإطلاق،لاتناهي هذا الوجود لا يمكن أن يحتوى الآخر ويضمن ويكون هذه الخارجية التي تظهر في المقاومة المطلقة التي يبديها الوجه ضد كل موضعة.
يقول في هذا السياق ليفناس:” من المؤكد أن الآخر يمنح نفسه لكل قدراتي ويقع تحت حيلي وجرائمي ويقاوم بكل قواه ومصادره غير المتوقعة حريته الخاصة… توجد خارجيته الحقيقية في نظرته التي تمنعني عن كل غزو. تتكون هنا علاقة مع مقاومة كبيرة مع الآخر المطلق، مع المقاومة الاتيقية…”[12]
إن الوجه الذي يستدعيني ويوجهني ويدعوني إلى تحمل مسؤولية لا متناهية تجاه الآخر هو وجه عار ومجرد وملامحه مكشوفة ولا يخفي أي سر ورائه فهو موجود خارج عالم الظواهر وكل ما فيه قد ظهر منه،يضع الوجه الذات في علاقة تناظر موازية للآخر وهذا الآخر ليس مجرد مرآة عاكسة ترى فيها الذات ذاتها بل هو كذلك ثقب في عالم الذات يترك فيها بصماته وآثاره عندما يمر من أمامها وتنفتح عليه كما يقول ليفناس:”إن الوجه ليلمع داخل أثر الآخر”[13]
في علاقة المرور ينبغي أن يتخلى الآخر عن الرغبة في رؤية ومعرفة الذات،يجب أن يرضى فقط بوضع المرور الذي هو رفض لكل ذوبان في المطابق والمثيل والنظير،انه يؤدي زيارة ويشرع في القدوم فيعطل المحايثة دون أن يصمد في التعالي ودون أن يثبت في آفاق العالم.
الوجه هو داخل أثر الغياب المرتبط بالآخر وليس البتة مقبوضا عليه،أما الأثر فهو يلعب دور العلامة على مرور الآخر قبالة الذات ويتمسك به الوجه ليؤكد مروره.
الآخر الذي مر والذي ظل غائبا بإطلاق وغير قابل للإدراك يشهد على قوته ويعبث بنظام وجود الأنا وهو مطالب بالانسحاب حتى لا يتحول إلى رهينة للأنا،يذكرنا الأثر أنه أثناء هذا المرور يتشكل شيئا ما عند مقابلة الآخر،لقد مر شيء ما والجوهري في مغامرة مروره ليس الوصول إلى المعرفة والتذكر بل الحصول على التعرف أثناء المقابلة. إن الأثر الذي يظهر في الوجه لحظة مرور الآخر يفتح الأنا على المجهول ويمكنه من الوصول إلى جدة غير متوقعة.
4- مستقبل الأنا هو مجاورة الآخر:
“كل مقابلة تبدأ ببركة متضمنة في كلمة صباح الخير”[14]
الإنسان مدعو على طول وجوده في العالم الذي قذف فيه إلى وضع إمكانياته قيد التنفيذ وذلك بالتفكير في الزمن لا كانحطاط للديمومة بل كعلاقة مع الآخر المطلق الذي يظل غير مفهوم.
يبحث ليفناس عن الوسيلة التي يستعملها الآخر ليقاوم بها العدم وينتصر في وجوده دون أن يهمل مأساة موته الخاص وحزنه من موت الآخر. إن الوجود المائت هو في نفس الوقت وجود من أجل الموت ولكنه أيضا وجود ضد الموت. إن الموت يعطي معنى للوقت المتبقي للحياة لكي يكون انهماما بالوجود، إن المستقبل المهين عليه السأم من الموت لن يصبح مستقبلي لوحدي بل المستقبل الذي يشاركني فيه الآخر.
صحيح أن الموت يهدد الذات في وجودها الخاص ولكنها تمتلك الوقت الكافي لإثبات وجودها بالنسبة إلى الآخر وللعثور على المعنى على الرغم من الموت،إن الذات مدعوة لكي تعترض على عنف الموت بالطيبة حيث ينبغي أن يستفيد المرء من خير الآخرين مادام مزال على قيد الحياة. يثمن ليفناس مبدأ الأمل الذي صاغه أرنست بلوخ والذي يقوم على القول بأن المستقبل الأصيل هو الذي يجعل الموت أمرا مفهوما ويرتبط بالحب الشديد الذي يعوض الموت.
إن ما نسميه حب هو الفعل الذي يتأثر بموت الآخر أكثر من الذات ،انه نتيجة حب الآخر بقوة وليس الضيق من الموت الذي ينتظر الذات. الموت هو الخطر الذي يقترب مني كالسر انه إقبالي على الآخر ومرجعيتي بالنسبة إلى الموت “أننا نلتقي بالموت في وجه الآخر”[15]
من جهة أخرى يعتبر ليفناس الأنوثة هي الآخر بالنسبة إلى الذكورة ويطالب بإعطاء المرأة نفس الحقوق التي ظل يتمتع بها الرجل لوحده لأن المرأة عنده تحوز على نفس الخصائص التي توحدها من جهة كونها إنسان مع الرجل. لكن الأنوثة هي الغيرية الخاصة بالمرأة والتي لا يقدر الرجل على معرفتها حتى عن طريق الحب والزواج. إن الأنوثة ليست جسد يمكن إدراك حدوده تحت الضوء بل هي خاصية مختفية على الدوام وانطواء على الذات. علاقة الحب لا يمكن اختزالها في مقابلة بين شخصين مختلفين يطمحان إلى الانصهار في ذات واحدة عبر تقاسم لذة أبدية. الأنثى هي مستقبل مفتوح للرجل في هذا الزمن الممزق،إنها طريقة للانعطاء تطل على الوجود وعلى العدم كحرارة متدفقة،إنها هشاشة مطلقة ومعطوبة.
اللافت للنظر أن هذه الطريقة في أن تكون امرأة التقينا بها في شكل آخر هو المأوى،المرأة هي مأوى الرجل،كما ينبغي أن يشعر الرجل المرأة بأنوثتها حتى تتفطن إلى رجولته وذلك عن طريق مداعبتها وتمسيح شعرها،التمسح مغامرة ينكشف فيها ماهو متخفي وتتوجه نحو اللانهائي وهو العلاقة المحبذة التي ينبغي أن تنعم بها الأنثى ويقوم بها الرجل حتى يزهر جسدها ويلتهب فؤادها شوقا،انه حركة المحبوب أمام ضعف المحب والغبطة من علاقة الأنثى بالذكر ليست إرضاء الشهوات بل مواجهة المحب لغيرية الأنثى. إن الذات الرجولية غير قادرة على إمساك هويتها إلا بحصولها على حب من الأنثى والعكس بالعكس إذ يقول ليفناس:” الذات الرجولية لا تقدر على انجاز هويتها إلا باكتشاف غيريتها في الأنثى”.إن الشهوة هي انجذاب نحو اللانهائي حيث يجتمع الإحساس بالخارجية ويكون الجسد في علاقة مع من في العالم أين الكل وجود وليس وجود.
إن”وجه المحب لا يعبر عن السر الذي يدنسه الحب…فهو ما ينفك يعبر…”[16] الوجه يصبح صامتا بالقياس إلى السر المدنس،انه يقودنا نحو الخلاء ويشير إلى العذرية والبراءة الأصلية في حين يرمز العري إلى الإبراز والتجلي والإفصاح عن اللغز.المتحابون يريدون أن يكونوا وحدهم في العالم لكي يمارسوا الحب دون رقابة ودون ضغط ومستقبل الحب هو ولادة طفل لكن لكي يأتي الطفل لابد من أن يقابل الرجل الآخر من حيث هو أنثى. الطفل هو في نفس الوقت إمكانية من الأنا وإمكانية من الآخر،انه يتجاوز قدرة المحب والمحبوب على المستقبل.إن مستقبل العلاقة هو الآخر الطفل. الأبوة هي علاقة مع غيب يظل بأكمله آخر لأن الطفل لا يكون ابني إلا من جهة المولد أما بعد ذلك يصبح غريبا بالنسبة إلي،كما أن الابن ليس البتة ملكي ولا أثري مثلما تكون الأغنية أثرا للفنان فليس مقولات القدرة والمعرفة والملكية هي التي تحدد علاقة الأب بابنه بل تتبلور علاقة خارجية من خلال تجربة الخصوبة التي تسمح لكل واحد أن يكون نفسه ويوجد الآخر في نفس الوقت. هنا كل واحد هو آخر للآخر والوحدة لا ترتكز على الانتماء إلى نفس النوع بل متعالية على البيولوجيا وتتأسس على المحبة المتبادلة بين الأنا والآخر.
يقول ليفناس في هذا السياق:”إن العلاقة مع الآخر تتركني محل تساؤل،تستفزني،تفرغني من نفسي ولا تنفك تفزعني عندما تكتشف في منابعا جديدة دائما…”[17]إن السؤال الذي يطرح هنا هو التالي: من أين يأتي هذا الثراء السري الموجود في والذي أجهل وجوده والذي لولا مقابلتي مع الآخر ما كنت اكتشفته؟
هناك داخل علاقة الأنا بالآخر إدراك بالرؤية واحتكاك باللمس والتمسيح وهناك أيضا تخاطب باللغة والتواصل عن طريق الصورة. الصورة هي المهيمنة الآن في العلاقات ذات البين لكونها الطريقة المفضلة التي تمثل الأنا للآخر والتمسيح يتهدده التباس الحب واللذة والتراخي لذلك تبقى لنا اللغة وهي ليست لغة المعارف والعلوم بل لغة الحديث الشفوي والكلام اليومي المتداول.
اللغة تخدم حوار المحايثة أين يقع تبادل حجج لغاية إرساء سلم بين المتحاورين . يرسي الحوار المتبادل عدالة بين المتحاورين داخل علاقة الأنا- الأنت، فهو القول الذي يفتح الباب على الآخر ما وراء حاجز الكلمات من أجل رؤية الأشياء والتواصل مع الذوات للتعرف على حياتها الماضية ومشاريعها المستقبلية وهوياتهم التي تتشكل حولا بعد حول.
إن تجلي الوجه الذي يحبذ المناظرة يفتح الأنا على طريق آخر هو طريق الآخر وعوض أن يكتفي الآخر بالتكلم مع الأنا وإرضائه فانه يغرس فيه تخمين ويزرع فيه الشك ويتركه حائرا مترددا لكن من أين تأتي هذه الصدمة التي تحصل لي عندما أقع ضحية نظرة الآخر؟
إن هوية الأنا هي دون غطاء القول ودون طريقة في أن يوجد بشكل معتاد وتعرض نفسها للآخر كماهي دون تكلف.إن الذات تقترب عن طريق التبادل التي تسمح به اللغة في القول من الآتي بأن تعبر له عن نفسها لأن كما يقول ليفناس:” الواحد يعرض نفسه على الآخر مثل الجلد الذي يعرض نفسه للذي يجرحه.” الآخر يكتشف أن الأنا الذي يتكلم ليس أبدا موضوعا منكشفا قبل القول بل يقع التعرف عليه بعد أن تخلى عن جميع دفاعاته ويقع اخراجه من مخبئه. مهما كان مضمون التبادل وديا أو عشقيا فان الأنا لا يستطيع الهروب من هذا الوضع العاري وبعض الكلمات القوية كفيلة بأن تسلط الضوء على هذا الاقتلاع من جذور الذات الذي يهددها في تعارض تام مع مجهودها في الوجود وحاجتها إلى الإثبات التي تهيمن على وجودها اليومي. لهذا السبب تتردد الذات في فتح بابها وقبول الآخر ببساطة بل إن الآخر يدخل إلى حياة الذات متسللا كالسارق ويدعوها إلى تحمل مسؤولية لا تريدها ولم تبحث عنها لأنها لا تختار الآخر الذي تلتقي به بل كان مصدر ما حصل لها من إزعاج وفوضى. منذ أن تبدأ الذات في الحديث مع أحدهم فإنها تعرض نفسها عليه فعلا فلا تكون الأنا الذي قرر معرفة السبب في حرية كاملة إذ ينبغي أن تجيبه حتى قبل أن يطلب منها الآخر ذلك وبالتالي لا أحد يستطيع أن يحرر الذات مما سيأتي إليها بالرغم عنها من الخارج. إن اللغة كقول تحدث انقلابا آخر داخل الذات وعندما يتحدث موجودان فان التبادل يبدأ في لحظة معينة وينطرح بطريقة مستقيمة ثم يتوقف. إن زمن التبادل يتعلق بالحاضر من أجل المستقبل أين ينكشف المعنى تدريجيا والقول يشهد على الزمن بشكل مغاير ويمزق الزمن الخطي للقائل. إن قدرتي على التحديد الذاتي تتأثر بانفتاحي على الآخر واضطربت نتيجة التبعية تجاه الآخر.مهما كان محاوري فأنا الذي اخترته فجأة،إذ منذ أن أبدأ في الحديث مع أحدهم فاني أعرض نفسي له فلا أكون الأنا الذي قرر معرفة السبب في حرية كاملة،إذ ينبغي علي أن أجيب حتى قبل أن يطلب مني لماذا ؟، لا أحد يستطيع أن يحررني مما سيأتي إلي بالرغم عني من الخارج. إن اللغة كقول تحدث انقلابا آخر داخل الذات. عندما يتحدث موجودان فان التبادل يبدأ في لحظة معينة وينطرح بطريقة مستقيمة ثم يتوقف. زمن التبادل يتعلق بالحاضر من أجل المستقبل أين ينكشف المعنى تدريجيا، إذ يشهد القول على الزمن بشكل مغاير عندما يمزق الإيقاع الخطي للقائل.
أن نتحدث إلى أحدهم هو أن نفتح الباب الذي نحن منغلقون وراءه للانهماك بالوجود.انه لا أحد محروم من هذه المغامرة التي ينكشف معها بعض الضعف البشري. إن الذي يعزف عن الحديث للآخر يحرم نفسه من نجدة الكلمات ومن ثمار النقاش الذي يمكننا من التخلص من معتقداتنا البالية. التحدث إلى الأخر والتوجه نحو والتراسل معه هو الانعطاء له والوجود مع الآخر ومن أجله والمعاناة والتألم من وجوده فبالة الذات.إن الكلام ألم ومعاناة ومكابدة ويتطلب الصبر ويخضع الأنا تحت الامتحان خاصة وأن ” الأنا كانت في القول معطية للآخر دون تحفظ”
الأخذ باحتياجات الآخر والاعتناء به هو مجاورته من أجل معالجة أخطائه وإصلاح هفواته عن طريق الهبة والعطاء والبذل وهذا الفعل لن يكون له معنى إلا إذا كانت في شكل انتزاع من الذات بالرغم عن الذات ، وحدها الذات التي تأكل يمكن أن توجد من أجل الآخر أما الذات الجائعة فإنها لا توجد إلا من أجل قضاء حاجياته بل بالعكس إنها توجد من أجل أن تنتزع خبز الآخرين من الفم وهذا هو سلوكه العدواني تجاه الإنسانية المنغرسة فيها.لن تكون هناك دلالة للواحد منا للأخر إلا إذا كنا موجودين من لحم ودم. الإحساس بالآخر لا يمكن التسبب في العطوبية أو التعاطف مع مرض الآخر. الجرح بالنسبة إلى الآخر هو انتزاع الخبز من الفم الذي يحرم من الغبطة ويمنعها. لا يتعلق الأمر هنا بفائض في القيمة بل بإعطاء الآخر الخيرات المعروضة علين. إن الأنا حسب ليفناس وقع انتهاكه والاعتداء عليه من قبل الآخر في هذه المغامرة المأساوية أين تم لمس الأنا من قبل الآخر.أثناء هذا الاحتكاك يختبر الأنا المجاور الأصيل أو الحسي المباشر وهو الآخر المتجسد في وجوده اليومي. ومهما تعظم الاحتكاك الذي وقع انجازه فهو لن يبلغ أبدا لحظة الانصهار والوجه لوجه لم يختفي بل أخذ منعرجا مدهشا هو منعرج المجاورة. إن هذه العلاقة التجاورية التي تسمح بالعيش سويا ليست مجرد قياس للمسافة التي تفصل بين حدين بل هي الشرط الذي يجعل من الأخر مستقبل للأنا. أن نتقاسم مع الآخر نفس الأفكار والمبادئ ونتعاطى معه نفس العادات والتقاليد ونتعادل في التبادل للمنافع والسلع لا يعني أننا سنقترب منه ضرورة إذا لم نفتح له قلبنا ولم تنتابنا الحيرة من صفاء وجهه. إن الاقتراب ليس حالة نهائية ومحصلة وان المجاورة لا تعني التطابق مع الآخر بل تبقي على المسافة التي تفصل بينهما لأنه” أكثر ما أقترب من الآتي المهتم به أكثر ما أكون بعيدا عنه”.
غيرية الآخر اللامحتملة تقاوم الأنا إلى ما لانهاية وان ما يقرب الذات من الآخر ليست ما يجمعها به بل ما يجعلها تتحمله في غيريته وما يجعل الآخر يتحمل الذات على الرغم من خارجيتها عنه. ينبغي أن نتحمل جمعينا مسؤولية تواجدنا معا وعيشنا سويا طالما”أن الاجتماع معه يبدأ من واجبي تجاهه وواجبه تجاهي”. إن القادم الغريب غير المعروف هو الذي يهم الذات قبل كل ادعاء وقبل كل التزام فهو الذي ينظمها دون أن تكون تعرفه. القادم هو الذي يهم الذات ليس لأنه ينتمي إلى نفس النوع الذي تنتمي إليه بل لأنه تحديدا آخر. النحن ليس جمع الأنا ولا الأنا في الجمع بل اللفظ الأنا يعني هاأنذا أو لبيك. الأنا يكون هويته من خلال الحياة في السكن والشغل والتملك والمعرفة وعلاقات الحب،وجوده كمواطن والتزاماته تجاه الثقافة ومدى احترامه للقيم. ان العلاقة بالآخر تظهر في شكل الحياة مع وباحترام العيش سويا حسب ما يفترضه القانون. إن الأنا مبتلع من طرف الوجود وفي خدمة النسق وهوية الأنا لا تقول كل شيء عن ذاتيتها فهي متكتمة في وجودها ولا تفصح بسهولة عن سرها والحياة الداخلية للهوية ليست فقط اهتمامها بوجودها بل حائرة أمام وجود الآخر.
إذا كان الأنا هو مصدر قراراته فان عين الذات غيرا لا يمكن أن مثل الأنا بل انفعالية مطلقة.القائل هو عرض للآخر،انه ابن الأب المجهول مثل المخلوق الملحد الذي يجهل دون شك خالقه، والخلق من لاشيء أي اللاشيء ليس العدم بل الخير ما تحت الوجود.
خاتمة:
” إن الحياة الحق مفقودة ولكن نحن موجدون في العالم”[18]
يبين ليفناس في مشروعه الفلسفي أن السياسة تتناقض مع الأخلاق مثلما تتناقض الفلسفة مع التفاهة إذ لاشيء خارج الحرب لأن الحرب لا تظهر الخارجية ولا تحيل إلى الآخر كآخر بل تحطم هوية المطابق.إن هذا المشروع يظهر كدفاع على الذاتية ولكنه يدركها في مستوى احتجاجها الأناني ضد الكلية ولا يحاول التعرف عليها في قلقها من الموت بل يدركها متأسسة على فكرة اللانهائي. إن ليفناس يدرك الذاتية بالتمييز بين فكرة الكلية وفكرة اللامتناهي والإقرار بأولوية هذه الفكرة على البقية، هنا سيحدثنا ليفناس كيف يتم إنتاج اللامتناهي من علاقة التجاور بين الأنا والآخر؟ لكن كيف يجذب الجزئي الحقل الذي يلعب فيه إنتاج اللانهائي الذي يظهر الذاتية كاستقبال للآخر وحسن ضيافة؟
انه يستهلك فكرة اللانهائي ويتوجه نحو الخارجية الجذرية، إذ تطمح رغبة الأنا نحو شيء آخر أي نحو الآخر بإطلاق وغيرية الرغبة تتناقض مع هوية تفكير الذات وقدرتها على تملك ذاتها. يظل الأنا محتويا لذاته حتى عند التقائه بالآخر وتغيره بهذا الالتقاء، إن الانفصال الجذري بين الأنا والآخر يغير ممكن لأنه من المستحيل على الأنا أن يتموضع خارج تضايفه مع الآخر،كما أن الغيرية غير ممكنة إلا إذا كان الآخر آخر بحق. إن الأنا ليس موجودا دائما مع نفسه بل يحاول أن يجدد هويته عند كل نقطة يلتقي فيها بالأغيار.إن الآخر بإطلاق هو آخر الذات ولا يمثل عددا بالنسبة لي والجمعانية التي تجعلني أقول أنت ونحن ليست مجرد جمع للأنا لأن الأنا والأنت ليس هنا أفراد لمفهوم مشترك. إن غياب عنصر هو الذي يجعل الآخر آخرا والغريب هو الحر من كل تقييد وسيطرة وهو الذي يحدث اضطرابا في الذات عند كل مقابلة.
ينتهي ليفناس إلى نتيجة مذهلة تقطع مع الفكر الحديث برمته وهي التالية: الأنا لا ينتمي إلى نوع وليس له مع الآخر مفهوم مشترك بل نحن أنفسنا الأنا والآخر.،ماذا تعني هذه النتيجة؟
عين الذات ليس الأنا الذي يغسل يديه من الأخطاء والمآسي التي اقترفها في حق الآخر فقط بل هو الذي يعترف بوجود ما ليس بالنسبة إليه.إن عين الذات موجودة من أجل الآخر دون تحفظ ومنسحبة من ذاتها دائما وأبدا بالرغم عنها لأن آخر يجب ضرورة أن توجده داخلها وبين طياتها وإلا لما كانت ذات. إن هوية الأنا ليست ذائبة ومتحللة في الآخر بل تتفكك وتصير عند لقائها أي آخر من أجل أن يعاد بناؤها بشكل آخر. تتأسس عين الذات بواسطة الآخر وتوجد من أجل الآخر وكما يقول ليفناس:”إني أنا نفسي بواسطة الآخر ومن أجل الآخر”،”إن لفظ الأنا يعني هاأنذا بالإجابة عن الكل للكل”[19] والكل للكل تعني أن كل واحد له وجه يلتقي به الكل دون أقنعة وينظر إليهم كماهو في حد ذاته ووحدة إدراك الذات للعالم ليست متأتية من النظرة التي تطال الكل بل من أن الكل هو من شأن الذات.
في نهاية المطاف يغادر ليفناس الكوجيتو الديكارتي الغازي للطبيعة ويدخل إلى الذات هواء جديدا ويقوم بتغذية وجودها أين كفت الروح أن تكون فكرة للجسد لتصبح نداء متواصل على الآخر من أجل المجيء والتهيؤ لاستقباله واستضافته على أحسن وجه. الاقتراب من الآخر هو مستقبل الأنا ويعكس حرية ا رادتها وقدرتها على الاضطلاع بمسؤولية تقاسم الخير على الأرض.إن الذات الحاضرة تتحمل مسؤولية الإنسان القادم والجيل الآتي لكونها مسؤولة مسؤولية مطلقة تجاه الآخر يقول ليفناس في هذا الموضوع:” أنا لا أعيش في عالم لا يوجد فيه سوى قادم واحد بل هناك دائما وأبدا في العالم ثالث.والعلاقة بالثالث ليست أبدا العيش سويا لأن الثالث وجه وهو ينظر إلي بعيون الآخر”[20] وهذا الآخر ليس أنا آخر بل الآخر في غيريته، لكن كيف تمثل الإحالة على الغيرية الجذرية انفتاحا على القرابة بماهي مسؤولية قصوى تجاه القريب؟
المراجع:
Emmanuel Lévinas ,Quelques réflexions sur la philosophie de l’hitlérisme. Rivages poche, Petite Bibliothèque ,1997 .
Emmanuel Lévinas , Totalité et Infini. Essai sur l’extériorité , Kluwer Academic , 1996.
Emmanuel Lévinas, De l’Existence à l’Existant, Librairie Philosophique J. Vrin, 1993.
Emmanuel Lévinas , Difficile liberté. Essai sur le judaïsme, Albin Michel, 1997 .
Emmanuel Lévinas ,Humanisme de l’autre homme, Fata Morgana , 1972 ..
Emmanuel Lévinas, Autrement qu’être ou au-delà de l’essence, Kluwer Academic, 1996.
Emmanuel Lévinas ,En découvrant l’existence avec Husserl et Heidegger , librairie Philosophique J . Vrin , 2001.
Emmanuel Lévinas , Entre nous. Essais sur le penser-à-l’autre, Grasset, 1991.
Emmanuel Lévinas, Altérité et transcendance, Fata Morgana, 1995.
Emmanuel Lévinas , De Dieu qui vient à l’idée , J. Vrin , Paris , 1982.
[1] Emmanuel Lévinas, Totalité et Infini. Essai sur l’extériorité, Kluwer Academic, 1996, p25 [2] Emmanuel Lévinas, Quelques réflexions sur la philosophie de l’hitlérisme, Rivages poche, Petite Bibliothèque, 1997. [3] Emmanuel Lévinas, Totalité et Infini. Essai sur l’extériorité, Kluwer Academic, 1996, p113 [4] Emmanuel Lévinas, De l’Existence à l’Existant p117- p124 [5] Emmanuel Lévinas, Entre nous p43- P44 [6] Emmanuel Lévinas, De Dieu qui vient à l’idée p216-p217 [7] Emmanuel Lévinas, Difficile liberté p19- 20 [8] Emmanuel Lévinas, Autrement qu’être ou au-delà de l’essence p13 [9] Emmanuel Lévinas, totalité et infini p216 [10] Emmanuel Lévinas, Difficile liberté p20 [11] Emmanuel Lévinas, Humanisme de l’autre homme p51- p52 [12] Emmanuel Lévinas, En découvrant l’existence avec Husserl et Heidegger p172 [13] Emmanuel Lévinas, Humanisme de l’autre homme p69 [14] Emmanuel Lévinas, Altérité et transcendance p109 [15] Emmanuel Lévinas, la mort et le temps p121 [16] Emmanuel Lévinas, Totalité et Infinie p291 [17] Emmanuel Lévinas, Humanisme de l’autre homme p49 [18] Emmanuel Lévinas, Totalité et Infini p21 [19] Emmanuel Lévinas, Totalité et Infini p180-181 [20] Emmanuel Lévinas, Totalité et Infini p190
السؤال الذي استفز الفيلسوف امنيال ليفناس ( 1906/1995) كثيرا وأثار فيه عدة استفهامات هو تخوفه من وجوده في عالم لا يحمل أية جدة ممكنة وانخراطه في حياة خالية من الأمل ومعدة بشكل مسبق دون ضمانات للاستمرار في البقاء والمعطى الذي عزز تخوفه هذا أن لا أحد من المجموع البشري يملك أي نوع من أنواع القدرة على التغيير والاختيار ولذلك لم يكن مشروعه منصبا فقط حول تعويض روحانية المعرفة بروحانية الحب المهددة من قبل اللاعقلانية الطاغية نتيجة هيمنة التقنية وانتصار التصور الوضعي للعلم بل تمحور حول السبل الكفيلة بإيقاظ البشر من سباتهم الدغمائي الذي جعلهم يعتقدون أنهم قادرون في يوم ما على التحكم في الأزمات التي يتعرضون إليها واقتراح الحلول الجذرية لها. القرار الذي اتخذه بالتوجه نحو الفلسفة لم يكن وليد الصدفة بل نتيجة إيمانه الراسخ بأن “الفلسفة هي نفس الثقافة وروح الحضارة التي شكلتنا وجعلت منا نحن ما نحن” بالإضافة إلى تتلمذه ومقابلته لأهم الفلاسفة في عصره وبالخصوص هيدجر وياسبرس ومرسال وبرنشفيك.
بيد أن الشحنة الكبيرة التي دفعته نحو التفكير في عالم الحياة أتته من التراث اليهودي المستنير وخاصة تأويلات حاييم فولوزنار المتحررة للتوراة واعتباره هذا الكتاب “الكلمات الأولى التي ينبغي أن يصرح بها من أجل أن يكون للحياة الإنسانية معنى”،كما تأثر بكل الكتاب والسياسيين الذين واجهوا الحكم الشمولي سواء الشيوعي أو النازي وحاولوا إيجاد علاقة جديدة مع المستقبل تتميز بسخاء إبداعي وقد انخرط هو نفسه في مشروع مناهضة النازية بكتابته مقال بلور فيه “بعض الأفكار حول الفلسفة الهتلرية سنة 1934 أين رفض مفهوم الحشد وقاوم سياسة تكبيل الجسد التي تمارسها الدعاية النازية واعتدائها على قيم الكرامة والحرية الشخصية وقد بدأ يتحسس هنا المشكل الفلسفي المركزي الذي سيرتبط اسمه به ويرفعه إلى صف الفلاسفة الكبار وهو مشكل علاقة الانية بالغيرية فكيف يتسنى لنا منذ البدء أن نعلن أن ليفناس هو فيلسوف الغيرية؟ ماهي علاقة الانية بالغيرية؟ ومن يحدد الآخر؟ هل المطابق هو الذي يحدد الآخر أم الآخر هو الذي يجعل من المطابق مطابق لذاته؟ كيف يكون المرء ذاته ويصبح أنا؟ هل عن طريق الوعي أم عن طريق الإرادة؟ هل عن طريق القول أم عن طريق الفعل؟ كيف تطرح هذه الذات ذاتها؟ هل بالانفصال عن العالم والانطواء على ذاتها أم بالانخراط في العالم والانفتاح على الآخر؟ ماهو الآخر؟ ولماذا أصبح الآن مشكلا فلسفيا بامتياز ؟ هل هو عدو للذات أم هو عين الذات كآخر؟ من أين ينبع إحساس الذات بالضياع في العالم وباللاحماية من الآخر؟ وماذا تفعل للتغلب على هذا الخطر المتأتي من الآخر؟ كيف يمكن للذات أن تفتك مكانا ما تحت الشمس وتنجز كيانها دون أن تعرض حياة الآخر إلى الخطر؟ ماهو الطريق الجديد الذي انخرط فيه ليفناس وساعده على حل معضلة الانية والغيرية؟ ألا ينبغي أن تتوقف على اعتبار الآخر مجرد شيء ونبدأ في معاملته كشخص ينتمي مثلنا إلى دائرة النوع البشري؟ هل يقدر الحوار على إزالة سوء التفاهم بين الأنا والآخر أم يجب أن نتعدى ذلك نحو المقابلة rencontre laوالتلاقي وجه لوجه؟ ماذا تضيف المقابلة إلى الحوار؟ كيف تبدأ الذات في التجلي l’épiphanie للأخر دون تزييف في لحظة المقابلة والتلاقي؟وألا يفعل الآخر نفس الأمر من خلال الوجه الذي يتيح له فرصة التجلي للذات والكف عن الغربة والانطواء؟ وهل يجوز أن نعتبر الوجه visage الجسر الاتيقي المنشود الذي يربط بين العين والغير؟ لكن عن أي وجه آخر نتحدث؟ وما المقصود بأخر الوجود بالنسبة للذات؟
ما نراهن عليه هو تخطي منطق التنافي والتخاصم وتفكيك قلاع الهويات المتكتمة على ذاتها ومد جسور التواصل والتصافي بين الذوات والأمم من أجل تحقيق مجموعة من التفاهمات وانجاز جملة من التشاركات قصد بناء الهوية الإنسية الكونية المؤهلة لتحمل مسؤولية المحافظة على الحياة الأرضية وتحقيق وصية الاستخلاف والائتمان والتعمير.
1. التفكير في الأنا من جهة علاقته باللانهائي:
نشر ليفناس سنة 1934 مقالا بعنوان l’évasion عبر فيه عن رغبته في الخروج من الوجود وذلك لتبينه أن الذات منسحقة من طرف الوجود وبقائها في خدمة النسق ولاكتشافه فظاعة الممارسات اللاانسانية التي يحملها التاريخ إلى الناس وسبب هذه الفظاعة هو ما يحمله الإنسان من كره وحقد على الإنسان الآخر وتفشي النزعات العنصرية التي تعتمد على مبادئ الإقصاء والتمركز على الذات واستئصال المخالفين وتصفيتهم جسديا ومعنويا ولذلك حاول ليفناس أن يعطي الإنسانية اللمسة التي تنقصها لكي تصبح إنسانية بحق بحيث تحدث عن الصداقة ونادي بضرورة احترام الآخر والاعتراف بحقوقه والسماح له بالمشاركة ولذلك نظر لإنسانية الإنسان الآخر l’humanisme de l’autre homme . إن خطأ الإنسانية الغربية المهيمنة الأول هي أنها جعلت العين هو دائما الذي يحدد الغير ولم تنظر إلى الغير على أنه هو الذي يحدد العين، الخطأ الثاني هي أنها اعتبرت الوجود من أجل الله واعتبرت الله من أجل الوجود بينما الله هو منفصلا عن الرغبة بشكل لامتناهي انه آخر الوجود أو الوجود الآخر المنفصل. لذلك يناهض هذا الفيلسوف غير الفلسفي الميتافيزيقا الغربية في معناها الميتافيزيقي التي سعت جاهدة إلى دمج كل شيء ضمن دائرة المعرفة الموضوعية السببية وهمشت الذات ووقعت في الخلط بين الطبيعة والفكر والتاريخ والبنية ويهتم بما أبقته هذه الميتافيزيقا خارجها من مشاكل وقضايا ويتناول المواضيع التي أسقطتها من حسابها وهمشتها مثل الغيرية والجسد والوجه.
إن كل واقعة مهما كانت غرابتها وتفاهتها تنتمي إلى مجال الوجود هذا ما أكده ليفناس وكل ما يعزب عن الوجود هو عدم ولا يتعلق الأمر هنا بفعل وجد الذي يعني كان بل باسم يشير إلى الكائنات والأشياء وماهيتها وما يجعلها هي هي. إن الفلسفة هي علم الوجود أو أنطولوجيا لا يعزب عنها شيء أي هي نظرية للكلية Totalité أما العلم فهو أثر للعقل و مرتبط بالتقنية ويظهر كتفعيل لمعرفة مسيطرة على الطبيعة. من هذا المنطلق يتحدث ليفناس عن شمولية Totalitarisme العقل ويقصد أن المعرفة العقلية هي التي تتحكم في سلوك الذات البشرية وفي حرصنا على أن نفتك مكانا تحت الشمس، انه بالمشاركة في هذا الحدوث للوجود تكون الذات هويتها وتصبح أنا وهذا الجهد من أجل إثبات الذات يمكن أن ينتج عنه عنف وحرب وذلك لتضارب المصالح وتدافع الرغبات واصطدامها ببعض. ينقد ليفناس الأنطولوجيا التي ترد كل الموجودات إلى الوجود ويقترح ميتافيزيقا جديدة مهمتها التطلع إلى اللانهائي L’infini الذي لا يختزل في غيره ولا يمكن أن تحتويه أي كلية لاهوتية أو تاريخية.
2- التفكير في الأنا من خلال جسد الآخر:
يبحث ليفناس في مقاله المراوغة عن طريق جديد يسمح للذات الإنسانية من الخروج من غل الوجود الزائف واختراق السلسلة الأكثر صلابة وهو هنا لا يقول شيئا جديدا بخصوص هذا الطريق بل يكتفي بأخذ مسافة نقدية مع أحلام الشاعر ورغبة الرومانسي التي تصطدم مع واقع المجتمع وتحفظات تقاليده. إن هذا الطريق الجديد الذي يسلكه ليفناس لا يحملنا خارج العالم بل يقحمنا في حضن الوجود أي وجودنا الآخر أو آخر وجودنا Autrement qu’être.
تساعدنا الفنومنولوجيا على اكتشاف الكيفية التي نمر بها في حياة كل يوم إلى الوجود الذي نحن وهي انجاز حالة من الانفصال Séparation كحدث حقيقي للميلاد وحتى يحافظ هذا الميلاد على مبادأته لابد أن تدركه الذات في اللحظة التي أنتجها فيها أو عاشته فيه ويسمى ليفناس هذه اللحظة بحدث الحرية وهي لحظة تفك فيها الذات ارتباطها بالوجود الزائف وتصبح اثنين واحدة في مواجهة أخرى أي أنا مناظر للآخر. أما الإنسان العامي فهو خاضع لسلسلة الوجود المكبلة مستسلم لمشاعر الضياع والكسل والكسل Paresse هو رفض البدء والعزوف عن الاستئناف، انه تردد أمام قدوم الوجود والكف عن استقدامه أو تعب من المستقبل ورضا بالحاضر وهذا التعب والكسل والملل هي من الأمور التي تساعد على إنشاء المستقبل بالنسبة للذات وتبين لها أنها ليست مجرد صفحة تعكس حقيقة الوجود وأن وجودها بيدها وليس مجرد قدر أما البدء فليس فرصة لولادة ثانية بل هو حدث ولادة أصلية ولحظة حرة وممتعة تدشن فترة جديدة تنطلق فيها الذات نحو الاعتناء بذاتها وذلك باشتغالها بحراسة ذاتها بذاتها من أجل تحصينها من الخلاء الذي يملئ الأمكنة والضجيج الذي يدوى في الساحات قصد حمايتها من الإحساس باللاحماية Insécurité.
يسمي ليفناس هذه التجربة المأساوية التي يحس فيها الإنسان أنه تحت رحمة ضربات القدر بتجربة الوجود غير الشخصي أو الوجود العام حيث لا يوجد أي صوت يمكن أن يسمع ولا أية صورة يمكن أن ترى وكأن الذات موجودة في الليل ولا تدري ماذا سيحصل لها فهي لا ترى شيئا ولا تستطيع أن تحرس نفسها بل هذا هو الذي يحرس انه الوجود المسلوب من روح الأشخاص.
من هذا المنطلق يصعب على الأنا أن تلمس بأصابعها العمق الغامض للوجود الذي يسمح بظهور الأشياء في الليل طالما أن الوعي مخترق من قبل هذا الضجيج المتصاعد من الساحات العامة ومرتعب من صمت الفضاءات اللامتناهية أين يصعب عليه أن يميز بين الأشياء والأشخاص.
الانفصال لا يعني الانطواء على الذات بل تأكيد لاستحالة العودة إلى القوقعة والشروع في الاحتكاك بالهذا وتفكيك الشعور بالخطر من لقاء الآخر. لحظة الولادة هي منعطف بالنسبة للذات وهي معانقة الوعي للوضوح وانقشاع الظلمة وهي تحصل في الزمن الذي ينبعث فيه الضوء وتشعل الشمعة وتشرق الشمس وتتلاشى وضعية بائسة ويدرك أثناءه المرء آخر الدرب…إننا نرى ديمومة الأشياء ومهجة الألفاظ ورائحة العطر ولحن الآلة ونصل إلى الحل النهائي أين يأخذ العالم صورة وتختفي مجهولية الوجود ويقترن الانفصال في الحياة بالشعور بالغبطة كسعادة و”الغبطة وسيلة حياة مثلما كانت الريشة وسيلة كتابة” وهي لا تدرك بالعودة إلى الذات وعندما يفهم المرء ما يحصل له بالإحساس بالهوية عن طريق انخراط الجسد في عالم الحياة لأن “الجسد ليس ذلك الدخيل الأبدي” الذي يحطم وثبة الفكر الحرة ويعيده إلى شروطه الأرضية كالقبر الذي ينتظره بل هو الأقرب إلي الذات من باقي أشياء العالم والأكثر ألفة والذي يتحكم في مزاجنا ونشاطنا وحياتنا النفسية،أليس الجسد هو أساس الإحساس بالهوية “ألا نثبت ذواتنا في هذه الحرارة الفريدة التي تنبثق من جسدنا قبل تفتح الأنا الذي سيدعى التميز عن الجسد؟”[2]
الحياة هي الدلالة الخاصة بالغبطة التي تنتمي إلى مجال الإحساس والجسد وهي ليست انفصالا بالمقارنة مع الكلية بل مصدر الهام ينادي بالتعالي في الداخلية، يقول ليفناس في هذا السياق:”كل غبطة بهذا المعنى هي تغذية،أما الجوع فهو الحاجة والحرمان بامتياز.إن الحياة في… بهذا المعنى ليست مجرد الوعي بما يشغل الحياة.هذه المضامين تعاش:إنها تغذي الحياة.إن المرء يحيا حياته”[3]
يحدث ليفناس منعطفا فكريا يتجاوز به منعطف الحداثة الذي أحدثه ديكارت لأنه عندما صرح:أنا شيء يفكر فانه ربط الوجود بالتفكير ولكنه فصل الذات عن الواقع المعاش وعن الحياة اليومية لكن ما يثير الإعجاب في الكوجيتو الديكارتي هو لفظ شيء وآيته في ذلك أن الشيء يقطن مكانا ما وله مأوى والوعي بوصفه شيء مفكر لا يخرج عن هذا الوضع فهو شيء متحيز،إن كل من يفكر يرتكز في تجربة تفكيره دائما على قاعدة يجمع نفسه حولها ويصبح سيدا على ما يفكر فيه وهذه القاعدة هي الجسد بوصفه حدث الوعي وحدثان الوجود. على هذا النحو يجري الجسد انقلابا في علاقة الإنسان بالواقع وفي عالم ذات البين Intersubjectivité طالما أن الوعي يكون عالم الذات عن طريق الجسد دون أن يقوم بتجريده أو يغادره يقول ليفناس في هذا الصدد:” يبدو الجسد دائما وأبدا من أجل أن يكون أكثر من كومة من المادة،إذ يمكن له أن يكون أكثر كثيرا واقل قليلا من مجموعة أجزائه…الوجه والعينين بوصفها مرايا الروح هي أعضاء التعبير بامتياز. لكن روحانية الجسد لا تقطن قدرته على التعبير عن الداخل.الجسد لا يعبر عن الحدث انه هو نفسه هذا الحدث”[4].
الذات ليست خارج العالم بل متجذرة فيه عن طريق الجسد،إنها في البيت حيث مربض الجسد ومأواه والمأوى ليست القوقعة والعزلة ونهاية الحياة الإنسانية وانغلاقها بل شرطها الضروري وبدايتها،ألم يأتي الأنا إلى العالم داخل البيت وبدأ انطلاقته نحو الوجود من عتبته؟
إن المأوى من حيث هو شقة ينتمي إلى عالم الأشياء ولكنه من حيث هو بيت الإنسان يجعل العالم الحميمي الذاتي ممكنا،انه ليس مكان الوحدة والعزلة بل مجال لممارسة حق الضيافة والانتظار والاستقبال لجميع زائريه دون تحفظات،انه وجود الجسد وجسد الوجود ومكان لقاء الأنثى وتحول الأنثى إلى وجود بالنسبة للذكر،بعبارة أخرى لم يعد الوجود الأنثوي داخل البيت آخر الوجود أو الوجود الآخر بل يصبح وجود الأنثى هو الشرط الضروري لذكورة الوجود إقبالا وانفتاحا.
3- التفكير في الأنا من خلال الوجه :
“الوجه هو الهوية عينها للكائن”[5]
تدور فلسفة ليفناس حول مقولة الآخر كفكرة مركزية تعطي للوجود معنى والآخر يتجلى من خلال مقولة الوجه الذي يمثل مرآة عاكسة لشخصية الأنا وكينونته ينبغي على الآخر أن يحترمها ويعترف بمنزلتها من تأسيس علاقة ذات البين ترتكز على فكرة اللاتناهي من جهة مناظرة الأنا للآخر وتبادلهما المسؤولية من أجل المحافظة على الحياة على الأرض. وتلعب اللغة دورا أساسيا في العلاقة بين الأنا والآخر فهي تجعل العلاقة بين المتحاورين ممكنة وتسمح بتبادل المعارف والمعلومات بينهم وتحقق التواصل بين جميع الفرقاء لأنه حتى في حالة اندلاع النزاع والصراع بين مجموعة من الأطراف فان اللغة تظل في قلب الأحداث وتبقى الوسيلة الوحيدة لإجراء مفاوضات من أجل الوصول إلى تسويات ظرفية واتفاقات ترضي الجميع وتبلور السلم الاجتماعية، إذ يقول ليفناس في هذا الشأن:” يمكن أن نسمي حوارا هذه المقابلة التي يدخل عبرها المتحاورين إلى فكر الآخرين حيث يعطون للحوار قيمة.ويمكن أن نسمي اجتماعية وحدة أشكال الوعي المتعددة الداخلة في عين الفكر”[6]. هذا الحوار كفيل بإيقاف النزاع وتحييد العنف وإرجاع الناس إلى طبيعتهم العاقلة وتمكينهم من السيطرة على أهوائهم وتثقيف طبيعتهم العدوانية وتكوين الحقيقة عن طريق الإجماع Unanimité ويربط ليفناس هذا الحوار بالمحايثة حيث تظل الذات ملتصقة بذاتها ومنهمكة في الاعتناء بوجودها ويربط بين إثبات الذات والانفتاح على الآخر واحترامه أين يحدد المطابق le même الآخر L’autre ويحدد الآخر بدوره المطابق لكن ليفناس ينبهنا إلى أن وراء كل اقتناع convaincre توجد غلبةvaincre وهيمنة وقهر وبالتالي يبرز خطر العنف مجددا في علاقات ذات البين وبالتالي ثمة تخوف من اعتبار الآخر كمجرد شيء وموضوع للرغبة وأداة للاستعمال ومن أن ينظر إليه الأنا على أنه ضدا وعدوا ومزاحما يجب إزاحته والقضاء عليه.يتجاوز فلاسفة الحوار هذه المعضلة بتأكيدهم أن لحن الأصوات وشذى المعاني المتبادلة وليس دلالة الكلمات هي التي تصنع هذه العلاقة المتكافئة وأن شكل العلاقة التي تنجزها اللغة هي علاقة أنا – أنت وليس شكل العلاقة أنا-هو إذ عندما يتكلم كائنان بشريان ويستعمل ملاهما لغة التخاطب فان الأنا يتوجه إلى الآخر ويقول له أنت قبل أن يبدأ في الحديث عن نفسه وفي هذا التوجه نحو الآخر بالحديث خروج عن النرجسية الفارغة واعتراف بالآخر واحترام له كطرف حقيقي في الحديث،يقول ليفناس حول هذا الموضوع:” أن نتحدث مع الآخر هو في نفس الوقت أن نعرف الآخر ونجعله يعرفنا،فالآخر هنا ليس فقط معروفا بل وأيضا مرحبا به، ليس فقط مسمى بل وأيضا مدعو من طرفنا.أنا لا أفكر في كل ماهو بالنسبة إلي فقط بل وأيضا وفي الآن نفسه أفكر في كل ماهو بالنسبة إليه”.[7]
العلاقة الشرعية بين الأنا والآخر هي إذن مقابلة Rencontre وتقتضي هذه المقابلة المحافظة على المسافة والبقاء في حالة الانفصال بين الطرفين لأنه بمجرد أن أتعلق بما يقوله عني أو يتعلق هو بما أقوله عنه فان الاتصال يتحول إلى ذوبان وانمحاء والمقابلة تتحول إلى علاقة تطابق بين الأنا والآخر وبالتالي لم يعد هناك لا أنا ولا آخر بل مجرد شيء واحد هو المثيل Même أو المطابق Identique . إن المقابلة تجرى عندما يتم احترام المسافة التي تفصل بين الطرفين وتسمح لهما بالتواجد معا والعيش سويا والمسافة الضرورية ليست مسافة مكانية بل مسافة زمنية وثقافية وتاريخية وهي غير قابلة للتذليل والاجتياز لأنها هي التي تسمح للغيرية للوجود عند الطرفين. نعثر على خاصيات الحوار المتعالي في علاقة الترابط بين الأنا والأنت لكونها علاقة اتيقية متعادلة وهذه هي صورة الحوار المتعالي أو التعالي بالحوار من أجل إتاحة الفرصة للأنا لكي يقابل الآخر وللآخر من أجل مقابلة الأنا دون أحكام مسقطة ودون برمجة مسبقة. بيد أنه ثمة تخوف من أن علاقة الترابط يمكن أن تمحي الغيرية وتفسخ الخاصية التقابلية للطرفين لأن”المقابلة الحقيقية تحدث بين كائنات لا تعرف بعضها البعض”،لإزالة هذا التخوف يقترح ليفناس أن تكون العلاقة بين ذات البين علاقة تناظر وتقابل أين يكون كل واحد في خدمة الآخر وليس علاقة تنازع أو تطابق لأن التنازع بل وحتى التطابق يؤدي إلى انتفاء أحد الطرفين والقضاء بالتالي على العلاقة وتنعدم شروط المقبلة ووضعية الحوار.
إن الحوار يتضمن كلاما أرسله إلى الآخر وردا من الآخر يرسله إلى أنه يفترض الانخراط في لعبة تبادل للرسائل بين الباث والمتقبل وهو يوقظ عندنا روح المسؤولية لأنه ينبغي أن يجب كلانا على ماهو مرسل إليه من نداء ولا أحد بإمكانه أن يعوضنا في ذلك لأن الكلام موجه إلينا وليس لأحد آخر.إن الحوار يخرج المرء من وحدته الصماء الفارغة أي من أنانته ويقحمه ضمن الكلية التي هي نتيجة إجماع المتحاورين على الحقيقة وهي ليست تطابق بين العقل والواقع بل رفع المتحاورين للغطاء عن أسرار الواقع لرؤية وجهه الحقيقي طالما أن العلاقة أنا-أنت هي مكان حدوث الاتيقا وطالما أن الأنا أثناء مقابلتها بالآخر تأخذ بعين الاعتبار الكل أو تطمح إلى أن تتكلم باسم الكل ولا تكتفي بالكلام عن الفردي الجزئي.
يتراوح وجود الذات بين الاستقالة والارتماء في الوهم بالانطواء في النوم من أجل الحلم بعالم آخر أفضل ولكن ليفناس يرفض هذا الحل ويعتبره جزءا من شجاعة الانتحار أين تسقط الذات بين حبائل الهيمنة خوفا من الموت أو رعبا من تجربة الهناك ويبحث هذا الفيلسوف عن النسيج الذي يشد الذات إلى الوجود في قلب المحايثة وفي اليومي أين تتواجد عبر الصور وعن طريق فعل السكن وتشعر بالغبطة حين ينفتح أفق الجسد على جدة أصيلة. يقول في هذا السياق:” إن اختراق قوقعة العزلة هو وحده الذي يسمح لنا بالنفاذ إلى آخر الوجود بطريقة مغايرة عنه”.[8]
علاوة على ذلك يؤكد ليفناس على الدور الاتيقي للوجه في العلاقة التناظرية بين الذات والغير لأنه عندما تتوجه الذات نحو ذات أخرى فإنها تحاول على التو معرفة من تكون وتفهم ماذا تريد وتقول لها ما تنتظره منها ولن يتسنى لها تحقيق هذه المقابلة إلا بمنحها وجهها وبالتعرف على وجه الذات الأخرى،في هذه العلاقة أي أثناء المقابلة بين شخصين نحن لسنا فقط أمام فهم ومعرفة بل أمام وجه لوجه face à face و”الوجه يحدثني ومن هنا يستدعيني إلى علاقة دون قياس مشترك مع قدرة تمتحن”[9]. لكن تبادل الكلام هو أكثر من تبادل المعارف لأن هذا الشخص الذي يكلمني لا أفكر فيه كما هو بل أتحدث إليه فهو مشارك لي في علاقة تجعلني حاضرا دائما وأبدا بالنسبة إليه وتجعله حاضرا دائما بالنسبة إلي ومن هنا ينشأ الاحترام والاعتراف المتبادل. لقد تحدثت إليه وتحدث هو إلي وبالتالي أهمل الوجود الجزئي الذي يخصه وانخرط في الكلي. عندئذ يكون الإنسان هو الكائن الوحيد الذي لا يستطيع عندما يلتقي بغيره ألا يعبر له عن سعادته بهذا اللقاء أو سخطه وامتعاضه الشديد.يتميز اللقاء عن المعرفة بكونه يوجه إلى الآخر تحية وسلاما ويترجم موقفا إنسانيا وليس مجرد لقاء تعارف لأنه عندما أتحدث مع غيري فان الأمر لا يتعلق بتبادل الكلام معه بل باستدعائه واستضافته. هنا ليس الآخر هو الذي يفرض عليه الأنا هيمنته بل ذاك الذي يحافظ على نفسه ويتماسك في خارجيته . انه الشخص الذي يتحدث إليه الأنا ويوجد خارجه والذي يستمد مرجعيته من ذاته وليس هو فقط موضوع الحديث أو ذاك المشار إليه بالهو.
يتدخل الوجه بطريقة حاسمة في انفتاح الانية على الغيرية وفي تحول الغيرية إلى شرط إمكان إثبات الانية لأن الآخر عبر وجهه يظهر للأنا في خارجيته وغرابته وتميزه،” انه من خلال الوجه يتجلى الآخر للأنا” بل إن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يمتلك وجه ويتميز عن الآخرين بوجهه بينما الأشياء والكائنات الأخرى ليس لها وجه ولا تتميز عن بعضها البعض بهذه الخاصية لأن لها نفس الملامح والصفات وبالتالي فالوجه إنساني أو لا يكون.
إن تجلي وجه الآخر للأنا يتم عبر النظرة والنظرة ليست مجرد الرؤية الحسية بل التمعن والتحديق والإبصار لأنه كما يقول هيدجر:”ليس المهم أن نرى بل الأهم أن نبصر في ما نراه” والوجه ليس مجرد الجبهة والأنف والفم والعينين والوجنتين بل هو بصمة الشخصية ورمزها العلني وأكثر الملامح مجلبة للانتباه وكما يقول ليفناس:” دلالة الوجه تكمن في البعد الجديد الذي يفتحه في إدراك الوجود”[10]، والمقصود أننا نحن موضوع الإدراك بحكم الاختلافات في الوجه والتي تعطينا كيفيات تميزنا. يتميز الوجه بمجموعة من الخصائص مثل النقاء الأصلي و المقاومة اللامتناهية والخارجية الجذرية، فالتجلي كوجه ليس انكشافا لعالم باطني بل خارجية الوجه هي هنا ما لا يمكن إخفائه والاضطلاع به وتحملها،إنها من الآن فصاعدا تقدم نحو اللانهائي والبرانية الجذرية،فالآخر ليس له أن يعبر ويظهر إلا عن طريق وجهه والوجه هو بالتحديد هذا الظهور الاستثنائي للذات بذاتها. تجلي وجه الأنا للآخر هو زيارة الآخر عن طريق وجهه المختلف وبالتالي يفتح الوجه نوافذ الذات للزائرين ويسمح لها بزيارة الآخرين عبر وجوههم وهكذا يدخل الوجه إلى عالمنا عبر حقل غريب والإنسان الغريب يأتي إلينا من الخارج منفصلا عبر وجهه المتجلي ويعترف ليفناس أن:”دلالة الوجه في تجرده هو في معناه اللغوي خارق للعادة وخارج كل نظام وخارج كل عادة”[11].
إن المحاور يطرح نفسه في مواجهة الآخر دون أن تعني المواجهة صداقة وحسن ضيافة ودون أن تكون النظرة المصوبة نحو الوجه هي نظرة معرفة وإدراك فحسب بل قد تكون نظرة حقد وازدراء أو نظرة حب واحترام، وبالتالي ينبغي أن نتوقف عن معاملة الآخر كموضوع حتى نستطيع أن نراه على حقيقته ونقابله مقابلة حقيقية كما يقول ليفناس:”إن أحسن طريقة لمقابلة غيرنا لا تتطلب ملاحظة لون عينيه” لأن التفرج على وجه الآخر يشترط التحلي بالاتيقا والتسلح بالبعض من الاحتشام والحياء ولأننا عندما نرى لون عيني الآخر فإننا لا نكون في علاقة اجتماعية مع آخرنا بل في علاقة عاطفية شعورية. في الواقع يوجد أسلوبان من أجل اعتبار وجه الآخر:
– العلاقة مع الوجه يحددها الإدراك المعرفي أين يقع الهيمنة على الوجه عن طريق الرؤية مثل الهيمنة على أي موضوع آخر.
– العلاقة مع الوجه هي علاقة اتيقية تسمح بإنقاذ خارجيته الجذرية أين يوجد الآخر برمته قبالة الذات دون موانع أو تحفظات.
الدخول الاتيقي في الآخر يتوقف على حركة فتح الأبواب والنوافذ الخاصة بالذات من أجل استضافة وحسن استقبال الآخر والوجه من خلال استقامته وصفائه ومقاومته هو ميدان هذا الانفتاح وأفقه واستقامته لا تعني صراحة الآخر وإخلاصه بل تتحقق في الحركة التي يظهر بها الوجه قبالة الآخر دون تردد. من جهة ثانية يرفض الوجه كل تملك ويند عن كل موضعة ويتنطع عن كل اختزال ويقاوم الوحدة في القراءة والتنميط في الصورة وصفاؤه ونقاؤه وبراءة جلده وعريه كلها شهادات على فرادته وتميزه كما أن المقاومة التي ينخرط فيها لا يستمدها من سلطة خارجية يخضع لها بل يأخذها من تحرره من كل نظرة اختزالية طالما أن الوجه هو ما لا يمكن تلخيصه ووصفه وصفا شافيا،يمكن أن أضرب الوجه وأشوهه ولكن لا أستطيع إخضاعه واستعباده ويوجد حل جذري لذلك وهو أن أسحقه وأقتله لكن إذا كان الموت ممكنا فان القتل مستحيلا أخلاقيا،انه ليس أبدا نصرا بل إرادة يائسة تختزل الآخر الذي يتحدى رغبتنا في شهوة القتل،هذا الآخر هو الوجود الوحيد الذي نشتهي قتله عندما تتعارض القوة التي تضربه على وجهه مع مقاومته وامتناعه عن الموت الذي يمثل النظرة نفسها نحو الوجه. هنا يتعالى الآخر على وجود القوة الموجهة ضده نحو لامتناهي الوجه وهذا اللامتناهي هو الذي يفتت القوة الغاشمة المسلطة عليه بمقاومته اللامتناهية للقتل.
فلسفة ليفناس هي فلسفة اللامتناهي وهذا الأخير لا نحصل عليه بعد امتحان المعرفة التي تحاول فهم الواقع وليس مجرد نقيض للمتناهي بل هو الأفق الذي يتعالى على كل معرفة وهو كذلك رغبة في المطلق وليس مجرد حاجة تنبع من الذات. تتعلق رغبة الإنسان بلامتناهي نابع من وجود لا ينقصه شيء ولذلك يظهر الآخر في هذه العلاقة كشيء مرغوب فيه.
فكرة اللامتناهي تتعلق بتجربة الغيرية وبالعلاقة مع الآخر بوصفها علاقة اجتماعية تتمثل في الاصطدام مع وجود خارجي بإطلاق،لاتناهي هذا الوجود لا يمكن أن يحتوى الآخر ويضمن ويكون هذه الخارجية التي تظهر في المقاومة المطلقة التي يبديها الوجه ضد كل موضعة.
يقول في هذا السياق ليفناس:” من المؤكد أن الآخر يمنح نفسه لكل قدراتي ويقع تحت حيلي وجرائمي ويقاوم بكل قواه ومصادره غير المتوقعة حريته الخاصة… توجد خارجيته الحقيقية في نظرته التي تمنعني عن كل غزو. تتكون هنا علاقة مع مقاومة كبيرة مع الآخر المطلق، مع المقاومة الاتيقية…”[12]
إن الوجه الذي يستدعيني ويوجهني ويدعوني إلى تحمل مسؤولية لا متناهية تجاه الآخر هو وجه عار ومجرد وملامحه مكشوفة ولا يخفي أي سر ورائه فهو موجود خارج عالم الظواهر وكل ما فيه قد ظهر منه،يضع الوجه الذات في علاقة تناظر موازية للآخر وهذا الآخر ليس مجرد مرآة عاكسة ترى فيها الذات ذاتها بل هو كذلك ثقب في عالم الذات يترك فيها بصماته وآثاره عندما يمر من أمامها وتنفتح عليه كما يقول ليفناس:”إن الوجه ليلمع داخل أثر الآخر”[13]
في علاقة المرور ينبغي أن يتخلى الآخر عن الرغبة في رؤية ومعرفة الذات،يجب أن يرضى فقط بوضع المرور الذي هو رفض لكل ذوبان في المطابق والمثيل والنظير،انه يؤدي زيارة ويشرع في القدوم فيعطل المحايثة دون أن يصمد في التعالي ودون أن يثبت في آفاق العالم.
الوجه هو داخل أثر الغياب المرتبط بالآخر وليس البتة مقبوضا عليه،أما الأثر فهو يلعب دور العلامة على مرور الآخر قبالة الذات ويتمسك به الوجه ليؤكد مروره.
الآخر الذي مر والذي ظل غائبا بإطلاق وغير قابل للإدراك يشهد على قوته ويعبث بنظام وجود الأنا وهو مطالب بالانسحاب حتى لا يتحول إلى رهينة للأنا،يذكرنا الأثر أنه أثناء هذا المرور يتشكل شيئا ما عند مقابلة الآخر،لقد مر شيء ما والجوهري في مغامرة مروره ليس الوصول إلى المعرفة والتذكر بل الحصول على التعرف أثناء المقابلة. إن الأثر الذي يظهر في الوجه لحظة مرور الآخر يفتح الأنا على المجهول ويمكنه من الوصول إلى جدة غير متوقعة.
4- مستقبل الأنا هو مجاورة الآخر:
“كل مقابلة تبدأ ببركة متضمنة في كلمة صباح الخير”[14]
الإنسان مدعو على طول وجوده في العالم الذي قذف فيه إلى وضع إمكانياته قيد التنفيذ وذلك بالتفكير في الزمن لا كانحطاط للديمومة بل كعلاقة مع الآخر المطلق الذي يظل غير مفهوم.
يبحث ليفناس عن الوسيلة التي يستعملها الآخر ليقاوم بها العدم وينتصر في وجوده دون أن يهمل مأساة موته الخاص وحزنه من موت الآخر. إن الوجود المائت هو في نفس الوقت وجود من أجل الموت ولكنه أيضا وجود ضد الموت. إن الموت يعطي معنى للوقت المتبقي للحياة لكي يكون انهماما بالوجود، إن المستقبل المهين عليه السأم من الموت لن يصبح مستقبلي لوحدي بل المستقبل الذي يشاركني فيه الآخر.
صحيح أن الموت يهدد الذات في وجودها الخاص ولكنها تمتلك الوقت الكافي لإثبات وجودها بالنسبة إلى الآخر وللعثور على المعنى على الرغم من الموت،إن الذات مدعوة لكي تعترض على عنف الموت بالطيبة حيث ينبغي أن يستفيد المرء من خير الآخرين مادام مزال على قيد الحياة. يثمن ليفناس مبدأ الأمل الذي صاغه أرنست بلوخ والذي يقوم على القول بأن المستقبل الأصيل هو الذي يجعل الموت أمرا مفهوما ويرتبط بالحب الشديد الذي يعوض الموت.
إن ما نسميه حب هو الفعل الذي يتأثر بموت الآخر أكثر من الذات ،انه نتيجة حب الآخر بقوة وليس الضيق من الموت الذي ينتظر الذات. الموت هو الخطر الذي يقترب مني كالسر انه إقبالي على الآخر ومرجعيتي بالنسبة إلى الموت “أننا نلتقي بالموت في وجه الآخر”[15]
من جهة أخرى يعتبر ليفناس الأنوثة هي الآخر بالنسبة إلى الذكورة ويطالب بإعطاء المرأة نفس الحقوق التي ظل يتمتع بها الرجل لوحده لأن المرأة عنده تحوز على نفس الخصائص التي توحدها من جهة كونها إنسان مع الرجل. لكن الأنوثة هي الغيرية الخاصة بالمرأة والتي لا يقدر الرجل على معرفتها حتى عن طريق الحب والزواج. إن الأنوثة ليست جسد يمكن إدراك حدوده تحت الضوء بل هي خاصية مختفية على الدوام وانطواء على الذات. علاقة الحب لا يمكن اختزالها في مقابلة بين شخصين مختلفين يطمحان إلى الانصهار في ذات واحدة عبر تقاسم لذة أبدية. الأنثى هي مستقبل مفتوح للرجل في هذا الزمن الممزق،إنها طريقة للانعطاء تطل على الوجود وعلى العدم كحرارة متدفقة،إنها هشاشة مطلقة ومعطوبة.
اللافت للنظر أن هذه الطريقة في أن تكون امرأة التقينا بها في شكل آخر هو المأوى،المرأة هي مأوى الرجل،كما ينبغي أن يشعر الرجل المرأة بأنوثتها حتى تتفطن إلى رجولته وذلك عن طريق مداعبتها وتمسيح شعرها،التمسح مغامرة ينكشف فيها ماهو متخفي وتتوجه نحو اللانهائي وهو العلاقة المحبذة التي ينبغي أن تنعم بها الأنثى ويقوم بها الرجل حتى يزهر جسدها ويلتهب فؤادها شوقا،انه حركة المحبوب أمام ضعف المحب والغبطة من علاقة الأنثى بالذكر ليست إرضاء الشهوات بل مواجهة المحب لغيرية الأنثى. إن الذات الرجولية غير قادرة على إمساك هويتها إلا بحصولها على حب من الأنثى والعكس بالعكس إذ يقول ليفناس:” الذات الرجولية لا تقدر على انجاز هويتها إلا باكتشاف غيريتها في الأنثى”.إن الشهوة هي انجذاب نحو اللانهائي حيث يجتمع الإحساس بالخارجية ويكون الجسد في علاقة مع من في العالم أين الكل وجود وليس وجود.
إن”وجه المحب لا يعبر عن السر الذي يدنسه الحب…فهو ما ينفك يعبر…”[16] الوجه يصبح صامتا بالقياس إلى السر المدنس،انه يقودنا نحو الخلاء ويشير إلى العذرية والبراءة الأصلية في حين يرمز العري إلى الإبراز والتجلي والإفصاح عن اللغز.المتحابون يريدون أن يكونوا وحدهم في العالم لكي يمارسوا الحب دون رقابة ودون ضغط ومستقبل الحب هو ولادة طفل لكن لكي يأتي الطفل لابد من أن يقابل الرجل الآخر من حيث هو أنثى. الطفل هو في نفس الوقت إمكانية من الأنا وإمكانية من الآخر،انه يتجاوز قدرة المحب والمحبوب على المستقبل.إن مستقبل العلاقة هو الآخر الطفل. الأبوة هي علاقة مع غيب يظل بأكمله آخر لأن الطفل لا يكون ابني إلا من جهة المولد أما بعد ذلك يصبح غريبا بالنسبة إلي،كما أن الابن ليس البتة ملكي ولا أثري مثلما تكون الأغنية أثرا للفنان فليس مقولات القدرة والمعرفة والملكية هي التي تحدد علاقة الأب بابنه بل تتبلور علاقة خارجية من خلال تجربة الخصوبة التي تسمح لكل واحد أن يكون نفسه ويوجد الآخر في نفس الوقت. هنا كل واحد هو آخر للآخر والوحدة لا ترتكز على الانتماء إلى نفس النوع بل متعالية على البيولوجيا وتتأسس على المحبة المتبادلة بين الأنا والآخر.
يقول ليفناس في هذا السياق:”إن العلاقة مع الآخر تتركني محل تساؤل،تستفزني،تفرغني من نفسي ولا تنفك تفزعني عندما تكتشف في منابعا جديدة دائما…”[17]إن السؤال الذي يطرح هنا هو التالي: من أين يأتي هذا الثراء السري الموجود في والذي أجهل وجوده والذي لولا مقابلتي مع الآخر ما كنت اكتشفته؟
هناك داخل علاقة الأنا بالآخر إدراك بالرؤية واحتكاك باللمس والتمسيح وهناك أيضا تخاطب باللغة والتواصل عن طريق الصورة. الصورة هي المهيمنة الآن في العلاقات ذات البين لكونها الطريقة المفضلة التي تمثل الأنا للآخر والتمسيح يتهدده التباس الحب واللذة والتراخي لذلك تبقى لنا اللغة وهي ليست لغة المعارف والعلوم بل لغة الحديث الشفوي والكلام اليومي المتداول.
اللغة تخدم حوار المحايثة أين يقع تبادل حجج لغاية إرساء سلم بين المتحاورين . يرسي الحوار المتبادل عدالة بين المتحاورين داخل علاقة الأنا- الأنت، فهو القول الذي يفتح الباب على الآخر ما وراء حاجز الكلمات من أجل رؤية الأشياء والتواصل مع الذوات للتعرف على حياتها الماضية ومشاريعها المستقبلية وهوياتهم التي تتشكل حولا بعد حول.
إن تجلي الوجه الذي يحبذ المناظرة يفتح الأنا على طريق آخر هو طريق الآخر وعوض أن يكتفي الآخر بالتكلم مع الأنا وإرضائه فانه يغرس فيه تخمين ويزرع فيه الشك ويتركه حائرا مترددا لكن من أين تأتي هذه الصدمة التي تحصل لي عندما أقع ضحية نظرة الآخر؟
إن هوية الأنا هي دون غطاء القول ودون طريقة في أن يوجد بشكل معتاد وتعرض نفسها للآخر كماهي دون تكلف.إن الذات تقترب عن طريق التبادل التي تسمح به اللغة في القول من الآتي بأن تعبر له عن نفسها لأن كما يقول ليفناس:” الواحد يعرض نفسه على الآخر مثل الجلد الذي يعرض نفسه للذي يجرحه.” الآخر يكتشف أن الأنا الذي يتكلم ليس أبدا موضوعا منكشفا قبل القول بل يقع التعرف عليه بعد أن تخلى عن جميع دفاعاته ويقع اخراجه من مخبئه. مهما كان مضمون التبادل وديا أو عشقيا فان الأنا لا يستطيع الهروب من هذا الوضع العاري وبعض الكلمات القوية كفيلة بأن تسلط الضوء على هذا الاقتلاع من جذور الذات الذي يهددها في تعارض تام مع مجهودها في الوجود وحاجتها إلى الإثبات التي تهيمن على وجودها اليومي. لهذا السبب تتردد الذات في فتح بابها وقبول الآخر ببساطة بل إن الآخر يدخل إلى حياة الذات متسللا كالسارق ويدعوها إلى تحمل مسؤولية لا تريدها ولم تبحث عنها لأنها لا تختار الآخر الذي تلتقي به بل كان مصدر ما حصل لها من إزعاج وفوضى. منذ أن تبدأ الذات في الحديث مع أحدهم فإنها تعرض نفسها عليه فعلا فلا تكون الأنا الذي قرر معرفة السبب في حرية كاملة إذ ينبغي أن تجيبه حتى قبل أن يطلب منها الآخر ذلك وبالتالي لا أحد يستطيع أن يحرر الذات مما سيأتي إليها بالرغم عنها من الخارج. إن اللغة كقول تحدث انقلابا آخر داخل الذات وعندما يتحدث موجودان فان التبادل يبدأ في لحظة معينة وينطرح بطريقة مستقيمة ثم يتوقف. إن زمن التبادل يتعلق بالحاضر من أجل المستقبل أين ينكشف المعنى تدريجيا والقول يشهد على الزمن بشكل مغاير ويمزق الزمن الخطي للقائل. إن قدرتي على التحديد الذاتي تتأثر بانفتاحي على الآخر واضطربت نتيجة التبعية تجاه الآخر.مهما كان محاوري فأنا الذي اخترته فجأة،إذ منذ أن أبدأ في الحديث مع أحدهم فاني أعرض نفسي له فلا أكون الأنا الذي قرر معرفة السبب في حرية كاملة،إذ ينبغي علي أن أجيب حتى قبل أن يطلب مني لماذا ؟، لا أحد يستطيع أن يحررني مما سيأتي إلي بالرغم عني من الخارج. إن اللغة كقول تحدث انقلابا آخر داخل الذات. عندما يتحدث موجودان فان التبادل يبدأ في لحظة معينة وينطرح بطريقة مستقيمة ثم يتوقف. زمن التبادل يتعلق بالحاضر من أجل المستقبل أين ينكشف المعنى تدريجيا، إذ يشهد القول على الزمن بشكل مغاير عندما يمزق الإيقاع الخطي للقائل.
أن نتحدث إلى أحدهم هو أن نفتح الباب الذي نحن منغلقون وراءه للانهماك بالوجود.انه لا أحد محروم من هذه المغامرة التي ينكشف معها بعض الضعف البشري. إن الذي يعزف عن الحديث للآخر يحرم نفسه من نجدة الكلمات ومن ثمار النقاش الذي يمكننا من التخلص من معتقداتنا البالية. التحدث إلى الأخر والتوجه نحو والتراسل معه هو الانعطاء له والوجود مع الآخر ومن أجله والمعاناة والتألم من وجوده فبالة الذات.إن الكلام ألم ومعاناة ومكابدة ويتطلب الصبر ويخضع الأنا تحت الامتحان خاصة وأن ” الأنا كانت في القول معطية للآخر دون تحفظ”
الأخذ باحتياجات الآخر والاعتناء به هو مجاورته من أجل معالجة أخطائه وإصلاح هفواته عن طريق الهبة والعطاء والبذل وهذا الفعل لن يكون له معنى إلا إذا كانت في شكل انتزاع من الذات بالرغم عن الذات ، وحدها الذات التي تأكل يمكن أن توجد من أجل الآخر أما الذات الجائعة فإنها لا توجد إلا من أجل قضاء حاجياته بل بالعكس إنها توجد من أجل أن تنتزع خبز الآخرين من الفم وهذا هو سلوكه العدواني تجاه الإنسانية المنغرسة فيها.لن تكون هناك دلالة للواحد منا للأخر إلا إذا كنا موجودين من لحم ودم. الإحساس بالآخر لا يمكن التسبب في العطوبية أو التعاطف مع مرض الآخر. الجرح بالنسبة إلى الآخر هو انتزاع الخبز من الفم الذي يحرم من الغبطة ويمنعها. لا يتعلق الأمر هنا بفائض في القيمة بل بإعطاء الآخر الخيرات المعروضة علين. إن الأنا حسب ليفناس وقع انتهاكه والاعتداء عليه من قبل الآخر في هذه المغامرة المأساوية أين تم لمس الأنا من قبل الآخر.أثناء هذا الاحتكاك يختبر الأنا المجاور الأصيل أو الحسي المباشر وهو الآخر المتجسد في وجوده اليومي. ومهما تعظم الاحتكاك الذي وقع انجازه فهو لن يبلغ أبدا لحظة الانصهار والوجه لوجه لم يختفي بل أخذ منعرجا مدهشا هو منعرج المجاورة. إن هذه العلاقة التجاورية التي تسمح بالعيش سويا ليست مجرد قياس للمسافة التي تفصل بين حدين بل هي الشرط الذي يجعل من الأخر مستقبل للأنا. أن نتقاسم مع الآخر نفس الأفكار والمبادئ ونتعاطى معه نفس العادات والتقاليد ونتعادل في التبادل للمنافع والسلع لا يعني أننا سنقترب منه ضرورة إذا لم نفتح له قلبنا ولم تنتابنا الحيرة من صفاء وجهه. إن الاقتراب ليس حالة نهائية ومحصلة وان المجاورة لا تعني التطابق مع الآخر بل تبقي على المسافة التي تفصل بينهما لأنه” أكثر ما أقترب من الآتي المهتم به أكثر ما أكون بعيدا عنه”.
غيرية الآخر اللامحتملة تقاوم الأنا إلى ما لانهاية وان ما يقرب الذات من الآخر ليست ما يجمعها به بل ما يجعلها تتحمله في غيريته وما يجعل الآخر يتحمل الذات على الرغم من خارجيتها عنه. ينبغي أن نتحمل جمعينا مسؤولية تواجدنا معا وعيشنا سويا طالما”أن الاجتماع معه يبدأ من واجبي تجاهه وواجبه تجاهي”. إن القادم الغريب غير المعروف هو الذي يهم الذات قبل كل ادعاء وقبل كل التزام فهو الذي ينظمها دون أن تكون تعرفه. القادم هو الذي يهم الذات ليس لأنه ينتمي إلى نفس النوع الذي تنتمي إليه بل لأنه تحديدا آخر. النحن ليس جمع الأنا ولا الأنا في الجمع بل اللفظ الأنا يعني هاأنذا أو لبيك. الأنا يكون هويته من خلال الحياة في السكن والشغل والتملك والمعرفة وعلاقات الحب،وجوده كمواطن والتزاماته تجاه الثقافة ومدى احترامه للقيم. ان العلاقة بالآخر تظهر في شكل الحياة مع وباحترام العيش سويا حسب ما يفترضه القانون. إن الأنا مبتلع من طرف الوجود وفي خدمة النسق وهوية الأنا لا تقول كل شيء عن ذاتيتها فهي متكتمة في وجودها ولا تفصح بسهولة عن سرها والحياة الداخلية للهوية ليست فقط اهتمامها بوجودها بل حائرة أمام وجود الآخر.
إذا كان الأنا هو مصدر قراراته فان عين الذات غيرا لا يمكن أن مثل الأنا بل انفعالية مطلقة.القائل هو عرض للآخر،انه ابن الأب المجهول مثل المخلوق الملحد الذي يجهل دون شك خالقه، والخلق من لاشيء أي اللاشيء ليس العدم بل الخير ما تحت الوجود.
خاتمة:
” إن الحياة الحق مفقودة ولكن نحن موجدون في العالم”[18]
يبين ليفناس في مشروعه الفلسفي أن السياسة تتناقض مع الأخلاق مثلما تتناقض الفلسفة مع التفاهة إذ لاشيء خارج الحرب لأن الحرب لا تظهر الخارجية ولا تحيل إلى الآخر كآخر بل تحطم هوية المطابق.إن هذا المشروع يظهر كدفاع على الذاتية ولكنه يدركها في مستوى احتجاجها الأناني ضد الكلية ولا يحاول التعرف عليها في قلقها من الموت بل يدركها متأسسة على فكرة اللانهائي. إن ليفناس يدرك الذاتية بالتمييز بين فكرة الكلية وفكرة اللامتناهي والإقرار بأولوية هذه الفكرة على البقية، هنا سيحدثنا ليفناس كيف يتم إنتاج اللامتناهي من علاقة التجاور بين الأنا والآخر؟ لكن كيف يجذب الجزئي الحقل الذي يلعب فيه إنتاج اللانهائي الذي يظهر الذاتية كاستقبال للآخر وحسن ضيافة؟
انه يستهلك فكرة اللانهائي ويتوجه نحو الخارجية الجذرية، إذ تطمح رغبة الأنا نحو شيء آخر أي نحو الآخر بإطلاق وغيرية الرغبة تتناقض مع هوية تفكير الذات وقدرتها على تملك ذاتها. يظل الأنا محتويا لذاته حتى عند التقائه بالآخر وتغيره بهذا الالتقاء، إن الانفصال الجذري بين الأنا والآخر يغير ممكن لأنه من المستحيل على الأنا أن يتموضع خارج تضايفه مع الآخر،كما أن الغيرية غير ممكنة إلا إذا كان الآخر آخر بحق. إن الأنا ليس موجودا دائما مع نفسه بل يحاول أن يجدد هويته عند كل نقطة يلتقي فيها بالأغيار.إن الآخر بإطلاق هو آخر الذات ولا يمثل عددا بالنسبة لي والجمعانية التي تجعلني أقول أنت ونحن ليست مجرد جمع للأنا لأن الأنا والأنت ليس هنا أفراد لمفهوم مشترك. إن غياب عنصر هو الذي يجعل الآخر آخرا والغريب هو الحر من كل تقييد وسيطرة وهو الذي يحدث اضطرابا في الذات عند كل مقابلة.
ينتهي ليفناس إلى نتيجة مذهلة تقطع مع الفكر الحديث برمته وهي التالية: الأنا لا ينتمي إلى نوع وليس له مع الآخر مفهوم مشترك بل نحن أنفسنا الأنا والآخر.،ماذا تعني هذه النتيجة؟
عين الذات ليس الأنا الذي يغسل يديه من الأخطاء والمآسي التي اقترفها في حق الآخر فقط بل هو الذي يعترف بوجود ما ليس بالنسبة إليه.إن عين الذات موجودة من أجل الآخر دون تحفظ ومنسحبة من ذاتها دائما وأبدا بالرغم عنها لأن آخر يجب ضرورة أن توجده داخلها وبين طياتها وإلا لما كانت ذات. إن هوية الأنا ليست ذائبة ومتحللة في الآخر بل تتفكك وتصير عند لقائها أي آخر من أجل أن يعاد بناؤها بشكل آخر. تتأسس عين الذات بواسطة الآخر وتوجد من أجل الآخر وكما يقول ليفناس:”إني أنا نفسي بواسطة الآخر ومن أجل الآخر”،”إن لفظ الأنا يعني هاأنذا بالإجابة عن الكل للكل”[19] والكل للكل تعني أن كل واحد له وجه يلتقي به الكل دون أقنعة وينظر إليهم كماهو في حد ذاته ووحدة إدراك الذات للعالم ليست متأتية من النظرة التي تطال الكل بل من أن الكل هو من شأن الذات.
في نهاية المطاف يغادر ليفناس الكوجيتو الديكارتي الغازي للطبيعة ويدخل إلى الذات هواء جديدا ويقوم بتغذية وجودها أين كفت الروح أن تكون فكرة للجسد لتصبح نداء متواصل على الآخر من أجل المجيء والتهيؤ لاستقباله واستضافته على أحسن وجه. الاقتراب من الآخر هو مستقبل الأنا ويعكس حرية ا رادتها وقدرتها على الاضطلاع بمسؤولية تقاسم الخير على الأرض.إن الذات الحاضرة تتحمل مسؤولية الإنسان القادم والجيل الآتي لكونها مسؤولة مسؤولية مطلقة تجاه الآخر يقول ليفناس في هذا الموضوع:” أنا لا أعيش في عالم لا يوجد فيه سوى قادم واحد بل هناك دائما وأبدا في العالم ثالث.والعلاقة بالثالث ليست أبدا العيش سويا لأن الثالث وجه وهو ينظر إلي بعيون الآخر”[20] وهذا الآخر ليس أنا آخر بل الآخر في غيريته، لكن كيف تمثل الإحالة على الغيرية الجذرية انفتاحا على القرابة بماهي مسؤولية قصوى تجاه القريب؟
المراجع:
Emmanuel Lévinas ,Quelques réflexions sur la philosophie de l’hitlérisme. Rivages poche, Petite Bibliothèque ,1997 .
Emmanuel Lévinas , Totalité et Infini. Essai sur l’extériorité , Kluwer Academic , 1996.
Emmanuel Lévinas, De l’Existence à l’Existant, Librairie Philosophique J. Vrin, 1993.
Emmanuel Lévinas , Difficile liberté. Essai sur le judaïsme, Albin Michel, 1997 .
Emmanuel Lévinas ,Humanisme de l’autre homme, Fata Morgana , 1972 ..
Emmanuel Lévinas, Autrement qu’être ou au-delà de l’essence, Kluwer Academic, 1996.
Emmanuel Lévinas ,En découvrant l’existence avec Husserl et Heidegger , librairie Philosophique J . Vrin , 2001.
Emmanuel Lévinas , Entre nous. Essais sur le penser-à-l’autre, Grasset, 1991.
Emmanuel Lévinas, Altérité et transcendance, Fata Morgana, 1995.
Emmanuel Lévinas , De Dieu qui vient à l’idée , J. Vrin , Paris , 1982.
[1] Emmanuel Lévinas, Totalité et Infini. Essai sur l’extériorité, Kluwer Academic, 1996, p25 [2] Emmanuel Lévinas, Quelques réflexions sur la philosophie de l’hitlérisme, Rivages poche, Petite Bibliothèque, 1997. [3] Emmanuel Lévinas, Totalité et Infini. Essai sur l’extériorité, Kluwer Academic, 1996, p113 [4] Emmanuel Lévinas, De l’Existence à l’Existant p117- p124 [5] Emmanuel Lévinas, Entre nous p43- P44 [6] Emmanuel Lévinas, De Dieu qui vient à l’idée p216-p217 [7] Emmanuel Lévinas, Difficile liberté p19- 20 [8] Emmanuel Lévinas, Autrement qu’être ou au-delà de l’essence p13 [9] Emmanuel Lévinas, totalité et infini p216 [10] Emmanuel Lévinas, Difficile liberté p20 [11] Emmanuel Lévinas, Humanisme de l’autre homme p51- p52 [12] Emmanuel Lévinas, En découvrant l’existence avec Husserl et Heidegger p172 [13] Emmanuel Lévinas, Humanisme de l’autre homme p69 [14] Emmanuel Lévinas, Altérité et transcendance p109 [15] Emmanuel Lévinas, la mort et le temps p121 [16] Emmanuel Lévinas, Totalité et Infinie p291 [17] Emmanuel Lévinas, Humanisme de l’autre homme p49 [18] Emmanuel Lévinas, Totalité et Infini p21 [19] Emmanuel Lévinas, Totalité et Infini p180-181 [20] Emmanuel Lévinas, Totalité et Infini p190
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق