اشكالية العدمية و موت الانسان بين نيتشه و فوكو - دومينيكا بارتيجا - ترجمة: كريم محمد - مدارات ثقافية

احدث المواضيع

الجمعة، 30 مارس 2018

اشكالية العدمية و موت الانسان بين نيتشه و فوكو - دومينيكا بارتيجا - ترجمة: كريم محمد


لم تظهر الإشكالية التاريخية للعدمية بصورة جلية في أعمال ميشيل فوكو، وهو الذي كان أكثر اعتناءً بالأسئلة التي تُستهل بـ «كيف» وليس بـ «لماذا» المراوغة. والحال أنّ جينالوجيات فوكو، منذ كتابه «تاريخ الجنون» حتى كتابه «تاريخ الجنسانية»، كثيرًا ما تُقرأ باعتبارها تواريخَ نقديّة للمبادئ والقيم الأساسية التي نُنظم حولها حياتنا في المجتمع المعاصر. غير أن فوكو لم يسبر بتاتًا معنى الحياة بحد ذاته. ومع ذلك، نواجه في كتابه «الكلمات والأشياء»، وهو واحد من أعمال فوكو المبكرة منذ الستينيات، شخصية الإنسان الأعلى (Übermensch) باعتبارها «مهمّة واعدة» تتم ردكلتها في إمكانية تجاوز الإبستيم الحديث.

قارئًا تعاليم زرادشت بالتغلب على الذات فيما يتعلّق بحقل القواعد غير المنطوق بها التي تحكم تشكل المعرفة، يوفر لنا فوكو إعادة تحقيق لفلسفة الإثبات (philosophy of affirmation) لدى نيشته. حتى إن فوكو ليمضي إلى حد الحجاج بأن نيشته يعبر عن «عتبة يمكن للفلسفة المعاصرة بعدها أن تبدأ بالتفكير مرة ثانية»، أو تسترد على الأقل وظيفتها النقدية فيما يتعلق بالسؤال الكانطي لإمكانية المعرفة[1]. فهل بمقدورنا إذن أن نفهم النسق المفاهيمي الذي طوّره فوكو في الخمسينيات والستينيات كتعيين للطرق التي لا تزال العدمية بها تطاردنا كذوات للمعرفة الوضعية؟ وإذا ما اتبعنا الوعد السافر للإنسان الأعلى، فهل يمكننا أن نفكر في العدمية كشيء يمكن التغلب عليه في الحقل الإبستيمي؟

يُشكِّل موت الإله تجربتنا ويحدّها كـ ’إيماءة مهلكة على نحو مُضاعف‘ ترتبط ارتباطًا وثيقًا بموت الإنسان.
والحال أننا قد نميل إلى الظن بأن هذه الأسئلة غير ذات صلة. إذ ليست العدمية، بنهاية المطاف، مصطلحًا سنجده في معجم فوكو، وسيأسف فوكو لاحقًا أنه منح نيتشه مكانة امتيازية وفوق تاريخية سابقا في مقالته «مدخل إلى أنثربولوجيا كانط»، وفي «تمهيد للانتهاك»، وفي «الكلمات والأشياء». لكن بصرف انتباهنا إلى الطرق التي تُوظَّف بها [مقولة] موت الإله في تلك الأعمال بدلا من الانشغال بالمصطلحات التي استشكل بها نيشته وفوكو على التوالي العدمية في مشروعهما، فبمقدورنا أن نبدأ بالكشف عن شتى ضروب التوتر الكامنة في قلب الإبستيم الحديث، وربما حتى نلمح بعض الفجوات التي تبزغ على حافته.

إن أحد الادعاءات الأكثر تميزًا (التي انتُقِدت بحدة) التي يقيمها فوكو في أعماله المبكرة هو ادعاء أن ثمة فجوة أساسية بين زمانية الخطاب والذاتية الحديثة. فإذا كان الوعي المفردَن مجرد نقطة تقاطع في الشبكة الخارجية للأنظمة الخطابية، ولمجموع المعرفة، فإن الخطاب يبرهن لا-صلاحيته للذات الإنسانوية في بحثها عن الحقيقة الدائمة والمعنى الأبدي والأصل الحقيقي. بهذا المعنى، يُشكِّل موت الإله تجربتنا ويحدّها كـ ’إيماءة مهلكة على نحو مُضاعف‘ ترتبط ارتباطًا وثيقًا بموت الإنسان[2].

تنبع استعارة فوكو، إلى حد ما، من فهم نيشته للحداثة باعتبارها مَقدمًا للعدمية، لكن يبدو أنه يتجاوز مشكلة القيمة في إعادة تأويله لموت الإله، صارفًا تركيزًا حادًّا على الشروط ذاتها التي تحدث في ظلها فاعلية إعطاء المعنى لدى الإنسان تاريخيًّا منذ نهاية القرن الثامن عشر. يتمثل السؤال المركزي ههنا فيما إذا كان الإنسان هو رمز متلازم مع الإله ببعض السبل. يقدم فوكو، بتتبع بنية العلوم الإنسانية وتطورها باعتبارها مصدرًا للمعرفة عن الكائنات البشرية، حجة قوية للآصرة المعاصرة لهذا النظير. فقد يكون أن الإنسان قد قتل الإله استعاريًّا بوصفه كيانًا ميتافيزيقيًّا كليّ المعرفة وكمصدر لكافة القيم والأفكار السرمدية، لكنه لم يقم سوى بالنذر القليل لمساءلة أولية الفضاء (primacy of the space) الذي احتله الإله، مُموقِعًا ’لغتَه، وفكره، وضحكَه‘ في لُب العالم ما بعد الأنواري[3].

بهذا المعنى، إذا كان بمقدورنا الحديث عن بعض ضروب العدمية التي هي على المحك ههنا، فإنها ليست بلا ريب حكمًا نهائيًّا حول فقدان أية أهداف أو قيم جوهرية من شأنها أن تحمل بنفسها انحلالا فوريًّا لكلّ التأسيسات والحدود، وإنما هي شرط تاريخي وحديث بصورة مميزة من المستحيل تفاديه طالما أن الإنسان يأخذ شكل الخارجية (exteriority) الجامحة في حقل المعرفة. ويمكن إرجاع هذا الشكل إلى فكرة كانط القائلة إن حدود المعرفة توجد كليًّا في صلب بنية الذات العارفة، وبشكلٍ أعم، إلى التصور الفلسفي للذات الإنسانية التي هي منبع الحقيقة، كما إنها موضوع في العالم، والتي تُفهم عبر التمثيل (representation).

ليست العدمية اعتلالا، وإنما أفق تاريخي يختبر فيه الإنسان ويدرك ذاتيته الخاصة.
أما بشأن قراءة فوكو للحداثة في كتابه «الكلمات والأشياء»، فإنّنا نُحاصَر في إبستيمٍ مبنيّ تحديدًا على هذا الافتراض الهش بأن الإنسان يمكن أن يكون موضوعًا للمعرفة السوسيو-علمية، وبالوقت نفسه، شرطًا لإمكانية هذه المعرفة. تقوم العلوم الإنسانية، بهذا المعنى، على علاقة تناقضية بتناهي الإنسان، لأن الذات تُجرَّد نهائيًا في اللغة والممارسة الاجتماعية التي تفوق الذات، بل إن خبرته العينية والمُعاشَة والمموقَعة اجتماعيًا تشكل الأساس لوضعية المعرفة. ولعل من الممكن أن تُفهَمَ أعمال فوكو حول الخبرات الأساسية للجنون والمرض والموت والجريمة والجنسانية باعتبارها سَبرًا للأشكال الإمبريقية التي يحتلها التناهي (finitude) على المساق المتقطِّع للتاريخ. والحال أن فوكو لا يركز على التناهي الترنسندنتالي، وإنما يصب تركيزًاً حادًّا على الطرق التي ’عِيشَت‘ بها الخبرة بالفعل وبُنْيِنَت حذو النعل بالنعل مع شتى التقسيمات التي تكمن وراء المجتمع، من الحَد المراوغ بين الجنون والعقل إلى المعاني المتنقلة للجنسانية المُطبْعَنَة (normalized) في مقابل الجنسانية المنحرفة.

ليست العدمية، إذا نُظرَ إليها عبر عدسة إعادة تأويل فوكو لموت الإله، إيمانًا، وليست اعتلالا، وليست حتى شكوكية راديكالية حيال مزاعم الحقيقة. إنها، بدلاً من ذلك، أفق تاريخي يختبر فيه الإنسان ويدرك ذاتيته الخاصة عبر ألعاب متنوعة للحقيقة وللخطابات وللأنظمة الانضباطية، مثل الخطاب الطبي حول الاعتلال العقلي، وهرمنيوطيقا الرغبة أو التقانات المُطبْعِنة للسلطة (الحيوية). والحال أن في تاريخ الذاتية هذا، فإنه بالكاد يمكن أن تُفهَم سيرورة اكتشاف الذات من خلال معجم وجودي، كشيءٍ يمنح حياتنا معنى فريدًا. ويعود السبب في ذلك إلى أن معرفة الذات ممكنة فحسب عن طريق شروط بعينها تحكم العلاقة بين الذات والموضوع، حتى علاقة الذات بنفسها (مثل علاقة الفرد بجنسانيته/ا التي تعقدها الممارسات الرعوية والطبنفسيّة (psychiatric) للطائفة). بهذا المعنى، ما دام أن السؤال الأساس الذي يواجه الفلسفة هو سؤال ’ما هو الإنسان‘، وطالما أننا نسأل ’لماذا‘ وليس ’كيف‘، وطالما أن الذات الناطقة والحية هي الأساس لمعرفته/ا، فإن الإله وقاتله مشتبكان في تنافس قاتل لأكثر من جولة واحدة.

مع ذلك، تحمل العدمية في داخلها الوعد التحرري بأن الإنسان نفسه سيختفي أيضًا، و’كأنه وجه رُسِم على الرمال عند حافة البحر‘، بمجرد أن نستخلص العواقب الأكثر راديكالية من موت الإله وندرك الطارئية (contingency) كمصدر للإمكانيات اللانهائية في حقل المعرفة الذي يوجد الإنسان فيه كمجرد شخصية عابرة[4]. إن ما هو على المحك ههنا ليس شيئًا أقل من الوعد بإعادة تدبير تأسيسية في الشروط التي تحكم العلاقات بين الذات العارفة والموضوع المعروف، والتي تتصل اتصالا وثيقًا بالجوانب الإثباتية لفلسفة نيتشه. ففي كتابه «فوكو»*، أعاد جيل دولوز تأويل موت الإنسان من حيث المعرفة التي تنشأ في علاقةٍ مع ’القوى الجديدة‘ من الخارج، المختلفة جذريًا عن قوى اللاتناهي والتناهي التي كانت تعمل عملها في الإبستيمات الكلاسيكية والحديثة في ظل قالب الإله وقالب الإنسان[5]. إننا بمقدورنا، بحركة إعادة التقويم الإبستيمية هذه، أن نلمح عالم الصيرورة والإثبات، مُجسِّدًا في شخصية الإنسان الأعلى الذي لا يمكن تحقيقه أبدًا.

توفر لنا تعاليم التغلب على الذات، في قراءة فوكو، نموذجًا لنقد راديكالي لميتافيزيقا الذاتية التي تعبِّد الطريق لاقتصاد جديد لعلاقات المعرفة والسلطة. فلن يكون التناهي ههنا هو ما يؤسِّسُ معرفة الإنسان ويحدها، ’بل هو الذي يعيق ويعقِّد في الوقت الذي تكون فيه النهاية في واقع الأمر بداية جديدة‘[6]. ومع الإدراك الصارخ بأن الحقيقة المؤسَّسة في التناهي الإمبريقي ترتد على نفسها، فإن موت الإله سيُعيدنا ’ليس إلى عالم وضعاني (positivistic) وإنّما إلى عالم مُعرَّى بخبرة حدوده‘، حدود ما يمكن معرفته، التي تُقال وتُكتب في لحظة بعينها من التاريخ[7].

ينفتح الإبستيم الحديث تجاه الشخصيات النيتشوية، لكن ليس لمزجهم في نظام الخطاب بطريقة تنتج الطرق الأكثر موثوقية وشرعية للمعرفة. فعلى العكس، إنه يقوم بذلك للتضحية بالذات غير المُجسَّدة والموحَّدة في هذه اللحظة الوجيزة عندما ينهار الخطاب، وتحديدًا في حدود ما يمكن أن يُقال بطريقة واضحة، عندما يكون خطر معيَّن من التشوش عاملا عمله. والحال أن تجربة الحد هذه إنما تسلخ الذات عن نفسها، حيث تجد نفسها ’على رمال ما لم تعد قادرة على قوله[8]‘. إذ تظهر العدمية، بهذا المعنى، كقوة نقدية تقوض السلطة الإبستمولوجية لا لإنكار إمكانية المعرفة بحد ذاتها ولكن للإشارة إلى طرق مختلفة جذريًا  للمعرفة التي قد تبزغ في حدود الذاتية الفلسفية.

غير أن فوكو لا يزال حَذِرًا في مناقشاته للدور النبوئي (prophetic) للشخصيات النيتشوية، غير متأكد إذا كان الضوء المتقارب هو ’اللهب المحفز للحريق العظيم الأخير أم أمارة على الفجر[9]‘. ويبدو أن فوكو، بخصوص هذه النقطة، يحذو حذو نيتشه حذو النعل بالنعل: فكلا المؤلِّفيْن لا يكرس سوى سطور موجزة قليلة (رغم قوتها) لشخصية الإنسان الأعلى. وعندما يتعلق الأمر بفوكو، فمن المغري أن نقرأ ذلك كإشارة إلى تورطه حتى أخمص قدميه في العدمية كما على تورطه في الذات الحديثة الكونية. وفي نهاية المطاف، يتمثل التمظهر الأكثر تعبيرًا للعدمية في عملها كليّ الانتشار، لكن اللا-واعي، على جسد وروح الإنسان الأخير الذي لا يمكن أن يدرك نفسه في قاتل الإله. فالإيماءة القاتلة بصورة مضاعفة هي حدث جد بعيد عن آذان كثيرة: وهو حديث يُثير الضحك لا التعاطف، حيث يخشى المجنون أن ’الحدثَ الهائلَ [موت الإله] لا يزال في طريقه[10]‘.

إن هوس الإنسان بالتناهي يفسح المجال لعدمية تراجيدية تصر على الإثبات الشديد للحقيقة البشرية في حدها ذاته.
إننا محاصَرون في إبستيم أصم عن الشخصيات النيتشوية تحديدًا بسبب وضعها الانتهاكي باعتبار أنها أولئك الذين يتحدثون من خارج الخطاب، ومن الجانب الآخر من هذا الانقسام المعياري بين الجنون والعقل، وربما من الجانب الآخر من المعرفة. والحال أن الطريقة الوحيدة التي يمكننا بها محاولة تعقل كلمات المجنون، أو بصورة أعم، تعقّل العلامات التي ليست عبارات خطابية بعدُ، هي أن نسائل جذريًا الشروط التي على أساسها أصبحت مُطبْعَنة (naturalized) في الخطاب، التي عن طريقها نصل لإدراك أنفسنا كذوات شرعية. إن صوت المجنون نبوئي في هذا السياق بالضبط بسبب موقفه الحدي (liminal) كشخص تم تهميشه ونفيه وإبكامه على مدى التاريخ الداخلي للإبستيم الغربي، سواء أأصبحَ حبيسًا في ملجإ، أو هُجِّر إلى الليلة المظلمة على ’سفينة المعتوهين‘، أو شُخِّصَ بالعته العقلي[11].

إن هوس الإنسان بالتناهي، منظورًا إليه عبر عدسة هذه الانفراجة من أفقنا الخطابي، من هذه النقطة التي بالكاد نطالها، يفسح المجال لعدمية تراجيدية تصر على الإثبات الشديد للحقيقة البشرية في حدها ذاته. والسبب في تراجيدية هذه العدمية هو أنها تنطوي على إدراك صارخ بأن الإنسان في تناهيه لا يمكنه أن يكون الأساس لبُنى الحقيقة والمعنى والمعرفة، وبأن إمكانية التغلب على العدمية هي إمكانية مُرجَأة باستمرار، طالما أننا لسنا مستعدين للقول بوضوح ما إذا ’كنا نتمنى للإنسانية أن تنتهي في النار والضوء أم أن تنتهي على الرمال؟‘[12].

فقد نميل، إذْ نُجابَه برؤية من نهاية العالم، إلى الظن بأن جل ما تُرِك للذات الحديثة هو المساءلة الراديكالية للشروط المعاصرة التي يدرك الإنسان في ظلها نفسَه فيما يبدو أنه داخليته (interiority) الخاصة (لوضع مهمة تشكيل الذات بمصطلحات عامة إلى حد ما). ويبدو أن هذا هو موقف فوكو، نوعًا ما، في العقد الأخير من أعماله (منتصف السبعينيات إلى ١٩٨٤)، الذي لم يعد فيه سؤال الإنسان الأعلى متعلِّقًا بإمكانية التغلب على الإبستيم الحديث، وإنما بالممارسات الإبداعية لتحويل الذات (self-transformation) التي قد يتم اشتباك الذات فيها بمجرد أن تقيم (يقيم) في فضاء الشك الإبستيمي الراديكالي.

بيد أن فوكو، في «الكلمات والأشياء»، يتحرك خطوة أكثر راديكالية سيأسف عليها لاحقًا، حيث يقرأ فكرة العود الأبدي لدى نيتشه فيما يتعلق بالوضع الهرمنيوطيقي للعلامة كما تُؤوَّل دائمًا بالفعل. أما السؤال الأكثر غموضًا الذي يتحداه فوكو بخصوص فلسفة نيتشه، فيتعلق إذن بدور اللغة في شكلها المحض والموضوعي وذاتي الإحالة (self-referential) فيما وراء الخطاب، وهي اللغة التي ’تتعارض مع كينونة الإنسان‘ والتي قد تظهر من جديد في الأفق فقط في حال تم تجريف الإنسان[13].

يُعقِّد فوكو ههنا الفارق بين الخطاب واللغة، رابطًا الأخيرة بإمكانية المعرفة المحضة الحرة من علاقات القوة، وبالتالي المرتبطة ارتباطًا وثيقًا بوعد الانتهاك. ليست مشكلة اللغة، بالنسبة إلى فوكو، التي تجد تعبيرها الأدبي الأكثر جزالة في أعمال ريمون روسيل وجورج باطاي وموريس بلانشو، بغائبة تمامًا عن تاريخ الإبستيم الغربي، سوى أن نيتشه كان أول مَن فكر فيها فلسفيًا كـ ’تعددية مُلغِزة يجب الإلمام بها‘، قاتلا الإنسان والإله في فضاء فكره الداخلي[14].

في نهاية المطاف، إذا كان ثمة خارج لنظام الخطاب الذي يحكم كل ما يمكن معرفته، مكتوبًا ومنطوقًا في لحظة بعنيها من التاريخ، فإنه يَفدُ وينتهي تحت الإشارة الغامضة لنيتشه.
يمكن إرجاع تشظية اللغة إلى التحول من الإبستيم الكلاسيكي للإبستيم الحديث، وتحديدًا التحّول الذي شُكِّل الإنسان من خلاله كمركز للتفكير التمثيلي. بهذا المعنى، فإن نظام الخطاب قد استعمر اللغة في عصر العلوم الإنسانية، لكن اللغة يمكن أن تستعيد موضوعيتها، وأن تعود إلى وحدتها المفقودة وربما حتى تتجاوز الحقل الاجتماعي حينما يتحرك الإنسان خارج نطاق الماهيات الفلسفية ويجد نفسه ’ليس في قلب نفسه، وإنما على شفا ما يَحدُّه؛ في هذه المنطقة حيث يجول الموت، وحيث يُطفأ الفكر، وحيث يتقهقر الوعد بالأصل للأبد‘[15].

إن هذه المنطقة منطقة وسطى للجنون واللغة المحضة التي ولدت المعاناة المطارِدة لأنطونين أرتو ونيتشه وروسيل، وهم شخصيات كان فوكو مهووسًا بها في الخمسينيات والستينيات، وقرأ أعمالهم في علاقة وثيقة بجنونهم. إذ يَظهر هذا الانحلال للعمل الفني في الجنون كشرط قبلي لوضعه الانتهاكي، كما إنه يُموقِع الذات الكاتِبة خارج أنظمة المفهومية (intelligibility)، في هذه المنطقة التي يختفي عليها الإله والإنسان والمؤلِّف، كما إنّ الكلمات والعلامات لم تعد تنطوي على أيّ معنى ولكن يمكن تأويلها إلى ما لا نهاية.

بهذا المعنى، ربّما يمكن أن تُقرَأ مساءلة نيتشه لمَن يتحدث في كتابه «جينالوجيا الأخلاق» -الذي تمت ردكلتها في مساءلة نفسه كمؤلف سيادي في أعماله الأخيرة- كممارسة للعدمية الناجزة التي تتكشَّف فيما وراء الحدود التأسيسية للموت والجنون و(اللا)فكر. وفي نهاية المطاف، إذا كان ثمة خارج لنظام الخطاب الذي يحكم كل ما يمكن معرفته، مكتوبًا ومنطوقًا في لحظة بعنيها من التاريخ، فإنه يَفدُ وينتهي تحت الإشارة الغامضة لنيتشه.

أما بعد، فإن فوكو، بداية مع كتابه «نظام الخطاب» الذي كان بمثابة محاضراته الافتتاحية في الكوليج دو فرانس عام ١٩٧٠، لَيتحدى وعود اشتغاله في إيماءة درامية نوعًا عندما -وربما ليس هذا من قبيل الصدفة- تُرخي الشخصيات النيتشويّة وضعها الانتهاكي. لكن نيتشه لا يزال يطارده بلا ريبٍ، ربما لم يعد نموذجًا امتيازيًا بصورة جذرية لنقد الإنسانوية الميتافيزيقية، حيث يُعفى بطريقة أو بأخرى من القواعد التي تحكم إنتاج كل الخطابات، ولكن كأساس لخطاب المؤرخ النقدي الذي يستخلص العواقب من إيماءة نيتشه القاتلة بصورة مضاعفة.

ولعله يمكن فهم الجينالوجيا -وهي منهج يطوره فوكو في حوار وثيق مع نيتشه في السبعينيات- كممارسة للتغلب على الذات، المتواصل في حقل المعرفة، وكنوع من التفكير الذي لا يرمي إلى تشويش كل اليقينيّات فحسب، وإنما أيضًا في إثبات التاريخ على الجوهر، والطارئية على الاقتضاء، والتكاثر على الوحدة. بهذا المعنى، يكشف «نيتشه فوكو» [أي نيتشه الذي صنعه فوكو -م] عن استراتيجيات شتى تنشأ في حقل الفكر المعاصر بمجرد أن ترخي الذات الموحَّدة مكانتها الامتيازية في الحقل الإبستمولوجي ويصبح الفضاء الذي شغره غياب الإله مكانًا للإثبات، وللسلطة (المضادة)، وللسياسة. إن الجينالوجيا قد تكون هي العلاج ’الفوكوي‘ الأنجع، إن لم يكن الأوحد، لعدميتنا.

[1] Michel Foucault, The Order of Things (London and New York: Routledge, 2002), 373.

[2] Michel Foucault, Introduction to Kant’s Anthropology (Los Angeles: Semiotext(e), 2008), 124.

[3] Michel Foucault, The Order of Things (London and New York: Routledge, 2002), 420.

[4] Ibid., 422.

* ترجمَ الأستاذ المغربيّ سالم يفوت هذا الكتاب إلى العربيّة، ولكن بعنوان آخر هو: المعرفة والسّلطة مدخل لقراءة فوكو، ونشره المركز الثقافيّ العربيّ، عام ١٩٨٧. [المترجم]

[5] Gilles Deleuze, Foucault (London: The Athlone Press, 1999), 132.

[6] Michel Foucault, Introduction to Kant’s Anthropology (Los Angeles: Semiotext(e), 2008), 123.

[7] Michel Foucault, A Preface to Transgression. In: Aesthetics, Method and Epistemology: Essential Works of Foucault 1954-84 Volume 2, edited by James D. Faubion (London: Penguin, 1998), 72.

[8] Ibid., 77.

[9] Michel Foucault, The Order of Things (London and New York: Routledge, 2002), 286.

[10] Friedrich Nietzsche, The Gay Science (New York: Random House, 1974), 182.

[11] Michel Foucault, History of Madness (London and New York: Routledge, 2006), 26.

[12] Friedrich Nietzsche, Daybreak: Thoughts on the Prejudices of Morality – (Cambridge: Cambridge University Press, 1997), 388.

[13] Michel Foucault, The Order of Things (London and New York: Routledge, 2002), 369.

[14] Ibid., 332.

[15] Ibid., 418.
--------------------------------------------


المصدر: Four by Three Magazine 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق