تطرح مسألة الهوية
نقاشا حادا وجدلا كبيرا في الأوساط الفلسفية ،وبما أن مجال الفلسفة البحث
في الكلي، والسعي في طلبه سلوكًا، والتعبير عنه قولاً وخطابًا، فإن واقعها يبقى
دومًا ملازمًا لها ولا يفارقها، فكأن هذا الكلي الذي تنشده لا يبعدها عن واقعها المعيش، وإنما يزيدها قوة على
فهمه وكشف مكوناته واستشراف آفاقه وإمكانات مستقبله، إذ من بين تساؤلاتها الهُويّة التي غدت بؤرة السؤال ومدار السجال في الأوساط الفكرية
والدوائر السياسية خاصة المعاصرة، وما الكم الهائل من الكتب والمقالات التي تناولت
موضوع الهُويّة إلا دليل على ذلك.
لذا أخذ مفهوم الهُويّة يستأثر منذ
بضعة عقود بجهود كثير من المفكرين شرقًا وغربًا في المجالات المعرفية برمّتها
،وباهتمام هيئات الأبحاث السياسية والإستراتيجية ،فتجاوز صعيد النّظر وغدا أزمة
تعيشها المجتمعات على الصعيد الحقوقي والبيولوجي والديني وتعيشها الجماعات
الثقافية في صميمها .
إن الهُوية لم تعد تنطوي على الوحدة ،هذه
الوحدة التي ليست الفراغ الذي يدوم ويستمر في انسجام فاتر بعيدًا عن كل علاقة
،إنها الوحدة التي هي في ذاتها اختلاف بإبعاد الموقف الساذج الذي ينظر إلى وحدة
الهُوية كانسجام ،ولم تعد تنطوي على البعد الهووي –التأملي كما عبر عنها الإرث
الميتافيزيقي ،فبات حضورها في العالم المعاصر من خلال تحليل عميق لمعاني الهُوية
والاختلاف والذات والآخر ،مما جعل الكتابات المعاصرة تعيش قلق هذا السؤال عن
الهُوية والاختلاف وحضور الآخر ككيان يتواصل مع الذات ويمارس النقاش ضمن هوية
جماعية ذات بعد كوني يدعو لها » هابرماس « فيكون انفتاح الهُويّة خيارًا فلسفيًا يؤمن
لها التواصل داخل صيرورة وحركة جدلية ،وتتأصل الهُويّة ضمن وحدة إنسانية ،من خلال
سمتي التنوع والاختلاف.
يعدُ»يورغن هابرماس[1]«Jürgen Habermas أحد الوجوه البارزة في تاريخ الفلسفة الغربية
المعاصرة ،والذي عُرفَ بمشروعه الفلسفي بإعادة قراءة تاريخ الفلسفة بالعودة إلى(كانط)
لتحيينه وإبراز راهنية الفكر النقدي التنويري ،وأهمية مشروع الحداثة بالنسبة
لمدرسة فرانكفورت وبالرغم من اختلافه معهم حول الانتقادات الجذرية للعقل ، واعترافه
بأن هناك جوانب سلبية من إفرازات العقل الأنواري،وهذا ما جعله يتبنى الأطروحة
النقدية في كتاباته المبكرة :(كالفضاء العمومي ،التقنية والعلم كايدولوجيا
،المعرفة والمصلحة ،العقل والمشروعية ،النظرية والممارسة ،ملامح فلسفية
وسياسية...،وفي مطلع السبعينات وأواسطها انفتح »هابرماس«على الدراسات السياسية وفلسفة
اللغة وعلم النفس التكويني ،فقام بمراجعة نقدية لمنطلقات الفلسفة الماركسية التي
تشكل الدعامة الأساسية للنظرية النقدية ،فاتسعت الهوة بينه وبين النظرية النقدية
،وقلب الماركسية رأسًا على عقب في كتابه »إعادة بناء المادية التاريخية « ،وبهذا نادى بضرورة الانتقال لبراديغم
التواصل ،والذي يقوم على أخلاقيات المناقشة في أفق بناء مجتمع ديمقراطي يعمه
الحوار والتواصل .
ويرتبط حضور الهُوية في تفكير»هابرماس«من منطلق نظرته النقدية المقترنة
بالحداثة وفلسفة الأنوار ،وترتبط بفلسفة اللغة في محاولة مجاوزة الهُويات الكلية
النسقية المغلقة ،واستبدالها بالهُوية الجماعية ذات الصبغة المعيارية والتواصلية
،وهذا ما يكشف عن البعد الكوني الذي يقر بانفتاح الهُويات على بعضها للإثراء
الثقافي.
إن المقاربة التي اتبعها»هابرماس« في نظريته التواصلية
الداعية إلى تأسيس عقل تواصلي ،بديل عن العقل الأداتي ،وهو ما جعل المؤرخين في
الفلسفة المعاصرة يعتبرونه الممثل الشرعي للجيل الثاني لمدرسة فرانكفورت ،وبحكم
حسه الفلسفي النقدي ،يختلف في فلسفته النقدية عن كل من »هيدجر ،نيتشه « ،الذين يمثلون الجيل فلاسفة الاختلاف
،ونظريته التواصلية ليست لغوية فقط ،بل هي نظرية لها امتدادات اجتماعية وسياسية
،فصرح بأن نظريته هي نظرية نقدية للمجتمع ،ذات أهداف سياسية ،ولذلك كانت محاكمته
للعقل الغربي في نظريته للحداثة والعقلانية الأداتية ،وإدخاله لنظرية التواصل
،استهدف من وراء ذلك وضع قواعد لنظرية فلسفية واجتماعية تسمح بإمكانية التفكير في
الظواهر المرضية للمجتمع الحديث بهدف تقويم هذا الاعوجاج أو ما يسميه بالتواصل
المشوه ،الذي يحول دون بناء مجتمع حداثي ،ديمقراطي ،يتأسس على التفاهم والتواصل .
و تولد هذا الهاجس لدى»هابرماس« من خلال احتكاكه بالمناقشات السياسية
والفكرية داخل الفضاء العمومي الحديث في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية ،إذ
كان من المناهضين للتجربة النازية ،وقد استمر فيما بعد في مناهضته لفكر المحافظين
، وظل هذا الأسلوب ثابتًا في مشروعه الفلسفي وكتاباته السياسية إلى يومنا هذا .
فمحاولة »هابرماس« هي محاولة لإعادة بناء مفهوم الحداثة إلى
انبثاق الإشكالية السياسية عنه ،من خلال محاولته كلحظة أولى الانفكاك من فلسفات
الذات التي جاء بها العصر الحديث ،فمنذ لحظة الذاتية الديكارتية الوجودية ،إلى
ميكانيزمات الذاتية عبر المقولات والإطار الصوري الكانطي ،وصولا إلى الذات الباحثة
عن معناها تاريخيًا مع هيجل ،والطبقة كذات مع ماركس ،كل ذلك شكل لدى»هابرماس« هاجس تخوف ،صعُب التخلص منه في تاريخ
الفلسفة ،لكنه حاول الانعطاف بمسار هذه المشكلة نحو نوع من النظرية التي لا
تُحيلُنا إلى الذات أو ما يقابلها من موضوع ،بل إلى جدل بينذاتي تقترن فيه الذوات
نحو تحقيق المطالب التي عجزت فلسفة الذات عن تحقيقها ،ولذلك هي محاولة للكشف عن
الحقيقة ومعاييرها ،أما اللحظة الثانية فهي تحويل مسار هذه النتيجة التذاوتية نحو
إعادة تشكيل الوعي الإنساني ،ومن ثمة الارتقاء به نحو جميع مستويات شأنه ،بما فيها
السياسة ،ذلك بعد محاولة بناء معيارية تذواتية ،باحثًا عن إطارها ،الذي يوجد
بفلسفة التواصل ،التي تساهم في التفاعل الإنساني (علاقة الإنسان وذاته وبالمجتمع والطبيعة) ،مما يسمح إلى الانتقال
للحظة الثالثة وهي كيفية تطبيق هذا المنهج سياسيًا ،في محاولة للإجابة عن
التساؤلات التي عجزت الحداثة الذاتية عن حلها ،والتي تتمحور حول تحقيق مجتمع
متساوي متحرر ،مع وجود نظام سياسي شرعي ،يسعى لتحقيق العدالة والحق والقانون
والديمقراطية .
وبما أن الهُويّة ارتبطت كإشكال
راهن بالنظرية النقدية ،حيث إن مهمة الفلسفة الفعلية اليوم ،لا تتحقق إلا بالنقد
،فالنقد الضامن لديمومة المشروع الحداثي ،كما هي الديمقراطية ضمان لسلامة علاقة
الفرد بالسلطة والمجتمع ،والهُوية تقتضي المجالين الايتيقي والفلسفي اللذين وجه من
خلالهما »هابرماس«نقدًا لاذعًا للعقلانية الأداتية.
وبرز مفهوم الهُويّة على وقع صدمة
الحداثة والاستعمار في القرن التاسع عشر ،وبما أفرزته هذه الصدمة من اهتزاز في
الوجود والوعي ،ومن اختلال في المعاني والدّلالات والقيم ،حيث تَجَذَرَ المفهوم
بعمق ضمن مقاربات ونقاشات المفكرين
في الفترة المعاصرة ،فتنوعت مجالات
اهتمامها مع التطور التكنولوجي العظيم ومع نمو زمن العولمة ،وتضاؤل سلطة الدولة -
الأمة في صناعة القرار السياسي مع السوق العالمية مما استدعى من »يورغن هابرماس«الحديث عن ديمقراطية تشاورية تؤمن
بالتعددية والتنوع ،ويكون النظام
الرأسمالي المتقدم أحد دعائمها.
ندرك جيدًا أهمية سؤال الحداثة
ومحمولاته من ديمقراطية ودولة الحق والقانون والحرية والهُويّة ...،هذه الأخيرة
التي عالجها الفكر الإغريقي سابقًا بوصفها إحدى مبادئ المنطق ومقولة من مقولات
الكينونة ،وانزاح المفهوم من الشيء المفكر إلى الأنا أفكر مع »ديكارت « ،وبقى المفهوم محل تناول في الفكر الغربي
وضمن صيرورة تاريخ الفلسفة ،ليعرف الاختلاف طريقه إلى الهُويّة ،والتعدّد طريقه
إلى وحدة الذّات الحديثة ،فإن الفلسفة المعاصرة ،بعد أن مهّد لها الطريق كل من »هيغل Frederick Hegel « و»نيتشه Nietzsche Friedrich «،سوف تذهب بالتناقض الهيغلي مع »سارتر P ..J Sartre(1905/1980) « و»لوفيناس Levinas(1906/1995) « و»هيدجر Martin Heidegger(1899/1976) «إلى أبعد مدى ،كما ستذهب في خلخلة
الذّات الحديثة وهزّ وحدتها إلى التفكير في الهُويّة خارج كل تطابق، وإلى إدراك
الاختلاف بعيدًا عن أي تعارض ،خاصة مع المنعطف المنهجي الذي شكلته فينومينولوجيا »ادموند هوسرل Edmund Hussel(1899/1938) « وفلاسفة ما بعد الحداثة » جاك ديريدا Jacques Derrida(1930/2004) « و»جيل دلوز J. Deleuze (1925/1995) «بنقدهم للحداثة العقلية ولمنطق
الذاتية القائم على الهُوية والتطابق لإرساء عالم يقوم على الاختلاف والهُوية
المتكثرة بدلا من الهُويّة الأحادية، ثم لنبصر ميلاد منعطف جديد في الفلسفة المعاصرة
هو المنعطف اللّغوي مع»هابرماس«
الذي جاء لينقذ الذّات من العودة إلى مصيدة التجريد الماهوي والاعتقاد
بالتفوق القبلي الذي يتعامل مع الهُويّة كمطلق ميتافيزيقي.
لقد تصاعد النقاش حول الهُويّة بين
فلسفة الحداثة التي عملت على ضياع فكرة تحرّر الذّات التي وعد بها خطاب الحداثة
،وخطاب ما بعد الحداثة بطرده الذّات وتكرارها بتحريف ساخر مع»دلوز« ،قد عمل على ضياع الذّات التي وعد بها في
هذا الأفق ،ليعود طرح السؤال حول قيمة وصلاحية الهُويّة في الفضاء الفلسفي ومع ما
بعد الحداثي بالمجتمعات الراهنة ،على اعتبار أن مسألة الهُويّة واقعة فكرية تنطوي
على الجديد الذي يحتاج للدراسة والبحث المضني ،مما يفسر حضورها في الفترة المعاصرة
ومع»هابرماس« ،ففي خضم هذه المقدمات والمعطيات والتعارضات
الفكرية ،يمكن صياغة التساؤلات الجوهرية كما يلي :
كيف أعاد»هابرماس« صياغة سؤال الهُويّة وجعله معاصرًا لمختلف
قضايا الفكر الفلسفي والإنساني ؟وما المنهج الذي استخدمه في بلورة سؤال الهُويّة
؟وإذا كان هذا السؤال يشمل عدة سياقات في الفضاء العمومي ،فأين تكمن أزمة هذا
المفهوم في السياق البيولوجي والديني وكذا في السياق الحقوقي والسياسي ،ودون أن ننسى
السياق اللغوي التواصلي والثقافي الذي كان من أول اهتمامات »هابرماس« في فترة الثمانينات ،بوصفه للغة كوسيلة
ووسيط للاندماج الاجتماعي؟.
ويندرج تحت هذه التساؤلات عدة
أسئلة فرعية أثارتنا في سياق الموضوع نوجزها كما يلي :
بما أن سؤال الحداثة كان في مطلع
اهتمامات »هابرماس« حاولنا أن نرصد التساؤلات التالية من خلال: كيف جعل«هابرماس» من«هيغل» مؤسسا للقول
الفلسفي للحداثة ؟ كيف أسسها على مبدأ المعقولية ؟
وكيف أسس لعقلانية تواصلية منطلقًا من نقده للعقلانية التقنية؟
ومن منطلق اهتمامه بالفكر الماركسي حاول إعادة بناء المادية
التاريخية مما يجعلنا نتساءل: كيف يمكن لنظرية التواصل أن
تساهم بقسطها في مادية تاريخية مجدّدة ؟ ومع علمنا أن علم النفس من الأدوات التي
استخدمها«هابرماس»
فكيف استطاع بفضله أن يكشف العلاقة بين الهُوية والشخصية ؟وكيف عَمِل على متابعة
نمو الأنا في إطار ما سمح به علم النفس النشوئي ؟
وإذا كنا ندين للتطور العلمي بكل انجازاته ،فإننا أيضا
ندين له بالكثير من مما سببه للبشرية من معاناة وخاصة في نطاق الوراثة ،مما خلف
أزمة الهُوية مع الجنس البشري ومستقبل الطبيعة الإنسانية في إطار أبحاث البيواتيقا
،فهل يمكن تجاوز عالم الأخلاقيات في القرن العشرين؟
ومع تعدد قضايا الفضاء العمومي وراهنيتها ،بما في ذلك
العنف الديني ،فكيف يمكن رد الاعتبار للدين في النقاش الأخلاقي للحفاظ على
الهُويّة؟ وبما أن الفضاء العمومي فضاء يتطارح الأفراد فيه قضاياهم ومشاكلهم ،فكيف
يمكن للعقلانية التواصلية أن تصبح أداة لتحقيق مشروع حداثوي سياسي هو الديمقراطية
التشاورية كبديل عن الديمقراطية التمثيلية في دولة الحق والقانون التي تقوم على
معايير كونية ؟وإذا كان تواصل الأفراد عبر اللغة فكيف يمكن الحديث عن هُوية
تداولية كمشكل راهن في فكر»هابرماس« من خلال
نظرية دلتاي في الفهم؟
ولما كانت المنهجية في البحث العلمي مسألة جوهرية، بهدف
تحليل تلك التساؤلات وجدنا أن طبيعة الموضوع تستدعي وتفرض علينا اعتمادا مباشرا على المنهج التحليلي التاريخي
وفق منهجية تجمع بين أسس المنهج التاريخي والتحليل الوصفي في
تتبع تطورات المفهوم والعوامل التي أحاطت به في خلق أزماته في سياقات الفضاء
العمومي وكذا ملائمة هذا المنهج للهدف المنشود، وقصد عرض مشكلة البحث
ومناقشتها والبرهنة عليها في ترابط منهجي بين المنطلقات والافتراضات ،مع تقديم
لتحليل نقدي بحيث لا يقف الباحث كسارد قصصي وكذا المزاوجة بين المنهج الواقعي،
الذي يعبر عن واقع المجتمعات دون اعتبارات خاصة أو إيديولوجية مع المناداة بقيم
كونية تجمع الأفراد والمجتمعات، وكذا استشراف أزمة الهُوية في عالم يعاني من التطور التكنولوجي والعولمة والتنوع الثقافي
الذي يهدد كيانه، دون إهمالنا للمناهج المساعدة
كالمنهج الجينالوجي واللغوي.
ولبلورة موضوع الهُوية يستحضر»هابرماس«أدواته الفلسفية مشفوعة بالقانون
والاجتماع والتحليل النفسي واللغويات ،فمن خلال فلسفته التواصلية يسعى لربط
الفلسفة بالواقع المعيش،بواسطة التفاهم (Intercompréhension) والحوار (Dialogue) ،وهو ما يمكن للهُوية الجماعية أن تحققه ضمن
المجتمع ،ولكن مع التحولات التي عرفها العالم سواء مع الثورة التكنولوجية أو
اقتصاد السوق أدت إلى تغيير معاني القيم ،مما سمح له برصد الهُوية في أفق تداولي
ومعياري يرقى فوق الخطاب الميتافيزيقي .
ف»هابرماس«في مقاربته للحداثة كفضاء
ابستمولوجي ينطلق من المعقولية المنبثقة من الذات قبل أن تصبح البينذاتية (Intersubjectivité)الفضاء الأرحب لإستشكال مسألة الهُويّة داخل المنعرج اللغوي،مما
يجعل التواصل والحوار فضاء أرحب بين الفاعلين والسياسين بصفة خاصة والبشر بصفة
عامة ،لذا يسعى لتجذير الحوار في الفضاء العمومي ،ويتجاوز الدولة -الأمة للحديث عن
ما فوق الدولة -الأمة بواسطة تحقيق قيم كونية ضمن دول الاتحاد الأوربي ،كفضاء خاص
بفلسفته ،وبواسطة دستور عالمي يضمن الحقوق الفردية والجماعية ،ويحافظ على الهُوية
الخصوصية والجماعية في الوقت نفسه ،وهو بذلك يرصد ملامح مشروعه الكوني في الهُويّة
باعتبارها هُويّة جماعية تقوم على معايير كونية .
يحاول»هابرماس« استخدام التحليل النفسي لبلورة المفهوم
وتحديد دلالة هُوية الأنا ضمن حقول معرفية متنوعة ومتشعبة في عالمنا المعاصر
فينفتح النص الفلسفي على العديد من الاهتمامات فعمل على مقاربة مسألة الهُوية من
الجهة النفسية،فوضع نقطة الانطلاق من علم النفس النشوئي قصد تحديد مفهوم الهُوية
من جهة ما أسماه (الفرد-الكائن )،وتحدث عن الهُوية الجماعية ، ووصل في الأخير إلى
أن تحديد الهُوية الفردية والجماعية لا يتمّ إلا في إطار انعقاد علاقات بينذاتية
في مجال الفعل التواصلي كفضاء تتأسس ضمنه الهُوية المعيارية ،وتساهم في إعادة
استشكال الهُوية وبلورة قضاياها ضمن مطلب العولمة والكونية ،هي هُوية تنطوي على
رؤية أكثر فهمًا للواقع ،ولم تعد ذات طابع اختزالي ذو منحى ميتافيزيقي ،بل تكشف عن
طابع كوني يرتقي لتضايف بين الهُويات وعلاقات اجتماعية ،فلا يمكن لأحد أن يبني
شخصيته بمعزل عن الآخرين .
كما جاءت محاولته في إعادة بناء
النظرية المادية في كتابه (بعد ماركس) بمثابة إرساء قواعد فلسفة معاصرة تؤمن
بالتنوع والتعدد في المعارف الإنسانية ومحاولة لقراءة الماركسية وفق منظور جديد
يأخذ من الواقع الرمزي القاعدة الأساسية التي ينطلق منها لتقديم رؤية جديدة تتماشى
ومقتضيات الفترة المعاصرة .
على أساس أدواته يمكن اعتبار
الإشكالية السياسية للحداثة بمثابة تأسيس لنظام سياسي بشكله ومرتكزاته وشرعيته
،وهو النظام الديمقراطي في دولة القانون ،من خلال قدرة العقلانية التواصلية على
تحديد نموذج ديمقراطي ،يتجاوز مشكلات الأنظمة المغايرة ،ويتجاوز بفضله المواطن
العجز في الأنظمة التقليدية ،ولذا تقوم العقلانية التواصلية بالموازنة بين الطرفين
(الدولة والمجتمع) بنوع من التواصل الاجتماعي والإجماع حول حقائق قانونية تصنع
مفهوم الدولة القانونية -التشاورية .
بالتالي ستكون دولة عقلانية لأنه
تقوم على التوافق حول الحقائق والإجماع التشاوري ،فتكفل الاعتراف المتبادل بين
الأفراد دون إرغام أو سيطرة ،لذا سعى »هابرماس« للحوار والتواصل كمقصد أساسي في حديثه عن
الهُوية ،وهو ما أفضى لسعيه لدستور أوربي موحد ،يتكامل فيه الاتحاد الأوربي .
[1] -
يورغن هابرماس :هو أحد أهم
المنظرين الاجتماعيين وأوسعهم انتشارًا بعد الحرب العالمية الثانية ،وُلد بمدينة
(دوسلدورف) عام 1929 ،وترعرع في كنف أسرة ألمانية من الطبقة المتوسطة ،لقد تبلورت
آراءه السياسية الخاصة للمرة الأولى 1945 ،درس الفلسفة في شبابه في (جوتنجن
وزيوريخ وبون ) ،وعام 1954 حصل على درجة الدكتوراة بأطروحة الفيلسوف (فريدريش
شيلينج) ،والتفت لأعمال (هربرت ماركيوز ) والأعمال المبكرة ل(كارل ماركس) ،وبعدها
بعامين أصبح مساعد ل(تيودور أدورنو) في أبحاثه بمعهد الأبحاث الاجتماعي في
فرانكفورت ،وفي عام 1958 غادر هابرماس فرانكفورت قاصدًا (ماربورغ) حيث حصل على
شهادة التأهيل للأستاذية سنة 1961 ،ثم بعد ذلك أصبح أستاذًا للفلسفة في (هايدلبرج)
،ليعود 1964 لجامعة (فرانكفورت ) أستاذًا للفلسفة وعلم الاجتماع ،ومع سقوط جدار برلين رأى العين في اتحاد
ألمانيا ،ويوما بعد يوم ازداد اهتمامه ب(جون رولز) وخاصة فيما يخص مفهوم
الليبرالية ،ورغم التعقيدات الكبيرة في المناخ السياسي والفكري لخمسين عامًا
الماضية ،إلا أن هناك تواصل مدهش في الرؤية الفكرية والسياسية لهابرماس .(مأخوذ من
كتاب جيمس جوردن فينليسون ،يورغن هابرماس ،تر: أحمد محمد الروبي ، مؤسسة الهنداوي للتعليم والثقافة ،مصر ،ط1
،2015 /ص9إلى 16).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق