فيلم السيرة «كارل ماركس الشاب» - محمد عبد الرحيم - مدارات ثقافية

احدث المواضيع

الجمعة، 30 مارس 2018

فيلم السيرة «كارل ماركس الشاب» - محمد عبد الرحيم


على غير المعهود من الأعمال الدرامية التي تناولت سيرة كارل ماركس (5 أيار/مايو 1818 ــ 14 اذار/مارس 1883) سواء السينمائية أو المسرحية، وحتى في مجال الكتابة الروائية، حيث جرى تصويره شخصاً رصيناً متجهماً إلى حدٍ ما، تسبقهم إما حالة الإجلال القصوى أو التبخيس وفقاً لوجهة النظر التي تتناول مشروع الرجل، الذي لا ينكر أحد مدى تأثيره في تاريخ الإنسانية. يأتي فيلم «كارل ماركس الشاب The Young Karl Marx» لمخرجه راؤول بيك، الذي كتب السيناريو وشاركه باسكال بونيتسر. خاصة وهو يستعرض بدايات ماركس والمعارك التي خاضها، وصولاً إلى كتابته وإنجلز «البيان الشيوعي» الشهير. تلك المرحلة التي صنفها النقاد إلى مرحلة شباب ماركس، والتي تختلف نوعاً ما عن مرحلة النضج التي توّجت بعمله الأعظم «رأس المال». هذا العمل الذي رحل صاحبه قبل أن يُنهيه، وكأنه أراد ألا يقف الأمر بموقف دوغمائي، ليبتعد العمل عن صفة التقديس، بل كما كان يفعل ماركس دوماً من تطوير للفكرة، وعدم الوقوف عند آراء جامدة، على العكس من الشائع كما يروّج دراويش الماركسية، حتى أن ماركس نفسه في إحدى المناسبات، وحينما كان يستمع لآخر يقوم بشرح أفكاره ويتباهى أنه يفهمها تماماً، صرّح ماركس قائلاً: «أنا لستُ ماركسياً». بهذه الروح الساخرة تبدو شخصية ماركس في الفيلم، السخرية الحادة، والانتقام من الخصوم، وكأن حياته تدور في ساحة قتال، لا تختلف الحياة العائلية عن مسيرته الفكرية. الأمر الآخر هو إعادة الاعتبار إلى فريدريك إنجلز (28 تشرين الثاني/ نوفمبر 1820 ــ 5 اب/أغسطس 1895) وكيف استفاد ماركس من قدرته التحليلية لعالم العمال، والرؤية الناقدة التي أفادت كثيراً في بلورة النظرية الماركسية، التي لم تكتف بتفسير العالم، بل السعي إلى تغييره كما هو معروف، وحدث فعلاً. الفيلم أداء أوغوست دييل، وشتيفان كونارسكه، وفيكي كريبس، وهانا ستييل.

مقالات ومطاردات

يبدأ الفيلم بتحقيق أجراه ماركس حول مصير بعض الفلاحين في الراينلاند، يقومون خلسة بسرقة الحطب من الغابة للتدفئة، إلا أن مصيرهم كان القتل أو العاهة التي لحقت بهم طوال حياتهم، حيث تجمّع السادة فوق خيولهم، وانقلب الأمر إلى حرب غير متكافئة من حروب العصور الوسطى. جاء تعليق ماركس فوق هذه المشاهد، وكأن الفيلم يبدأ من شكل وأجواء بدائية للسلطة والقوة التي تمارس نفوذها بحق الفقراء. كانت النتيجة غلق الصحيفة وصعود البوليس لأخذ ماركس بالقوة. وكأنها ثيمة يتم تكرارها بعد ذلك على مدار الأحداث. على الجانب الآخر نجد إنجلز نجل صاحب المصنع الذي يستغل عماله، خاصة الإيرلنديين، والذي لا يتورع في فصلهم وتسريحهم من العمل، حتى يقع إنجلز في غرام إحدى العاملات، الوحيدة التي تحدت سلطة الرجل، وبينما يقتاد البوليس ماركس، يقوم أحد رفاق الفتاة بضرب إنجلز، الذي يُصاب بالإغماء، خاصة وقد أفهمه إنجلز أنه يقوم بدراسة من خلالهم ويريد الاستشهاد بآراء بعضهم.

ماركس وإنجلز

ورغم معرفة كل منهما بالآخر، من خلال المقالات أو الكتيبات، إلا أن نظرة ماركس كانت ترى في إنجلز مجرد ثري يحاول من خلال كتاباته نفي تهمة الثراء، كفكرة رومانتيكة، إلا أن اللقاء الفعلي بينهما جعلها يتخطيان مسألة سوء الفهم، ويعترف كل منهما بأنه قرأ كتاب الآخر «حالة الطبقة العاملة في إنكلترا» لإنجلز، و»مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي» لماركس. ويفرّان معاً من أمام البوليس الباريسي، كبديل لحالة الفرار الدائم الذي سيكون نهجاً يتبعانه في ما بعد، ليصبح فراراً من أفكار بالية، واختلاق عداوات رغماً عنهما مع معارضيهم، كل ذلك من خلال سخرية مريرة وثقة مطلقة في عقيدة علمية يعملان من خلالها. لا يخفي الفيلم مدى المساعدات المعنوية والمادية التي قدمها إنجلز إلى ماركس، حتى يستمر في كتابة المقالات والرد على الخصوم من خلال الكتيبات، فيكتب ماركس «بؤس الفلسفة» رداً على كتاب «فلسفة البؤس» لبرودون، كذلك كتابه الذي اختارت عنوانه زوجته «نقد نقد النقد». والأهم من ذلك محاولات إنجلز لجعل لغة ماركس أكثر تواصلاً، وتنقيحها من جفاف الكتابة الفلسفية، خاصة وأنها في الأساس موجة إلى العمال، والإيحاء بانتقاد فكرة ديكتاتورية البروليتاريا. ظهر هذا جلياً عند الصياغة النهائية للبيان الشيوعي عام 1848.

الإله الأوليمبي

جاءت شخصية ماركس بالفيلم دون قداسة، بل رجل يغضب ويسخر في مرارة من الآخرين، ويعرف تماماً قيمة عقله وما يريده، والجدل والسخرية من خصومه وقد انتصر على الكثيرين في عهده من الزعماء الاشتراكيين، كتطبيق عملي لنظرية الانتقاء الطبيعي التي وضعها داروين، واحتفى بها ماركس وكأنها المنطق العلمي الذي كان يبحث عنه. وصولاً إلى إلحاقه وإنجلز بـ «رابطة العدالة» والتي سوف يحولانها إلى جماعة ثورية في ما بعد «العصبة الشيوعية». من ناحية أخرى تأتي تفاصيل علاقته بزوجته، التي كانت تعي تماماً ما يفعله ويفكر به، بل كانت ترد بدلاً عنه في حواراته مع زعماء الاشتراكية الفرنسية أمثال جوزيف برودون. كذلك مدى معاناة هذه المرأة الارستقراطية، التي اختارت حياة المخاطرة الدائمة مع زوجها. على العكس من ذلك تأتي علاقة إنجلز بصديقته الإيرلندية ــ عاملة المصنع ــ التي لا تؤمن بالحياة الزوجية، وتصبح الصورة المجسدة للفكر الثوري في أقصى حالات الشطط. المقارنات كانت تأتي في لمحات خاطفة، دون مباشرة، من تعليق على موقف، أو الرأي في مسألة ما، لنصبح أمام حياة حقيقية بالفعل للشخصية وما يحيطها من علاقات وأفكار متحاربة، ونضالات مستمرة، حتى لو انتهى الفيلم بالبيان الشيوعي، الذي جاء في سياق تحول جذري في أوروبا، وثورات انفجرت. كان السياق السياسي والاجتماعي متوائما تماماً وقت إصدار البيان، هذا الذي يُعد من الأسس التي استند إليها ماركس في عمله الأهم «رأس المال» من حيث تطور الأفكار والوصول إلى صياغة نظرية فائض القيمة.

دولارات تحترق وعالم سيزول

ومن موت فلاحي الغابات إلى دولارات تلتهمها النيران، تكون الرحلة التي انتوى الفيلم خوضها من خلال حالة وحياة ماركس الشاب، كتذكير بأصل الأفكار التي صاغها، بخلاف تحريفها من خلال الأحزاب والدول التي انتهكت هذه الأفكار حد التشويه. كذلك تبدو النهاية وكأنها تحمل أملاً كبيراً في تجاوز ما يحدث، باستعراض عدة مشاهد من نضال شعوب وشخصيات مختلفة، فأفكار ماركس لم تنته، ولم تصبح في ذمة التاريخ، وتبقى أفكاراً إنسانية صالحة لكل نضال إنساني، دون حزب أو زعيم أوحد أو سلطة مطلقة، لقطات تستعرض نيلسون مانديلا، وسقوط جدار برلين، وتشي جيفارا، وعمال فلسطينيين أمام الجدار الإسرائيلي، وتجمعات حركة احتلوا وول ستريت، كل ذلك مقابل عصابة رؤساء العالم، حتى تشتعل النيران في أوراق الدولارات، وكأنها إيذاناً بانتهاء عصر الرأسمالية، الذي طالما حاربه ماركس وإنجلز، وصاغا في مواجهته أفكارهما، كردٍ أخير على فلاحي الغابة المطاردين من قبل سادتهم حتى الموت.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق