أفكار بلا سلطة وسلطة بلا أفكار - قراءة ومراجعة: مدني قصري - مدارات ثقافية

احدث المواضيع

الأربعاء، 11 أبريل 2018

أفكار بلا سلطة وسلطة بلا أفكار - قراءة ومراجعة: مدني قصري


الكتاب:  الطريق  La Voie
المؤلف: إدغار موران  الناشر: فايار، باريس ،2011

نادرٌةٌ هي الكتب التي تواكب العصر، وتبدّد الظلمات، وتدلّ على دروب الأمل. مِن هذه الكتب كتابُ "الطريق"، آخر كتب إدغر موران  Edgar Morin، المفكر وعالم الاجتماع الفرنسي الكبير، والرئيس الشرفي للبحث في المركز الوطني (الفرنسي) للبحث العلمي. "الطريق"، وعنوانهُ الفرعي "مستقبل البشرية"، يعكس صدى صرخة كّلّ من يسعى بفارغ صبر إلى التقدم إلى الأمام ،ويرغب في إعادة اختراع العالم من جديد        .
البشرية تقف اليوم في مفترق طرق:  لقد كشفت العولمةُ،  تحت هيمنة الرأسمال المالي ،هشاشتهَا، بينما نشهد على صعيد الكرة الأرضية صعودًا في المخاطر: صراعات عرقية، ودينية وسياسية، وتدهورُ البيئة الحيوية، ونموُّ الفوارق والبؤس. فهذه الطريق إذن طريق مسدودة لا محالة. لذلك يقترح إدغر موران في هذا الكتاب، استكشافَ طريق أخرى، يراها الطريق الوحيدة التي تمنح انسجامًا، ودلالةً، ومستقبلاً.
هذه الطريق بدأت تمرُّ بسلسلة من المبادرات المفُعّلة في أنحاء العالم، ولكنّها ما تزال معزولة وغير مرئية. كيف يمكن أن ندُمِج في طريق جديدة طرُقَ الإصلاح التربوي، والإصلاح البيئي والإصلاح السياسي والإصلاح الاقتصادي، وإصلاحات المجتمع وإصلاحات الحياة؟ فهذا الكتاب يقترح "طوباوية ملموسة"، تفرض نفسَها كحل ملحٍّ لا غنى عنه .
ما زالت سفينةُ الأرض، التي تشهدالصراعات العرقيةوالدينية والتشنجاتالسياسية والاقتصاديةالتي لا تهدأ، تواصُِلُ سباقهَا نحو المجهول بسرعة فائقة. فهذه السفينة تدفعها محركاتٌ عديدة: العلومُ، والسياسةُ والاقتصاد، والدين والتكنولوجيا، والربح، ويحمل كلٌّ منها إمكانات الخير والشر معًا. لكنْ، لا رباّن على متن هذه السفينة ولا بوصلة. فهل هي تسير في الطريق الصحيحة؟ ألسنا ذاهبين نحو كارثة؟ هل من الممكن تغيير الاتجاه؟ إن أسوأ العواقب هي الأكثر احتمالاً، لكنْ إذا كانت الكارثة هي "المحتمل" فإنّ "اللامحتمل" كثيرًا ما حدث في التاريخ البشري أيضًا  .
يحاول كتابُ "الطريق" تشخيصَ المجرى الحالي والمستقبلي للعولمة. فهو يشرح لنا كيف صارت أزماتٌ متعددة تتشابك وتتداخل مع الأزمة الكبرى التي تتخبط فيها بشريتنُا التي لم يسعْها أن تصبح بشريةً "إنسانية" حقيقية؟ ويبُيّن لنا الكتابُ أيضًا كيف صرنا نتخبط في السراء والضراء معًا ،وكيف أنّ مستقبلاً جديدًا لم نتبيّنه بعدُ ربما يكون قد بدأ بالفعل. طريقٌ جديدة، تولدَ من التحامِ مجموعةٍ من طرقٍ إصلاحية قد لا تعُدّ ولا تحصى، وقد تؤدي بنا إلى تحوّلات عميقة، قد تذهلنا أكثر مما أذهلت البشريةَ تلك التحوّلاتُ التي غيّرت قديما مجتمعاتِ بدائيةً صغيرة قائمة على الصيد والقطاف، وتمخضت عنها مجتمعات تاريخية في نهايًة المطاف.
يواصل المفكر الفرنسي إدغار موران، رغم تقدّمه في السن (89 عامًا) إنتاج تفكيرٍ غزير وغنيّ، وموجّهٍ نحو المستقبل. هذا المقاوم القديم، والشيوعي السابق، وعالم الاجتماع، والفيلسوف الذي اقتبس منه الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي قبل بضع سنوات، مفهوم "سياسة الحضارة "أنتج في الفترة الأخيرة  (2011) كتاباً جديدًا، أطلق عليه اسم "الطريق"، يقدّم فيه معاينةً قاسية ومُقلقة، عن شرور عصرنا الحالي الذي لم تفده السياسة ولا الاقتصاد ولا الدين ولا الأخلاق ،ويحاول أن يقدّم بعض السبل السالكة لمستقبل البشرية.
في هذا الكتاب يدهشنا إدغار موران كثيراً بتشاؤمه المفرط، إذ ينُبئنا بحدوث كارثةٍ بشرية، مع التأكيد في الوقت نفسه على أن الأسوأ ليس مؤكدًا بالضرورة، ويوُجّه بريقَ الأملِ في النهاية لمن سوف تكُتب لهم حياٌةٌ جديدة في أعقاب هذه الكارثة المحتملة. لكنّ من يتأمل هذا التشاؤم "الظاهري" عند موران يدرك في النهاية أنه أقّلّ تشاؤمًا مما نتصور، إذ يقول "لو كنت متشائمًاً لما ضمّ كتابي هذا 300 صفحة، لو كنتُ متشائمًاً لقلتُ كما قال الكاتب سيوران Cioran  "اللعنة ثم اللعنة!" إني أرى الأشياء من وجهة نظرٍ تمُيّز ما بين "المحتمل" و"اللامحتمل". أما "المحتمل" فهو يتمثل في نظر من يراقب العالم من مكانٍ معيّنٍ، ما يسُقطه هذا الأخير على المستقبل من رؤى ،انطلاقاً من أفضل المعلومات التي يمتلكهما عن عصره. أمّا أنا فإنْ كنتُ أسُقِط على المستقبل المجرَى الحالي لصيرورة الكرة الأرضية، فذاك لأنهّ مخيف حقًا، وإلى حد كبير. لكن لماذا؟
لأنّ العالم لا يشهد تدهورًا في المحيط الحيوي، ولا يشهد انتشارًا مخيًفًا للسلاح النووي وحسب ،وإنما ثمة أزمة مزدوجة أيضًا: أزمة الحضارات التقليدية الواقعة تحت وطأة التنمية والعولمة التي ليست شيئاً آخر غير الغوربة. فهي أزمة الحضارة الغربية التي تنُتج هذا المستقبل المتسارع الذي لا يخضع العِلمُ والتقنياتُ فيه لأيةّ رقابة، حيث العنانُ مطلقٌ فيه كليًا لجنونِ الربح والمنفعة ".
في تشاؤم مخيف،  يقول موران في إحدى حواراته حول هذا الكتاب: "لقد أحدث موتُ "الحيوان الشيوعي الخرافي" يقظةَ "حيوان التزمّت الديني الخرافي"، وخلق هياج "حيوان رأس المال الخرافي". فهذه التحوّلات يبدو أنها تقودنا نحو كوارث خطيرة لا ندري إن كان بعضُها سيعقب بعضَها الآخر، أم أنها ستتدامج وتتفاعل وتتكامل فيما بينها في النهاية".
لكنّ موران يضيف: والحال أنّ التاريخ يعلمّنا أن "اللامحتمل" النافع والمفيد قد يحَدث أيضًا .المثال الهائل في هذا السياق يأتينا من البحر الأبيض المتوسط قبل خمسة قرون، حيث تمكنت مدينةٌ متواضعة، ألا وهي أثينا، أن تقاوم مرتّين إمبراطوريةً عملاقة، ألا وهي حضارة الفرس ،وتتمخض في النهاية عن ميلاد الديمقراطية!
ويذكر لنا موران مثالا آخر، حيث يقول: في شهر تشرين الأول (أكتوبر) من عام 1941، كان هتلر قد وصل إلى عتبات لننغراد وموسكو. لكنْ في موسكو أدّى شتاءٌ مبكّرٌ إلى تجميد الجيش الألماني." يعني ذلك أن التاريخ كان يمكن أن يكون مختلًفًا لو كان هتلر أعلن هجومه في شهر أيار (مايو)، كما أراد ذلك، وليس في شهر حزيران (يونيو) بعد أن طلب منه موسيليني العون، أو لو لم يعلم ستالين أن اليابان لن تهاجم سبيريا. وفي يوم 5 كانون الأول (ديسمبر) حرّر الهجومُ المضاد الأوّل مدينةَ موسكو على مسافة 200 كيلومتر، بعد مرور يومين اثنين فقط. ودخل الأميركيون الحرب. وهذا مثال عن تحوّل "لامحتملٍ" إلى "محتمل ."
ويبقى أن نسأل: وما هو في نظر إدغر موران "اللامحتمل" الذي يمكن أن يتحقّق فيُغيّر مجرى التاريخ؟ "إنها حيوية ما ندعوه "المجتمع المدني"، الإبداع الواعد  بالمستقبل." هكذا يقول. ففي رأيه أن هنالك أشياء كثيرة تولد يوميًا. "فالعالم بات يغصّ بمبادرات الإقبال على الحياة. لنِعمْلْ على التعريف بهذه المبادرات ونشْرها، المشكلة الكبرى تكمن هنا؛ لأننا مندفعون بسرعة جنونية في هذا السباق نحو الكوارث، من دون أن نعي من هذا الأمر شيئا ".
وفي رأيه أيضًا أن الأزمة الفكرية قد تكون هي أسوأ ما يمكن أن يحدث، لأننا "مستمرّون فيالتفكير بأنّ النمو سوف يمحو كل الآفات والأمراض"، بينما النمو "اللامحدود" و"السريع" هو الذي يقذف بنا في عالم مُنْتهٍَ سوف يجعل هذا النموّ مستحيلاً.
ويتساءل إدغر موران: "لكن البشرية غيّرت كثيرًا طرقها، كيف استطاع بوذا، الأمير الساكياموني الذي انصبّ تأمّلهُ على الألم، أن ينبني تصوّره عن الحقيقة التي تحولت إلى ديانة؟ وما الذي جعل ذلك الشامان اليهودي الصغير، المنشق المصلوب، أن يأتي بديانةٍ شمولية ألا وهي المسيحية؟ وكيف استطاع محمد ]صلى الله عليه وسلم[ الذي طرد من مكة أن يصبح منبعًا لديانة هائلة؟."
لعل إدغار موران يعتقد أن العالم في حاجة إلى نبي جديد؟ في هذا الصدد يقول إن العالم ليس في حاجة إلى نبيّ جديد بقدر ما هو بحاجة، بكل تأكيد إلى مفكرين جدد، وفي هذا الشأن يقول "يجب ألا ننسى أن الاشتراكيين، ماركس وبرودون وغيرهما كانوا في البداية يوصَفون بالحمقى؛ فتجاهلتهم واحتقرتهم النخبة المثقفة في تلك الفترة. لكنْ عند نهاية القرن التاسع عشر نشأت بفضل أفكارهم أحزابٌ كثيرة، كالحزب الاجتماعي الديمقراطي الألماني، وحزب الاشتراكية الإصلاحية، والشيوعية اللينينية، إلخ، والتي تطوّرت فيما بعدُ كقوًى سياسية هائلة. وحتى على الصعيد السياسي تطوّرت الرأسمالية كـ "طفيلي" ترَفَ في عالم الإقطاع. كانت الملَكية تحارب ضد الإقطاعيين، وهكذا استطاع العالمُ البرجوازي والرأسمالي أن ينموَا ويتطوّرا، وهكذا غيّر التاريخ اتجاهَه ومجراه، فكان كل ذلك عامَلَ تفاؤل .
قد يبدو أنّ ما يقوله إدغار موران في تحليله إفراطاً في التشاؤم، لأننا نلاحظ في أيامنا هذه فراغًا عامًا في الفكر، لكنّ موران يؤكد أن ثمة تجارب في كل مجال، لكنها مهمّشة، موضحًا أن كل الإصلاحات الكبرى التي حدثت في العالم بدأت أصلا بهذه التجارب المهمّشة. ولمزيد من التوضيح يضيف قائلا: "لكنّ الذي أراه لا يدعو للتشاؤم، إنني أربط الأمل باليأس، ففي هذا الشأن يقول هولدرلين Hölderlin  "حيثما ينمو الخطرُ ينمو أيضًا ما ينُقذنا من هذا الخطر"، أي أنّ هنالك أملا في ظهور الوعي بهذا الخطر، ومن ثمة إمكانية تجاوزه والتغلب عليه. يجب أن نتجاوز ثنائية التفاؤل والتشاؤم، فهذان نمطان من الفكر ينبغي ألا نغُلق على أنفسنا في داخلهما."
ويقرّ موران بأنه "ينبغي أن يكون عصرُنا، كما كانت النهضة، بل وأكثر من ذلك، فرصةً لإعادة طرْح كل الإشكاليات طرحًا شموليًا. كل شيء يجب إعادة التفكير فيه. كل شيء، بالفعل، قد بدأ ولكن من دون أن نشعر به. ما زلنا في مرحلة المقدّمات الأولى المتواضعة، واللامرئية، والمشتتّة .هنالك بالفعل في كل القارات، وفي كل الأمم غليانٌ إبداعي متعدّد، ومبادرات محلية متعددة ،في اتجاه إعادة بعث الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والمعرفي والتربوي، والعرقي والوجودي والأخلاقي. لكن كل هذا الذي كان يجب ربطه، بعضُه بالآخر، صار اليوم مشتتّاً، ومنفصلاً ومجزّءًا .هذه المبادرات لا يعرف بعضُها البعض الآخر. فما من إدارةٍ واحدة تحصيها، وما من حزب واحد يعِي وجودها. لكنها "مزرعة" المستقبل. وعلينا أن نتعرفّ عليها، وأن نحصيها، وأن نضع لها تصورات، وأن نجردها (بمعنى الجرد)، حتى نفتح دروبا ومسالك إصلاحية متعددة. فهذه الطرق المتعددة هي التي تستطيع بعد تطورّها المتفاعل أن تًتضافر فيما بينها، لكي تشكل "الطريق "الجديدة التي سوف تفكك الطرق التي نسلكها حاليًا، وتقودنا إلى التحوّل الكبير الذي ما يزال خفيّا، وما زالت عقولنُا تراه لاعقلانيا".
ويرى كذلك أن الذين يملكون أفكارًا لا يملكون سلطة، والذين يملكون السلطة لا يملكون، في الغالب، أفكارًا. تلك هي الفكرة التي تثيرها فينا قراءة  كتاب "الطريق". فهو يقترح مسحًا عامًا للمشاكل المعاصرة، "من أجل البحث عن الطريق التي تؤدي إلى إنقاذ البشرية من الكوارث التي تهدّدها    ."
ينادي موران بثورة في نظريتّنا الكلاسيكية للمعرفة، "إن نظامنا المعرفي، على نحو ما هو ملقَّنٌ لنا، وعلى نحو ما هو مبرمَج في عقولنا، يؤدي بنا إلى جهل الكثير من الأشياء. لقد خلق نمط معرفتنا ضمورًا في استعدادنا لإدراج المعلومة ضمن نظامٍ تصوّري قائم بذاته، محدد، وإدماجها في دلالة معينة. فبعد أن غمرنا فائضُ المعلومات صرنا أكثر فأكثر عاجزين عن وضعها في إطار تصورات واضحة، وعاجزين عن تنظيمها وفهمها. إن تجزئة المعرفة وتقسيمها في تخصصات غير تواصلية، يجعلنا غير مؤهلين لإدراك وتصور المشاكل الأساسية والشمولية ".
"من نحن؟" يتساءل موران. إنه السؤال الذي لا أثر له أبدًا في الخطب التي نسمعها يوميًا .
"إن الطبقة السياسية، راضية وقانعة بتقارير الخبراء والإحصائيات، واستطلاعات الرأي. فهي لا تدري أن شكسبير يعنيها أيضا." يعني ذلك أن كل شيء يجري من حولنا وكأننا ما زلنا نجهل منذ نحو قرن من الزمن أنّ كل شيًء قد تغيّر، في الأفكار التي كنا نحملها عن العالم منذ ذلك الوقت (الفضاء، والزمن، والسببية، والمادة، والروح...).
إذن هناك إفلاس في الفكر السياسي الذي يحتاج إلى تجديد. ولكن لماذا هذا الإفلاس في الوقت الحالي؟ يقول موران "مماّ لا شك فيه أن العمل السياسي لا يبالي ولا يهتم بالأعمال التي تنجز حول مصير العالم. فمسيرة العالم لم تعد تجد مكاناً في فكْر الطبقة السياسية. إن الطبقة السياسيةتكتفي بتقارير الخبراء، والإحصائيات، واستطلاعات الرأي. لم تعد تملك فكرًا. ولم تعد تملك ثقافة .ولا تعلم أن شكسبير ما زال يعنيها. وفي  السياق ذاته يضيف موران "كان العمل السياسي دومًا يتأسس، إما صراحةً أو ضمنًا، على تصوّرٍ للعالم، والإنسان، والمجتمع، والتاريخ، والأخلاق، أي أنه كان يقوم على فكرة واضحة. فعلى هذا النحو قامت السياسة الرجعية على فكر بونال، وجوزيف دي مايستر  Joseph de Maistr، وموراس Maurra ، وعلى هذا النحو قامت سياسةٌ معتدلة على فكر توكفيل Tocqueville، وعلى هذا النحو قامت  السياسات الثورية على فكر ماركس ،وبرودون Proudhon وباكونين Bakounine.   
يقول موران إنه لا بد من "تفكيك" عولمة العالم، ومن عولمته في آن. لماذا؟ لأن العولمة، كما يقول، هي أسوأ الأشياء وأحسنها. فالفضل يرجع إليها في خلقْ مجتمعٍ يشترك في مصيره كافةُ البشر. فالوعيُ بهذا المجتمع الذي يشترك في مصيره كافة البشر، من كل الأصول التي باتت اليوم مهدّدًةً بذات المخاطر الوخيمة، ينبغي – هذا الوعي- أن يصبح هو مفتاح القرن الواحد والعشرين. "علينا أن نتضامن جميعًا حول هذه الكرة التي باتت حياتنُا مرهونة بحياتها وبقائها .ينبغي الاستمرار في عولمة هذا المجتمع، صاحب المصير المشترك، وفي الوقت ذاته في تفكيك هذه العولمة، من أجل ترقية الاقتصاد المحلي والإقليمي، وتجديد غذاء وحِرف وتجارة الجوار، من أجل القضاء على تصحّر الأرياف، والحدّ من الظواهر التي تحُوّل الفقر إلى بؤس ".
وفي الأخلاق يقول موران إن الهمجية تسكن حيواتنا: "لسنا متحضرين في داخلنا: هناك حب التملك، والغيرة، وعدم الفهم، والاحتقار، والحقد والضغينة. العمى إزاء أنفسنا، وإزاء الآخرين ،ظاهرة من الظواهر العامة في حياتنا اليومية. ما أكثر الجُحُم (جمع جحيم) العائلية، التي تجسد جُحماً صغيرة لجُحُمٍ أوسع وأخطر في العلاقات البشرية! إننا هنا نقع في انشغالٍ قديم جدًا، لأن المبادئ والقيم الأخلاقية حاضرٌةٌ في الديانات الكبرى أو في الأخلاق العلمانية على السواء. لكنّ الديانات التي نادت بحبِّ الآخر هي التي كثيراً ما أشعلت أحقادًا مروّعة، ولا شيء كان أكثر فظاعةً من ديانات الحبّ هذه. يبدو إذن، من البداهة القول إن الأخلاق تستحق اليوم أن يعاد التفكير فيها، وإنّ إصلاحًا يجب أن يطولها، ويدُرجها في صلب الموضوع والاهتمام. ولا بد من أن نضع للأخلاق تصورًا ذا أبعاد ثلاثة، بموجب الثلاثية البشرية: الفرد/المجتمع/النوع  ".
و"لتحقيق الإصلاح الأخلاقي، يقول موران، يجب على كل واحد منا أن يدمج في وازعه الخاص وفي شخصيته مبدأ التحليل الذاتي الدائم، لأننا من حيث لا ندري صرنا نكذب على أنفسنا، ونخدع أنفسنا من حيث لا نعي. صارت ذكرياتنا تتحوّل، وصرنا بفعل الأنوية (مركزية الذات) نحمل رؤية مضللة ومنحرفة، عن أنفسنا وعن الآخرين. لذلك لا يسعنا أن نمارس التحليل الذاتي، والنقد الذاتي. والحال هنا أيضًا، في حضارتنا، يبدو أننا نسينا كليًا هذه الإمكانية، فصرنا نفضل الاعتماد في البحث على حلول لأمراضنا الأخلاقية إلى أشخاص آخرين، كأطباء الأمراض النفسية، والمحللين النفسيين ".
ما الذي يمكن فعلهُ حين تصبح البشرية في خطر؟ ما الذي يمكن فعله حين تتشابك كُّلُّ المشاكل والمصاعب والتحديات (السياسية والعلمية والتكنولوجية والأخلاقية والدينية والإيكولوجية والتربوية، إلخ..؟) ذلك ما يحاول الإجابة عنه إدغر موران، في كتابه الشجاع "الطريق". هذا الكتاب الذي لا يخاطب الخبراء، ولا الأخصَّائيين، بل يخاطب كَّلَّ كائن بشري، عاقل ومسؤول  .
  
         

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق