سدوم لعبد الحميد شوقي - مليكة معطاوي - مدارات ثقافية

احدث المواضيع

الجمعة، 12 فبراير 2016

سدوم لعبد الحميد شوقي - مليكة معطاوي

      إن الرواية، باعتبارها فنّاً، محاولة حثيثة لتشييد عوالم مختلف يسعى من خلالها الروائي إلى دفع القارئ إلى اقتحامها والانخراط في مخاضها الوجودي، ولعلّ الرواية الجيّدة هي تلك التي ينجح صاحبها في استدراج القارئ إلى اكتشاف ذاته واحتضانها من جديد عن طريق التماهي في ذوات غيرية بكلّ هواجسها ونوازعها وميولاتها الظاهرة والخفيّة.

ضمن هذا النوع من الروايات تندرج رواية “سدوم” للروائي المغربي عبد الحميد شوقي إذ تلامس بجرأة غير معهودة علاقة الإنسان بجسده ورغبته في تحريره من كلّ قيود وضعية عبر تلمّس شخصيات الرواية وتحسّس تفاصيلها اليومية من خلال فضخ المخبوء في الأعماق الإنسانية، تلك الأعماق التي يتطلب الغوص فيها حنكة كبيرة ويعدّ مخاطرة غير محدودة النتائج إذ بين القارئ وسردية السارد طبقات تأويلية تروم الحفر والتنقيب، مما سيدفعنا لا محالة إلى طرح مجموعة من الأسئلة بخصوص قراءة هذه الرواية وتحديد القضايا والموضوعات التي تطرحها، والتي يتوخى ضبطها الاستجابة للشرط الموضوعي للقراءة، وللفهم الجديد للكتابة وللواقع.

هذا النصّ الغني من حيث الإمكانات التي يمنحها للقراءة ، سنتناوله من زاوية جدل الظاهر/ الناطق، والخفي/ الصامت في حيوات الأبطال، وهنا لا ندّعي الإحاطة بكلّ الجوانب الظاهرة والخفيّة فيها، بل سنحاول فقط الاقتراب من أعماق الشخصيات وتحليل دوافع تصرّفاتها الشعورية ومحرّكاتها اللاشعورية التي وشمت الذاكرة. سنبدأ ذلك بتناول العتبات التي تعتبر مدخلا للنص وواجهته الإعلامية، ووصولا إلى عمق الرواية عبر تتبّع أحداثها وحيوات شخصياتها، إذ “في الرواية لا تستطيع الشخصيات أن تفعل شيئاً إلا أن تحيا”([1]).

إن أوّل عتبة نلج منها النصّ هي العنوان، الذي يلعب دور الوسيط بين القارئ والنصّ، وقد اتّخذ الروائي عبد الحميد شوقي من مدينة “سدوم” العبرية الواردة في نصوص التوراة عنواناً لروايته. هذا العنوان يحيلنا على مدينة قديمة اتبعت أهواءها وغرائزها فغرقت في الرذيلة وحاق بها الهلاك الإلهي،إلا أن الروائي يعيد حكايتها من خلال واقع المغرب حيث يتفشى التمزّق والبؤس والدعارة، وهنا تتقاطع الحدود بين الواقع والتخييل اللذين ينسج المؤلّف عوالم روايته منهما، مع العلم أنه ثمّة فروقا بين العمل الإبداعي والواقع. يقول على لسان أحد أبطاله: “سدوم المدينة التي لم تستمع سوى لصوت جسدها وغريزتها، لكن سدوم لم تكن مدينة عبرية حاق بها الهلاك الإلهي، كانت هنا في شراييني وبين كلماتي، وفي الشغاف الممتدة بين سينما الحائط وكرسي خالتي بهيجة المتحرك”  (ص. 297).

إن الجسد في هذه المدينة هو المحرّك الأساسي وهو واضع القوانين والمستجيب لها، لكنه لم يستطع أن يرقى إلى أعلى مراتب التحرّر في مجتمع منفصم الشخصية، يلهث وراء التواءاته ليلا ويرجمه بأقبح الألفاظ صبحًا. يقول الروائي: “أيّها العالم.. نحن الذين ندمنُ النهارَ كأبديّةٍ لا ترحل.. اترك لأجسادنا أن تعيد حكايةَ “سدوم” التي لم يدمّرها فسادُها، بقدْرِ ما دمّرها عدمُ قدرتها على رفع شهواتها إلى مقام القوانين التي لا ترتفع. لم تكن سدوم موغلةً في درَك الرذائل في الأسفار التوراتيّة فقط؛ كانت سدوم راقصتَنا التي نتلوّى تحت خصرها في الليل ونرجمُها ألفَ مرّةٍ في النهار..”     (ص. 138).

هكذا يبرز دور الجسد الذي ركّز عليه الروائي كعتبة داخلية حينما حوّر مقولة باسكال في مدخل الرواية، إذ وضع الجسد بدلا من القلب في مقولته :

«Le cœur a ses raisons que la raison ignore».

يمكن أن نتّخذ من هذه المقولة منطلقاً لاستجلاء عناصر الدلالة والرؤية المتوغّلة بين ثنايا الصفحات، بناء على أن العتبات الداخلية تحيط بالنصّ من الداخل وتتحدّث عنه بصفة مباشرة أو غير مباشرة، إذ توضّحه وتفسّره وتضئ جوانبه الغامضة أمام القارئ، فمن خلالها يسعى المؤلف إلى استدراج المتلقي لكسب موافقته وتصديقه لما يكتب، وبالتالي إخضاعه لأفكاره ورؤاه، وتهييئه لاستقبال محتوى الرواية، ذلك “لأن إيمان القارئ بحسن نية المؤلف شرط أساسي لنجاح منهجه وبث خطته”([2]).

وعليه تدعو الرواية إلى تحرير الجسد وإطلاق عنانه ليحقق رغباته بعيدًا عن الدين والعادات والتقاليد والقيود النفسية والوضعية،  “سدوم ليستْ هناك في ذاكرة العهد القديم مرادفةٌ للرذيلة والمجون،سدوم مدينة متيقظة في حواسّنا لاقتناص اللحظة العارية من كلّ أفق سماوي. هي الجسدي والحسّي والعنفوان المندفع مثل ديمومة الحدسيّين” (ص. 292). ففي نظر المؤلف، لا حياة ولا إبداع بدون حرية الجسد، وهو يقول على لسان المثقفين من شعراء وروائيين ومخرجين سينمائيين “أن لا إبداع من دون تحرّر كامل”. وكأنه يوجّه خطابه إلى قارئ مفترض يدرك مسبقاً فحوى اعتقاداته وارتباطه بموروث ثقافي يخضع لقيود الدين والعادات والتقاليد منذ مئات السنين، وهنا تطرح علاقة القارئ بالمؤلف وحدود التواصل بينهما، خصوصًا إذا كان المؤلّف يمتح من حقول ثقافية مختلفة يتقمص فيها دور الأديب والشاعر والموسيقي والسينمائي والممثل، ويمتلك رؤية للعالم تنبني على  فلسفة الجسد المعاصرة، مراهنًا بذلك على تفجير إمكانات التخييل في سبيل إدماج المتلقي في عوالمه المختلفة وخلق تواصل جديد معه يتيح له إعادة النظر في علاقته الخاصة بجسده وبالآخر. يتبلور ذلك من خلال تعامل الشخصيات مع الأحداث المطروحة التي تناولها الروائي في 21 فصلا أثّثت معمار الرواية، يتبادل السرد فيها بين سبع شخصيات أطلق عليهم الروائي اسم “الشلة السدومية” وهي تتكون من أربع فتيات هن (كاميليا، سامية، أحلام، أسلين) وثلاثة شبان (الراهب، ميلاد، نوري) وهم يشكلون نخبة المجتمع إذ درسوا في البعثات الفرنسية أو في معاهد باريس أو في الجامعات المغربية، فتشبعوا بالحداثة من مصادرها.  وبالرغم من اختلاف مرجعياتهم وأصولهم فقد ربطت بين شخوص هذه الرواية رغبتهم في التحرّر والانطلاق، وانتماؤهم إلى حقل الإبداعوالفنوالثقافة، فمنهمالرسامة، والشاعر، والممثلة المسرحية والروائي والمخرج السينمائي، إلا أن تميزهم الثقافي والوجودي لم يمح جذورهم الغارقة في وحل مجتمع ما يزال يرزح تحت وطأة التقاليد والأعراف، فلكلّ منهم حكايته الخاصّة التي صادفته ذات ميلاد فنسجت خيوط حياته بالتدريج وشكّلت مساره الذي تتحكم فيه وقائع ومواقف معينة، ما تزال راسخة بالذاكرة، وتحرّكه بشكل إرادي أو لا إرادي، فما يطفو على السطح من تصرّفات وأفعال وسلوكات الأبطال يخفي في العمق دوافع ونوازع وغرائز وملفات سرّية متجذّرة في اللاوعي، ولا تعلن عن نفسها إلا من خلال فلتات اللسان أو في لحظات الاستبطان.

تنبني إذن أحداث الرواية على الاسترجاع حيث تبدأ حكاية كل بطل من لحظة حاضرة بما تتضمنه من مغامرات جسدية وعاطفية وإبداعية، وسرعان ما تقفز إلى الماضي وترسّباته التي تشكّل عائقا في وجه تحرّر كلّ منهم على حدة ومنعه من تذوّق طعم الحياة كما يريدها هو، لا كما تفرضها عليه مخلّفات الماضي النفسية والاجتماعية. هكذا يتبلور في السرد جدل الظاهر الناطق، والخفي الصامت، في حياة كلّ بطل بدءاً من طفولته ، مرورا بمراهقته، ووصولاً إلى مرحلة الشباب، في عالمين متقابلين أسسّهما الروائي وفقاً لثنائيات خطابه التي تتجاوز الحسّ إلى عالم من الصور والمشاهد الخفية التي يتدخّل فيها الأداء النفسي من أجل بناء النصّ السردي وإخراجه إلى الوجود، وذلك من خلال كيفية تعامل الأبطال مع الأحداث التي عاشوها، و التي تتعاقب فيها حالات البهجة والسرور، وحالات الرفض والقبول، وقد اقترب فيها الروائي من طابوهات مختلفة من قبيل العلاقات الجنسية المفتوحة، كتلك التي عاشتها سامية مع أستاذها فضيّعت مستقبله ودفعته للانتحار، وعلاقة أحلام المراهقة مع ابن الجيران كمال وغيره من الشبان، ثم علاقة الراهب المبكّرة بشاب آخر والتي تركت ندوبًا نفسية صاحبته طيلة حياته إثر كيّ والدته له بسفود حام بعد اكتشافها له في وضع مخلّ بالأخلاق.

واقترب الروائي أيضاً من علاقة الإنسان المغربي بالدين الإسلامي، ثم علاقة هذا الأخير بأديان أخرى، وذلك من خلال قصّة كاميليا المسلمة التي حبلت من شاب يهودي رفضه والدها لاختلاف دينيهما، فأثار ذلك نقاشا كثيرا، فالوالد الذي تسامح مع الحمل وأظهر باستمرار انفتاحه وتشبّعه بالحداثة الغربية، انقلب رأساً على عقب وطفت على السطح كل رواسب تربيته وحمولته الثقافية والفكرية التي ترفض الحمل خارج نطاق الزوجية بمجرّد أن علم أن ابنته حبلى من شاب يهودي، ولهذا الموقف دلالات كثيرة، فإذا كان الأب لا يمانع في أن تحبل ابنته نتيجة علاقة غير شرعية، فما جدوى أن يتدخل في اختياراتها، والنتيجة واحدة؟ (أترك لكم فضل الإجابة على هذا السؤال)

كما اقترب الروائي من أقدم مهنة في التاريخ، والتي ما تزال متفشية في مجتمعاتنا إلى الآن، من خلال قصة ميلاد الذي اشتغلت والدته بالدعارة فنتجت عن ذلك مأساة ونهاية حياة خطّط لها والده حينما علم بالأمر، فظلّت وقائعها وصمة عار على جبين هذا الشاب الذي حمل ندوبها في أعماقه مدى الحياة .

وتطرّقت الرواية كذلك إلى الهوية الوطنية وتنوّع مكوناتها بما في ذلك المكوّن الأمازيغي من خلال قصة أسلين الفتاة الأطلسية التي تشتغل ممثلة وتسعى بدورها إلى الإجابة عن سؤال كيفية تغيير نظرة المتلقي إلى جسد الممثل في مسرح متحرّر من كلّ القيود والأخلاقيات، هي التي عانت من نظرة المجتمع وسلوكه حينما أطلقت العنان لجسدها على خشبة المسرح.

ونظرا لراهنية الرواية وشمولية طرحها لم يغفل عبد الحميد شوقي الاقتراب من الجانب السياسي والدعوة إلى تصحيح مقتضياته بحيث تتماشى مع مطالبة فئات من المجتمع بتحرير الجسد والفكر والتعامل معهما بعيدًا عن الموروث الذي يعيق التحرّر والانطلاق ، فاستحضر حركة 20 فبراير التي تزامنت مع بداية الربيع العربي سنة 2011م، وتطرّق إلى الأسباب الخفية التي أدّت إلى ظهورها وإلى ملامح تكوّنها ومطالبها، ويتجلّى هنا دور البعد السياسي في خلق مواطن حرّ ومتحرّر من كلّ قيد، على الأقل في عالم مدينة سدوم التي ترمز إلى الحريّة وانعتاق الذات، وإن كان مفهوم الحرية يختلف باختلاف الأشخاص واختلاف مرجعياتهم…

إن اقتراب الروائي من هذه المحرمات (الطابوهات) المختلفة من شأنه أن يثير القارئ ويزعزع مسلماته في ظلّ معتقد يقنّن مثل هذه الأفعال وينظمها، خصوصاً وأن الروائي ركز بشكل كبير على احتفاء المرأة بجسدها دون قيد أو شرط في ظل مجتمع ما يزال يرفض، في قرارة نفسه، تحرّر عقول النساء، فبالأحرى تحرّر الأجساد. .

لا شكّ أن رواية عبد الحميد شوقي تتطلّب من الدارس شحذ كلّ آلياته النقدية والفكرية لسبر أغوارها وذلك نظرًا لعمقها وغناها وتنوّع المواضيع المطروحة فيها، وأيضاً للغتها التي تستحق لوحدها انحناءة تقدير لدقّتها وسلاستها وخلو النصّ كلّه من أي خطأ لغوي أو إملائي، وهذا نادر في روايات كثيرة يعدّ أصحابها في القمة.


[1] د. ه. لورانس، نظرية الرواية، ص. 208.
[2] عبد الرزاق بلال، مدخل إلى عتبات النص، دراسة في مقدمات النقد العربي القديم، دار إفريقيا الشرق، 2000م، ص. 50.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق