القيم في مرحلة ما بعد الحداثة - مسفر بن علي القحطاني - مدارات ثقافية

احدث المواضيع

الأربعاء، 2 أكتوبر 2019

القيم في مرحلة ما بعد الحداثة - مسفر بن علي القحطاني



كانت ثورة التنوير والعقلانية ضد الكنيسة والدين لم تتجاوز أوروبا إلاّ بعد أكثر من قرن من زمان، وذلك لما بدأ الاستعمار الأوروبي يحمل أسلحته ويفرض أفكاره على شعوب العالم بقوة الغالب وتبعية المغلوب، ولم تتوانَ البعثات الدراسية الأولى إلى الغرب عن القيام بدورها في نشر الفكر العلماني والتبشير بالخلاص الليبرالي لمآسي الضعف والفقر والاستبداد الذي تعيشه أكثر شعوب العالم مع بداية القرن العشرين، ولا يزال الحراك الثقافي والفلسفي حتى اليوم ينمو ويتطور في أوروبا، ولكن بشكل مختلف عما سبق حدوثه في ثورة التنوير والعلم والمادة وتقديس العقل، فقد جاءت تلك الحقبة بعد عصور الظلام الكهنوتي والظلم السياسي والإقطاعي، ولكن معطيات التغيير الحالي لن تتأخر في وصولها إلى العالم -كما مضى- بل أصبحت المعرفة تُدوُّل في لحظات من انطلاقها من مهدها، وعندما تكون الفلسفة الجديدة متناغمة مع توجه الإعلام الهوليودي على وجه الخصوص وسياسات النظام العالمي الجديد -كما هو حال الطور المعرفي الراهن- فإن عمق الأثر سيتجاوز النخب المثقفة إلى أفراد المجتمعات،كلٌ حسب رغبته اللحظية، وليس هناك اعتبارات ستكون أهم من المتعة والرغبة الجسدية، فالصعود المعرفي لسطوة المادة والطبيعة وصل إلى مرحلة النهاية التي يلزم بعدها النكوص من القمة نحو القاع، ولكن ما هو القاع الذي نتوقعه من واقع هذا الحراك الفلسفي في الغرب وإلى أين سينتهي؟ وما هو البديل المعرفي لحضارةٍ مادية سيطرت على شؤون العالم كله؟ كل تلك الأسئلة لا أحد يملك الإجابة عنها، ذلك لسرعة السقوط للقداسة الفلسفية التي تكونت، وأخذت وهجاً عالمياً حلّت به بديلاً عن الديانات العريقة التي آمنت بها شعوب كثيرة في أوروبا و أمريكا وبعض إفريقية وآسيا. إن قعر الهاوية بدا عند بعض الفلاسفة المعاصرين هو المآل الطبيعي للفكر العقلاني الغربي، ليس تبشيراً بأفضلية البديل بقدر ما هو استشراف الأسوأ من حال الفكر المعاصر، من خلال بروز ظاهرة التهميش المتعمدة للفلسفات العريقة، والدخول إلى عالم الميوعة، أو كما سماها "المسيري" الدخول إلى "المادية السائلة" عقب "المادية الصلبة"، إننا أمام معاول قوية تهدم كل ما هو حقيقة، أو أساس مستقر، أو قانون مطلق، أو فكر شامل، هذه الحالة هي ما يُسمّى في الغرب (بما بعد الحداثة)، أو ما بعد البنيوية، أو ما بعد الليبرالية، أو ما بعد العقلانية، إلى غيرها من المابعديات الفوضوية والعبثية واللاشيئية، هذا التنظير الجديد لما بعد الحداثة، بدأ مع نيتشه الذي لخص رؤيته العدمية في عبارته الشهيرة "لقد مات الإله، ويقصد بعبارته تلك كما يقول (هايدجر) الفيلسوف الألماني :"إن الإله بالنسبة لنيتشه هو العالم المتسامي.. العالم الذي تجاوز عالمنا –عالم الحواس-. الإله هو اسم عالم الأفكار والمثاليات والمطلقات والكليات والثوابت والقيم الأخلاقية". إنه التحرر الكامل للإنسان من أي سيطرة لقيم أو ثوابت أو مرجعيات عقلية، بل هي دعوة منه أن نقبل بالعدمية زائراً دائماً بيننا ؛على حد تعبير (نيتشة) نفسه، و(هايدجر) و(سارتر) و(لاكان) وغيرهم من فلاسفة الغرب دعوا إلى هذه الفوضوية و التحويل من الحقائق الكبرى إلى القصص الصغرى التي يكوّنها الإنسان لنفسه، ويؤمن بها بعيداً عن أي معا يير يمكن أن تحد من قبولها، وزاد من سعار النقد للعقلانية وهدمها؛ نشر الفلسفة التفكيكية القاضية على كل المدلولات والحقائق الثبوتية، ولعل (جاك دريدا) و(ميشال فوكو) وغيرهم من مفكري الغرب المعاصر قد ساهموا وبشكل كبير في تنظير التفكيكية كمرحلة بعد البنيوية، تزيح ما علق في فلسفات الحداثة من معاني ودلالات ثابتة، ولعلي ألخص أبرز ملامح ما بعد الحداثة في النقاط الموجزة التالية:
أولاً: من البديهي أن الاعتبارات الدينية والغيبية لا مكان لها في فلسفة ما بعد الحداثة، وذلك أن الحداثة المادية –قبلها- قد همشت دور الدين و ما وراء المادة، وحُسم الأمر من عهد التنوير المبكر، لذلك تتجه فلسفة ما بعد الحداثة إلى القضاء على دور العقل ومركزية الإنسان والطبيعة؛كفلسفة قامت في عهد نهضة الحداثة الغربية، وهي -أي فكرة ما بعد الحداثة - تفترض أن العالم مادة، في حالة حركة دائمة، ولا قصد لها ولا أصل, ومجرد استخدام كلمات مثل: حق ويقين وذات ودوافع مثالية هي سقوط في الميتافيزيقا الماورائية، فليس هناك نظام مركزي بل هي نظم صغيرة مغلقة يدور كل منها حول نفسه، ولها معناها الخاص الذي لا يرتبط بأي مدلولات أخرى.
ثانياً: ليس هناك حقيقة مسلمة في فكر ما بعد الحداثة بل هي حقائق متعددة، يصوغها الإنسان نفسه، ويختار ما يريده من قناعات، حتى لو كانت في منتهى الشذوذ، فهي القبول البرجماتي للوضع القائم مهما كان دون تغييره بل التكييف معه والإذعان له، وكان المدخل لهذه العدمية؛ من خلال الفلسفة التفكيكية للمعاني، فـ(جاك دريدا) يطرح مفهوم (أبوريا aporia)، وهي كلمة يونانية تعني "الهوة التي لا قرار لها"، فمعنى النص مبعثر ومنتشر وذلك أن لِلّغة قوة لا يمكن التحكم فيها، فالمعنى أكبر من مدلول الكلمة، وكل قارئ يفهم معناه الخاص من الكلمة، فتصبح المعاني بعدد القراء، وبالتالي إلى حالة من السيولة تختفي فيها الحقائق، وتتعدد فيها المعاني الفردية، وهذا ما جعل النصوص المقدسة في العهد القديم والجديد فضلاً عن النظريات والقيم والمبادئ كلها صور هلامية يفهمها كل شخص على حسب مراده، وبالتالي سقوطها في فخاخ ما بعد البنيوية.
ثالثاً: النظام الأخلاقي في فلسفة ما بعد الحداثة لا يخضع إلى اعتبارات قيمية مطلقة أو أي معايير ثابتة أخذت اعتبارها من توافقات الشعوب بثقافاتها ودياناتها على احترامها ووثوقية مبادئها؛ بل الأخلاق تنطلق من اتفاقيات محدودة الشرعية تمليها مصالح الفرد أو المؤسسات المهيمنة على المجتمع سواء كانت أمنية أو اقتصادية أو إعلامية، فالصدق والعدل والأمانة قد لا تُحمل على معانيها المعروفة والمتوارثة بين الناس، ولكن قد يُحتاج لها من خلال منظور برجماتي مؤقت ومؤطّر في حدود النفعية البحتة، وهذه الفلسفة لما نزعت اعتبارية العقل ومركزية الفكر الإنساني المادي جعلت اهتمامها في تقديس اللذة والرغبات الجسدية، خصوصاً ما كان منها في جانبه الجنسي، وإطلاق الرغبات المكبوتة دون قيود أو سلطات مانعة، فالسعار الجنسي يعتبر انعتاقاً من طوباويات عبودية غير الذات، ولذلك وجدت الشركات الإعلامية والأزياء وأماكن الترفيه والملهيات بغيتها في هذه الفلسفة، ويُلاحظ هذا الأمر من هبوط قيم الملابس الحديثة وعريها بشكل فاضح وتعميم موضاتها في جميع العالم، كما يُلحظ التجانس القوي وإلغاء الفروقات بين لباس الرجل والمرأة كتسوية بين الأجناس والمخلوقات، وليست مساواة بالمعنى العادل، وبالتالي شيوع العائلات المكونة من زوجين من الرجال، أو زوجين من الإناث، أو زوج وأطفال، أو زوجة وأطفال، وهذا نذير بانهيار حاد لمفهوم الأسرة الطبيعية، نحو تمرد عبثي لا يعرف سوى اللذة الجنسية الغارقة في الشذوذ، وفي هذا يصرح (فوكو) وهو من رواد فلسفة ما بعد الحداثة أنه شاذ جنسيا ويمارس السادية، ويرى أنه إذا سافر لعاصمة الشذوذ الجنسي في العالم (سان فرنسسكو) ومارس الشذوذ السادي أنها لحظة الانعتاق الوحيدة التي يشعر بها لأنه يزيل –كما يقول – آثار الميتافيزيقا نهائياً وظلال الإله.
رابعاً: تؤكد سياسة ما بعد الحداثة، وهنا استخدم لفظة سياسة وليست فلسفة، لدخول هذا المؤشر إلى حيز الشريك الفلسفي والسياسي للنظام العالمي الجديد، والذي وجد في فكرة الهيمنة العسكرية خسائر وإذكاء لجذوة المقاومة في الدول المستعمَرة، فتحوّلت مشروعاته الاستعمارية نحو الاستعمار الناعم بالتركيز على ضرب الخصوصيات القومية وأنظمتها المرعية لضبط مصالح شعوبها؛ من أجل فتح الحدود للشركات العابرة والمنتجات الاستهلاكية، وتحويل النخب السياسية في تلك الدول إلى شركاء في الاستثمار، وتحويل الشعوب إلى أدوات استهلاكية، فالهوية الدينية والثقافية والخصوصيات القومية لا مكان لها في السوق العالمية الحالية، وإغواء المجتمعات يسير بشكل قوي ومنحدر نحو التخدير الإعلامي والإعلاني للوقوع في قبضة سكرة الاستهلاك والمديونيات الطويلة، ولا يقل حجم التأثير الهوليودي قوة عن غيره في تعزيز بقاء الإنسان آلة للعب والإلهاء، والشعور بالتبعية القسرية للنظام العالمي الغربي الشمالي الأبيض، من خلال أفلام البطولات المنقذة للأرض، أو من خطر العصابات الروسية أو الإرهابيين أو الملونين عموماً، أو الوقوع تحت التنويم العقلي لأسْر الثراء والنظام واللذة؛ وذلك بالمحاكاة التامة لتلك المجتمعات الغربية البيضاء من خلال البرامج والأفلام الغربية، وفي الآونة الأخيرة زادت قنوات الأفلام في القنوات العربية، وربما في العالم أيضاً وبشكل كبير وسريع، وأغلبها يصدر من هوليود، ومن خلال تأثير واضح لفلسفة ما بعد الحداثة وفوضويتها العابثة لقيم العالم.هذه بعض ملامح فلسفة ما بعد الحداثة، وكل ما سبق أعتبره مقدمات للوصول إلى نتيجة أرى أنها ضرورية لإدراك حجم التأثير لهذه الفلسفة الغريبة بين أوساطنا الثقافية العربية والإسلامية، والتناغم مع الكثير من الأطروحات الفكرية التي تصب في ذات الأهداف، إما عن دراية وعلم، أو من خلال التبعية الثقافية التي تجبر أصحابها على الترديد الببغائي مهما كان صوته صارخاً ونشازاً، وهذا ما نقرؤه من محاولات تفكيكك النص القرآني وتفسيره، وفق ميول ورغبات القرّاء، أما السنة فقد تم إلغائها بحجة أنها لامركزية لها؛كونها جاءت من بشر لا يختلف عن غيره من الناس، والظروف النبوية اختلفت تماماً عن واقعنا المعاصر الذي يحتاج إلى أدوات جديدة للفهم والاستنباط، وأحياناً يأتي النقد إلى نبذ الهوية القومية، والمطالبات بالإصلاحات السياسية وفق المشاريع الشرق أوسطية المشتركة، كذلك تهميش القيم الخلقية والسلوكية وغيرها من مسلّمات الدين، خصوصاً والمعطيات العقلية الأخرى، وهو طرح كثير من الليبراليين الجدد من العرب المستغربين.بقي أن أركز على دواعي طرق هذا الموضوع وعلاقته ببنية العقل المسلم؛ إذ إن دور العقل بدأ يهتز وينقض من أساسه، وذلك لوجود ثغرات واضحة في العقل المادي ومركزيته في النهضة الغربية الحديثة، بينما دور العقل المسلم لا يزال قاصراً عن إحياء دوره السابق في إعادة تكوين منهجية البناء الحضاري الشامل للجوانب المعنوية والمادية، كما أن منهج الاستدلال الأصولي وقواعده المقاصدية قد أثمرت علوماً رائدة لا مثيل لها في جميع الحضارات. وما أن تم تغييبها عن الواقع الإسلامي وتهميش فاعليتها في التجديد والتغيير والاكتشاف عن معارف حديثة وعلاج للواقعات الجديدة؛ حتى دب الضعف في جسد المجتمعات الإسلامية، و أعاقها عن التقدم والفعل الحضاري اللائق بهذه الأمة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق