البلاغة الجديدة والخطاب السياسي مشروع عماد عبد اللطيف نموذجا - د.مصطفى عطية جمعة - مدارات ثقافية

احدث المواضيع

الجمعة، 4 مايو 2018

البلاغة الجديدة والخطاب السياسي مشروع عماد عبد اللطيف نموذجا - د.مصطفى عطية جمعة



    تنطلق البلاغة الجديدة من النظر إلى الواقع المعيش: واقع الخطابات العامة التي يتعرض لها المواطن العربي في حياته المعيشة، سواء كانت خطابات دينية أو سياسية أو اجتماعية، وهي متراوحة بين العامية والفصحى، في مستويات مختلفة من الملفوظات، فهناك خطابات دينية تلتزم الفصحى، وهناك خطابات سياسية واجتماعية تتدرج في مفرداتها اللغوية، من الفصحى إلى العامية.
ويمثل الباحث والأكاديمي د. عماد عبد اللطيف نموذجا جادا وراقيا في دراسات البلاغة الجديدة (بلاغة الجماهير)، في كتبه ودراساته المتعددة.
    حيث يأتي كتابه " بلاغة الحرية " ([1]) ليؤرخ الخطابات المنطوقة إبان ثورة يناير في مصر ، وكانت الرؤية مبدعة ، حيث نظر الباحث إلى ساحة الوطن وما يعتمل فيها في السنوات التالية للثورة بأنها مثل " المسرح السياسي " ، مقارنا بينه وبين الخطاب السلطوي الموجه لنظام مبارك ، عبر صحفه وقنواته الحكومية ، وأيضا التحكم في القنوات الخاصة التابعة لرجال الأعمال المرتبطين به ، وبين الخطاب الشعبي والنخبوي بعد الثورة ، حيث الانفتاح الهائل في قنوات التعبير ، ومساحة الأحلام ، وارتفاع سقف التطلعات ، والطموح إلى الحريات الكاملة ، والتمتع بحقوق المواطنة والاعتزاز بالوطن ، وتحوّل أرض الوطن إلى أرض جاذبة حامية لأهلها ، وليست طاردة للكفاءات الوطنية ، لذا جاء هذا الكتاب راصدا ودارسا ومحللا لخطابات ما بعد الثورة ، بكل ما فيها من آمال ، وإحباطات ، وتقلبات ؛ بغية رسم خريطة لمسرح الخطاب السياسي ، حيث يرى أن هناك خطابات ثلاثة تنازعت ساحة مسرح التواصل السياسي المصري أثناء الفترة الانتقالية ، ودخلت في صراعات وتحالفات وأيضا مؤامرات . وأن هذه الخطابات ليست منطوقة أو مكتوبة فقط ، بل تشمل أشكالا عديدة لها ، مثل : اللافتات ، التسميات ، الأيقونات ، الفكاهات ، الأغاني ، الرسوم الجدارية ، وغير ذلك من وسائل التعبير الثوري والسياسي ([2]).
    في ضوء ذلك ، جاء تقسيم الكتاب على ثلاثة أقسام : خطاب الميادين ، خطاب الشاشات ، خطاب الصناديق . وهو تصنيف جديد ، يحقق وجهة نظر المؤلف في رسم خريطة لخطاب ما بعد الثورة . فهو تقسيم على أساس مادي ، أي بالنظر إلى طبيعة المادة الكائن فيها منتجو الخطاب ، وسائر تأثيراتها على فحوى الخطاب نفسه، فما ردده الثوار في ميادين مصر الثورية ، واتفاقهم على شعارات ومبادئ سامية  في بداية أيام الثورة ، يختلف عما ذكروه وعبّر عن  توجهاتهم السياسية والفكرية في الشهور التي تلت الثورة ، وفي جميع الأحوال فإن خطاب الميادين كان مختلفا في أشكاله : شعارات ، أغان ، جداريات ، هتافات ، لوحات .. إلخ .
    أما خطاب الشاشات فيعني شاشات التلفاز ، والتي جاءت معبرة عن توجهات عديدة ، فالتلفزيون الحكومي مثلا كان معبرا عن سلطة مبارك ، ثم المجلس العسكري لاحقا ، وإن شهد مساحات أوسع بكثير عن ذي قبل في الحرية . أما القنوات الخاصة ، فهي متراوحة ما بين قنوات تابعة لرجال أعمال مؤيدي نظام مبارك، وقنوات أنشأـتها قوى الثورة والجماعات السياسية وعبرت عن زخم الثورة . وفي جميع الأحوال فإن خطاب الشاشات كان منطوقا مرئيا ، متقلبا ، خاضعا لتوجهات أصحاب القنوات ، بعكس خطاب الميادين النابض بإحساس الجماهير ومطالبها . القسم الثالث : خطاب الصناديق الذي يعبر عن مرحلة الانتخابات التي كانت نتيجة طبيعية ومترتبة على المطالبة بالديمقراطية ، وإعمال آلياتها ، ومناقشة نواتجها .
   ربما نلاحظ أن التصنيف السابق للكتاب ، يحمل في طياته ودراساته التي شملها الكتاب ، وتوزعت على فصوله نهجا واضحا ، ربما لم يشر إليه المؤلف في مقدمته، ولكنه جلي واضح عندما نقرأ فصول الكتاب قراءة أفقية مسحية تستهدف رصد المنهج ، والوقوف على علاماته ، ومعرفة إجراءاته ، وأيضا آثاره .
     فمنهج المؤلف في بنية كتابه ، وتكوين نصوصه  ؛ قائم على سمات عديدة :
 أولها : التتابع الزمني ، فإن الخطابات الثلاثة المتقدمة في تقسيمها تعبر في طياتها عن مراحل زمنية للثورة وصولا إلى الانتخابات ، فخطاب الميادين يعبر زمنيا عن أولى أيام الثورة ، وقد تبنى الباحث مقولة الربيع العربي ، الذي يتوازى مع ثورات أخرى عمت العالم ، وجعلها " متناصة " مع ثورات أخرى حديثة ، مثل ربيع براغ وربيع بكين، وإن كان يرى أن مصطلح الثورات العربية وجد قبولا لدى أكبر شرائح الجماهير، لأن دلالة الربيع لدى العرب -رغم إيجابيتها - إلا أنها قصيرة في النهاية، ويعقبها صيف قائظ برياح رملية ، وحرارة مرتفعة ([3]). ولاشك أننا نتفق في إطلاق مصطلح " ثورة " على حركة الاحتجاجات الضخمة في أقطار العالم العربي، على الرغم من نتائجها المخيبة لآمال شعوبها ، إلا أنها حملت رؤية واضحة ضد أنظمة متكلسة ، متوارثة للسلطة والنفوذ ، متحالفة مع رأس المال ، قامعة للحريات. وإذا كانت النتيجة المرحلية المباشرة للثورات شهدت ردة وتراجعا ، إلا أن بذورها لا تزال عالقة في التربة ، لأنها ببساطة مطالبة إنسانية ضد أنظمة لم تقرأ التاريخ .
    أما خطاب الشاشات فقد جاء متزامنا مع أحداث الثورة ، حتى مرحلة الانتخابات، وقد قرأ باحثنا هذا الخطاب من خلال الخطب السياسية التي ألقاها " مبارك " إبان الثورة ، أو ألقاها ممثلو المجلس العسكري أو حتى الرئيس محمد مرسي ، فيما أسماها " مخاطبة الشعوب في منتصف الليل " ، كما يرصد عبر مفردات الخطاب "نرجسية الأنا الفردية - بوصفها - مرآة للاستبداد " ، وتبدلاتها ما بين " استراتيجية التهديد : وجه الرئيس المنقذ والخطاب الصارم " ، أو " وجه الرئيس الأب واستراتيجية الاستعطاف "([4]). وهي بلاشك قارئة تحليلية ، لا تكتفي بالمضمون المطروح ، وإنما تبحث فيما وراء المسطور ، وتتأمل المنطوق ، وتحلل الملامح .
أما خطاب الصناديق ، فهو أحد نواتج إطلاق عملية التحول الديمقراطي ، المتمثلة في انتخاب ما يريده الشعب ، إلا أن الباحث يقرأ عمليات التصويت في ضوء طبيعة الناخب ورغباته وهو متوجه للاقتراع ، حيث يصنف العملية إلى أنماط عديدة ، وهي "تصويت العميان " الذي يتوجه فيه شرائح واسعة من الناس البسطاء للتصويت إلى فئة أو مرشح واحد على نحو ما نجد لدى مرشحي الحزب الوطني السابق ، وهو يشابه بشكل ما " تصويت القطعان " الأكثر شيوعا بين المنتمين إلى كيانات سياسية أو جماعات عقدية ، لا يتاح للأفراد فيها حرية التصرف في سلوكهم التصويتي. وهناك " تصويت الجوعان " المستفيد من الأعطيات ، والرشاوى الانتخابية ، أما "تصويت الغفلان " فهو لمن يصوت ليؤدي المهمة فحسب . وهناك " تصويت الغضبان " لمن يدلي بصوته وهو كاره ، رافض لكل المرشحين ، ويقابله " تصويت الخوفان " الذي يعطي صوته مقابل الأمن والاستقرار ، أما التصويت الرشيد فهو القائم على " الاقتناع الذاتي " ، وفهم أسس العملية الديمقراطية واختيار المرشح([5]).
وبالطبع فإن هذه الأنماط من التصويت متداخلة في معناها ومبناها بشكل كبير، فيمكن أن يكون المصوّت من العميان والقطعان وأيضا خوفان ، فمشاعر الناخب وأفكاره متداخلة وأيضا متغيرة ، ومن الصعب تصنيفها في خانة واحدة .
   ومن ثم يقدم عماد عبد اللطيف قراءات لواقع ما تم في مرحلة الصناديق حيث يبحث كيف "تكلم مرشحو الرئاسة " ، وملامح كل شخصية من خطابها ويبحث في أول مناظرة بين مرشحي الرئاسة ، مسميا إياها " المناظرة باللكمات " ([6]).
ثانيها : استراتيجية المقارنة : ونعني به : اعتماد باحثنا المقارنة نهجا وإجراءً في قراءاته وبحوثه ، غير منحاز إلى فئة بعينها ، أو تيارا بعينه ، وإنما اجتهد كثيرا ليكون موضوعيا في الطرح والتحليل ، لأن بغيته في كتابه هي الرصد والتحليل والتصنيف لكل المشهد الثوري في حقبة تاريخية من تاريخ مصر .
   وفي سبيل ذلك ، استحضر الباحث ما قبل ليوضح حالة الآن وما بعد ، بمعنى أنه أشار وحلل خطابات ما قبل الثورة ، والحالة السياسية والاجتماعية والفكرية للشعب ، ومن ثم شرع في المقارنة بين المعلن والمنجز . فهو مثلا يرصد خطب "مبارك " منذ توليه السلطة عام 1981م ، في مقال بعنوان " خطب مبارك في ثلاثين عاما : من شباب الوعد بالديمقراطية إلى شيخوخة الاستبداد "([7]) وكيف أنه شرع في عمل مصالحة مجتمعية وعربية، مما أحدث ارتياحا وقبولا شعبيا ، ثم تحوله في نهاية عهده إلى مستبد طاغ ، ذاكرا أسماء كتّاب خطبه في بداية حكمه ، ثم استعانته بآخرين في نهاية الحكم ، وكيف تحولت خطبه من الإعلان عن الجديد للشعب إلى التغني بالذات ، وتكرار نمطي لعبارات و " كليشيهات " محفوظة .
وأيضا كيف تم التلاعب بملف الأقباط ، راصدا " ثوابت الملف القبطي وتحولاته " ، وخطب الثورة المضادة، وكيف اعتمدوا على صحافة وقنوات ضد خطاب الثورة([8]).
 ثم يتعرض لطبيعة خطب المرشحين للرئاسة ، و " حروب الكلام في جولة إعادة الانتخابات الرئاسية " ، متوقفا عند خطب الرئيس مرسي في أول إعلان له عشية الفوز بالانتخابات الرئاسية ، وفي ميدان التحرير ، وفي الكلية الحربية ([9]) وغيرها .
ثالثها : أشكال الخطاب : ونعني به توقف الباحث عند مختلف أشكال الخطاب : الثوري وغير الثوري ، الملفوظ والمرسوم ، المرئي والمسموع والمكتوب ، مؤكدا أن "هذه الخطابات تم ترويجها وتوزيعها عبر كم كبير من وسائط الاتصال ، لم يتسنّ لأية ثورة أخرى .. لقد كانت الثورة المصرية ثورة وسائط اتصال إلى حد كبير... نتجت عنها تجليات فنية بالغة الثراء ، تمثلت على نحو جلي في أغاني الثورة، وأشعارها ، ولوحاتها ، ومسرحياتها ، وقصصها ، ومذكراتها ، ورواياتها ، ونكاتها"([10]).
   وقد عدّ عماد عبد اللطيف المسيرات جزءا من خطاب الجماهير ، فقد أدركوا أن دقة تنظيمها وكثافة حشدها وتوحّد خطابها يجعل لها كينونة مستقلة كما تصنع الجداول الصغيرة النهر الكبير . خاصة أنها ثورة بلا زعامة شخصانية واضحة ، فالكل في بدايتها انخرط في كيان ثوري واحد ، وحملت المسيرات لافتات مطعمة بشعارات الثورة ، ورددت هتافات واحدة ، مزلزلة ، وغنّت أغاني من صنع أهل الميادين ، وازدانت الجدران على الأجناب برسوم رائعة ، بجانب الفكاهات المصاحبة لها ([11]). فدراسة سائر أشكال التعبير الثوري مهمة جدا في تحليل الخطاب ، لأنها هي الخطاب الفعلي ، فلا يتصورن أحد أن الثورة فلسفة ، وكتابات ، وحركة جماهير على الأرض ، الثورة كل واحد ، في حركتها ومقولاتها فعلى الدارس ألا يحصرها في مظهر واحد، بل يقرأ ويدرس ويحلل كل الأشكال المصاحبة ، بجانب الحوارات التلفزيونية ، والتحليلات السياسية ، ومفردات الخطب للثوار ، والمرشحين .



[1] ) بلاغة الحرية : معارك الخطاب السياسي في زمن الثورة ، عماد عبد اللطيف ،  دار التنوير، القاهرة – بيروت ، ط1 ، 2012م.
[2] ) السابق ، ص15
[3] ) السابق ، ص46
[4] ) السابق ، الصفحات : 104 ، 109-113
[5] ) السابق ، ص167 -171
[6] ) السابق ، ص192 ، 203
[7] ) السابق ، ص95
[8] ) السابق ، ص130 ، وأيضا : ص139
[9] ) السابق ، الصفحات : 210 ، 213 ، 219 ، 226
[10] ) السابق ، ص26
[11] ) السابق ، الصفحات : 28 ، 30 ، 36 ، 41 ، 47 .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق