العقلانية التواصلية نحو ترميم الحداثة - الشيخ ابراهيم مصطفى - مدارات ثقافية

احدث المواضيع

الخميس، 7 نوفمبر 2019

العقلانية التواصلية نحو ترميم الحداثة - الشيخ ابراهيم مصطفى


هابرماس وسؤال التقنية:
    يقيم هابرماس الربط بين التقنية والعقلانية الأداتية معتبراً أن الأولى نتاج للثانية، أين تتحول التقنية إلى إيديولوجيا سائدة ومسيطرة معتبراً أن هذه الأخيرة كامنة ضمن أسلوب التفكير العلمي والتقني الحديث حيث ينظر هذا الأسلوب ينظر إلى الطبيعة ويتعامل معها بوصفها مجالاً للوسائط ومادة للتحكم، إن مفهوم العقل الأداتي يتفق كما يبرز هابرماس مع مفهوم العقل التقني أين تغدو التقنية إيديولوجيا تعكس مشروعاً للسيطرة على الطبيعة وكذا على الواقع الإجتماعي الإنساني موضحاً أن العلم والتقنية قد تعاظماً إلى درجة أصبحا معهما قوى إنتاجية ويسعى إلى تحليل عوامل التلاؤم بين نتائج العلمية وإيديولوجية ضعيفة، إن هابرماس يدعو الفلسفة في إجراءاتها النقدية إلى ضرورة أن تدمج العلوم الإجتماعية والأفق السياسي للنقد، فقد استصاغ  هابرماس وجود علاقة بين المعرفة والمصلحة، في سياق تسعى فيه الحداثة التقنية إحداث نوع من التماهي بين المعرفة والسلطة بين المعرفة والسلطة، بين الفكر ومختلف المصالح التي ينبني عليها المجتمع الحديث بل في زمنٍ " أصبحت فيه التقنية والعلم..ليس فقط القوة المنتجة الأولى التي توفر شروط وجودٍ سالم ومطمئن ولكنها غدت شكلاً جديداً من الإيديولوجيا تضفي الشرعية على العنف الإداري"[1].
       تشير التقنية إلى دوافع السيطرة والناتجة عن الرغبة في السيطرة على الطبيعة، التي دعت إليها عقلانية الحداثة، فهي لم تعد تشير إلى السيطرة على الطبيعة وحسب وإنما تعدت ذالك نحو السيطرة على الإنسان ذاته لينقلب بذالك دوره من الموجِه إلى الموجَه، " فمصطلح الأداتية عند هابرماس مضمونين إثنين، حيث يحمل أحدهما أسلوباً لرؤية العالم، والمضمون الثاني يمثل أسلوباً لرؤية المعرفة النظرية "[2]،يستشف هابرماس البحث ضمن مضامين التقنية والكشف عن الوهم التقني ومضمونه، " ذالك أن التكنولوجيا تضفي على الأشياء صفة الأدوات وتحولها إلى مجرد وسائل فتصبح بذالك مجرد وسائل لتكون عائقاً أمام التحرر إذ يتحول الإنسان ذاته إلى أداة "[3]، فالتقنية مشروع تاريخي واجتماعي يعكس توجهات وإرادة المجتمعات و المصالح المسيطرة أن تفعله بالبشر و بالأشياء ومنه هنا تطلب ضرورة البحث عن مضامين الهيمنة للنزعة التقنية فهذه الأخيرة كما يعترف بها هابرماس" قد أطبقت على العالم المعيش واستفردت به من جميع الجهات، فهو يقر بأننا نعيش عصر الرأسمالية المتقدمة القائمة على التقنية بل إن شرعيتها أصبحت مستمدة منها فلا سبيل إذاً إلى الهروب منها إلى جداريات الماضي وأطلاله " [4]، وتبدو قوة التقنية وصلابتها من حيث قدرتها على النفوذ والاستمرارية، فهي تمتلك القدرة على افتكاك شرعيتها، حيث أنها تختلف عن الإيديولوجيات التقليدية من أجل تبرير شرعيتها كما أنها تتصف ببعدها العالمي والعابر للحدود إنها قوة تتأسس معها إذ هي قوة سيطرة ناشئة ضمن ماهيتها " فقد استطاعت أن تخلق مصالح مرتبطة بوجوداتها بين جميع الطبقات والشرائح المختلفة، بل اخترقت حدود الجغرافيا والأمم، جميع حدود الطبقات والدول وحدود الأديان والمعتقدات والإيديولوجيات "[5]، تتلبس التقنية بلباس الإيديولوجيا بفضل إرتباطها بالعلم حيث يجسد تلاحمهما نوعاً من الإيدولوجيا، فقد تحول العلم في زمن الحداثة إلى قوة إنتاج ذات وظائف تعددية، ما يخول له أن يكون قوة ايديولجية تمنح المشروعيىة للنظام الإجتماعي والسياسي الحديث المؤسس على عقلانية تقنية " وقد حاول هابرماس ضمن نصه الأساسي الذي خصصه للتقنية ضمن كتابه "التقنية و العلم كإيديولوجية"أن يستأنف أبرز أطروحة دافع عنها ماركيوز ويناقشها ألا وهي الإعتقاد بأن التكنولوجية تضفي على الأشياء صفة الأدوات"[6].
   تنزاح التقنية في المجمعات الغربية ممتداً مداها على كافة مؤسسات المجتمع وأبنيته أين تفقد هذه المؤسسات فيغدو بذاك منطقها الوحيد تكريس الإنتاجية التي تتموضع فوق كل مصلحة، وكل عقلانية تكنولوجية تتضمن قوة سيطرة داخلها تخضع كافة الأبعاد إلى أبعادٍ شيئية،وتغيب أبعاد الإنسان وقيمه الوجودية و التحررية " ففي المجتمعات الرأسمالية المتقدمة صناعياً تتجه السيطرة إلى أن تفقد طابعها القمعي الهيمني لتتحول إلى نوعٍ من السيطرة المعقلنة من دون أن تتخلى مع ذالك عن طابعها السياسي أو تفقده "[7]، تتحول آليات القمع المعاصرة إلى نوعٍ مغاير  من تجلياتها أين يخضع الأفراد من خلالها إلى انزياحاتها عبر الإندماج في سلطة الإنتاج والتوزيع، ومنه فإنه يتولد شكل من السيطرة يتخذ صفة الشمولية التي تضفي من خلالها التكنولوجيات المعاصرة صيغة عقلانية على ما يعانيه الإنسان وعلى ما يتلاقاه من ضغوط واكراهات التقنية التي توهم الإنسان باكتساب حريات أوسع "فإن العقلانية التكنولوجية لا تضع شرعية السيطرة موضع إتهام وإنما هي تحميها بالأفق الأداتي الوسيلاتي لنزعة العقل الذي يقود إلى مجتمع كلياني مستبد وقد أضيفت عليه الصفة العقلانية "[8]، إن أشكال الهيمنة الجديدة تتوالد بفعل الدور والمكانة التي ينالها العلم بوصفه قوة إنتاجية، وبالتالي فإن إعادة إسنطاق مدلولات الهيمنة داخل التقنية أمر مطلوب من أجل كشف ألا منطوق فيها وتميز الأبعاد العقلية من ألاعقلانية فيها.     
المعرفة والمصلحة:
   يتحرر الخطاب النقدي عند هابرماس من النزعة الوضعية مبدياً عداءه الشديد لنزعتها المحافظة والمتصالحة مع الإطار الاعقلاني للسيطرة التقنية ضمن إتحادها مع العلم، وفي إقصائها الاواعي لحدود التأمل الفلسفي وإلتفاتها المبالغ نحو الواقع وحدود المعرفة العلمية، إن التقنية لا تؤسس استقلاليتها خارج الحسابات السياسية ومنه فإن الوضعية تقيم دعماً إيديولوجياً لاستمرارية الحداثة التقنية، فقد وجب الالتفات إلى الوضعية وإثبات تهافتها كسبيلٍ نحو إلغاء النزعة التقنية التي تحيل كل من المعرفة العلمية والتقنية إيديولوجية" يذهب هابرماس إلى أن ما جعل من العلم قوة إنتاج ذات شأن في المجتمع المعاصر المتقدم، ارتباطه بالتقنية والصناعة الحربية والتصنيع المدني والتسير الإداري وعملية صنع القرار واتخاذه وهذا ما جعل العلم يتعرض لعملية تسيس هو والتقنية، مثلما جعل السياسة تتعرض لعملية علمنة، فلقد أصبح التقدم العلمي والتقني المحرك الحقيقي لتوسع قوى الإنتاج، مما كرس الأطروحات الوضعانية التي تصب جميعاً في مماثلة المعرفة بالعلم ومماهتها به " [9]، تُلبس الوضعية لباس الشرعية على تلك الممارسات ألا عقلانية للنظام السياسي والإجتماعي القائم على العقلانية التقنية تحت ذريعة النجاعة، ولهذا الأساس دعى هابرماس إلى إعادة إحياءٍ للنظر الفلسفي المناهض للوضعية والتأسيس لسؤالٍ إبستيمولوجي يُثبت القيمة المعرفية للعلم خالٍ من الإيديولوجيا.
   يعترف هابرماس ضمنياً بقيامِ علاقة مؤسسة تجمع المعرفة والمصلحة متجلياً ذالك ضمن تلك الدوافع والغايات المتوخاة من المعرفة وانطلاقاً من هذا التحديد، يصف هابرماس ثلاث مصالح ترتبط بثلاث أصناف من العلوم وهي: 1- علوم تجريبة تحليلية:وتتضمن مصلحة معرفية تقنية Sciences empirico – analytiques . 2- علوم تاريخية هيرمينوطيقية: وهي التي تتضمن مصلحة علمية historico – herméneutiques.  Sciences3- علوم نقدية: crtiques Sciences. الأولى أداتية وهي التي تنظم العلوم التجريبية وتتحدد هذه العلوم إنطلاقاً من كونها قابلة للإستغلال التقني، أما الثانية فمجالها يتضمن التواصل بين البشر وحقلها العلوم التاريخية والتأويليىة التي تنطلق من فهم المعنى وتأويل النصوص والخطابات، أما الثالثة فإنها تتضمن مصالح من أجل التحرر ومجالها العلوم الإجتماعية النقدية،" فالمصلحة من أجل الإنعتاق توفر الإطار والمرجعيات للفرضيات النقدية بإعتبار أن التأمل النقدي يحرر الذات من سلطة الأصنام والأوهام وقوى الجمود"[10] ففي المصلحة التحررية تجد الفلسفة مكانتها والتي يدعوها هابرماس إلى ضرورة التصدي لكافة أشكال الهيمنة التقنية التي تشيئ البعد الإنساني وتعمل على تحويله إلى سلعة، فعللا الفلسفة أيضاً أن تنشئ حوار مع أبنية المجتمع وأطرفه المؤسسة له والرقي بالواقع الإجتماعي، كما أن الفلسفة مدعوة لدى هابرماس إلى إعمال نقدٍ يوجه النشاط العلمي والتقني وتنظيمهما، " فإن مجمل المسائل الحاسمة المتعلقة بتطور المجتمع الصناعي المتقدم لم تعد إلا شأناً من شؤون التحليل التجريبي والتحكم التقني،و أنها تخرج عن نطاق أي جهدٍ لعقلنتها وذالك بسب خضوعها لقرارات إعتباطية أو لإكتفائها بطبطٍ ذاتي تلقائي "[11]،ويعمل النقد الفلسفي على إزالة الغطاء المؤدلج للمارسات التكنوقراطية التي تتكئ على قاعدة تحركها النزعة العلموية وتدعمها، ثم إن النقد الفلسفي مدعو نحو توسعة نشاطه بإجراء حوريات مع مختلف العلوم العملية والاجتماعية متجاوزاً بذالك النظرة الشمولية والإقصائية للوضعانية " فإذا قدر لفلسفةٍ لا يطرح بشأنها السؤال: ما الفائدة من الفلسفة أن توجد فلن تكون إلا فلسفة غير علموية حول العلم؟"[12]، لا تتنامى القيمة الفلسفية إلا من خلال الممارسة السياسية، ذالك أن مستقبلها مرهون بالممارسة السياسية وما دامت الفلسفة شكلاً من أشكال التفكير النقدي فالمهمة الأكثر نبلاً التي تسند لها تتمثل في إعمال نقدٍ جذري للنزعة الموضوعاتية بكافة أشكالها ومحاربة ما تكتنفه من إستقلالية إيديولوجية، إن مراهنة هابرماس على الفعل النقدي جعلته يقوم بإقصاء كافة النزاعة التي تكبت السؤال النقدي وفي مقدمتها النزعة الوضعية التي تطرح العلم بوصفه النشاط الوحيد القادر على إضفاء المعاني، ومنه فإن الفعل النقدي يكون على رأس أولويات البحث الفلسفي.
العقلانية من الأداتية إلى التواصلية:
       يستشف مشروع هابرماس النقدي تأسيس فعلٍ نقدي تجاوزي يقصي مظاهر الأزمة نقد تصالحي لا يرفض المكتسبات الحداثية بقدر ما يعمد إلى استكمال مسار الحداثة عبر  إصلاح تصدعاتها وتقويتها، ومنه كان السبيل للإنفلات من هيمنة الأداتية مرتبطة بتأسيس فعل بديل عنها وهو ما يحدده هابرماس في المشروع التواصلي، ويعتبر مفهوم العقل الأداتي أبرز المفاهيم التي هاجمها هابرماس بفعل المكانة المركزية التي تتبوائها في الفكر الغربي أين يقيم هابرماس تميزاً بين العقل العقلين مبرزاً اختلافهما، بانياً أولويته النقدية على العقل التواصلي الذي يتأسس كاجتيازٍ لحدود العقل الأداتي Instrumental raison ومتحرراً من سلطته فالعقل الأداتي كما يشير هابرماس يتضمن أسلوباً اختزالياً وهو مفهوم تناولته العديد من الفلاسفة ومارس الحضور ضمن مشاريعهم النقدية ( هوركهايمر، أدورنو ، ماركيوز )، إن العقل الأداتي عقل يستمد ماهيته وأسسه من القواعد التقنية القائمة على معرفة تجريبية، وهو يبرز ظاهرة التمركز والانشغال بالميادين العلمية " ويبين هابرماس أن حركة التطور العلمي في عصر الأنوار قد أدت إلى ظهور هذا العقل ويوضح الأسس التي أدت لظهور العقل الأداتي، ومنها الأليات التي وضعها وأرساها النظام الحديث أو بالأحرى المجتمع الحديث " [13] .
نقد العقلانية الأداتية:
      يؤسس هابرماس خطابه النقدي قارئاً للحداثة عبر وقوفه على المضامين السلبية التي أفرزها المشروع الحداثي الغربي، غير أن هابرماس في نقده للحداثة ينحرف عن المسار النقدي الذي رسمه فلاسفة فرانكفورت الأوائل رافضاً نزعتهم النقدية المتشائمة والعدمية كما يرفض جملةً وفي ذات السياق خطاب ما بعد الحداثة، ينطلق هابرماس من موقف المحافظ والمؤيد تجاه الحداثة فهابرماس لا يرفض مكسب الحداثة الأول بقدر ما ينقلب على مفرزاته السلبية والمتمثلة في الأداتية، أو تلك النزعة ألا عقلانية الناتجة عن إنحرفات الاستخدام الخاطئ والواعي للعقل فبالرغم من عدم تنكره لصورة العقل الأداتية والنفعية التي أضفت مكاسب للإنسانية ليس بالإمكان التخلي عنها، وهي تقود مسار الإنسانية نحو التطور والنماء في كافة أصعدته الحضارية، فالعقلنة لدى هابرمس تشير إلى ذالك الاستعداد الذي تبرهن عليه ذوات تكون قادرة على الكلام والعمل واكتساب وتطبيق معرفة قابلة للخطأ، إن انقلاب هابرماس يمس بالأساس مظاهر التقنية والاوعي الناتجة عن العقل الأنواري والقائمة على قواعد الحساب والتكميم كما يعتبرها هابرماس الفعل الغائي يجعل الإنسان يختار مجموعة من الوسائل والأدوات التي تحقق النجاح قصد تحقيق غاية معينة فالمركزية الغربية تركز على العقلانية الأداتية المتشبعة بالبعد الغائي، تقصي الابعاد الأخلاقية والقيمية والتي تشكل معاني التواصل بين ذوات المجتمع، ومن هنا فإن مشكلة الحداثة بمنظور هابرماس عقلانية أداتية تجاوزت كافة الحدود " إن ماهو نموذج بالنسبة لهذه العقلانية لا تكمن في علاقة الذات المنفردة مع العالم الموضوعي القابل للتجسيد والإستعمال، بل ماهو نموذج هو العلاقة التداولية التي يقيمها الناس القادرين على الكلام، وعلى الفاعلية حينما يتفاهمون بينهم حول شيئٍ معين "[14]. 
    يؤسس هابرماس محاولته نحو إعادة بناء العقلانية الغربية، ذالك أن الحداثة الغربية قد إرتبطت بمبدأ الذاتية والعقلنة التي تعد السمة الملازمة لها، أي بمعنى إخضاع كل شيئ لقدرة العقل ومحكه، والتي هي بحث مستمر عن الأسباب والعلل، " ومن ثمة إرتباط مبدأ العلة أو السببية بمبدأ العقل وهنا يصبح كل من الواقع الطبيعي والواقع التاريخي معقولاً وعقلانياً بالنسبة للذات وهكذا يصبح كل شيئ محكوماً من طرف العقل "[15] فالأداتية بسيادتها للأنظمة والتسير المؤسساتي، إنما تشكل شكلاً من أنظمة السيطرة، فالحداثة بإرسائها للعقلانية الأداتية تؤسس نزوعاً نحو السيطرة على الطبيعة عبر إستعانةٍ مفرطة ولا واعية بالتقنية، فهي تمتلك بذاك إرادة للسيطرة والهيمنة، وقد جسد ذالك وخلق دوافع لدى مجتمع ما بعد الحداثة، تضع المشروع الحداثي موضع تساؤل نقدي يحمل عدائية ورفض مطلقاً للنوازع الاعقلانية .
   إن سلبية العقل الأداتي تستساغ من خلال الوظيفة الاختزالية التي يعملها في حق كل من الإنسان والطبيعة، فهو ينظر إلى الواقع والإنسان بوصفهما أشياء محددة تقاس بالمعايير الحسابية والكمية، ولابد من نقد هذا العقل عبر تغيير معطياته التجريدية للأشياء، كما أن العقل الأداتي يحكمه مبدأ الشمولية، حيث يخضع أبعاداً متعددة لسلطته، فهو يدمج إلى جانب البعد العلمي الأبعاد الأخلاقية والجمالية، فالبعد الأداتي مقدم على الأبعاد الأخرى، ذالك أن العقل الأداتي" هو نتاج إنشطار واغتصاب، أي نتاج سيرورة إجتماعية فقد وصفها أدورنو وهوركهايبمر وفوكو بأنها سيرورة الذاتية بوصفها تتجاوز قواها وتتشيأ "[16]، وبناءاً على هذه الإعتبارات كان العقل الأداتي تعبير واضح عن الدور المركزي والمحوري الذي جسده تأثير هذا العقل في المجتمعات الغربية المعاصرة ( الرأسمالية ).
العقل التواصلي:
   حفاظاً على استمرارية الحداثة وكدفاعٍ عن المشروع واستكمالاً له ينشد هابرماس صياغة نظرية في الحداثة متنامية الأهداف، تكون أكثر نجاعة وفاعلية، بحيث تبتعد بنقدها عن النظريات الميثالية والطوباوية، إن العقل التواصلي هو عقل تحرري يتأسس كنقد للعقل القائم على أليات تداولية للغة ويستعين هابرماس في بناء نظريته في العقل التواصلي عبر الإستعانة بموارد مختلفة أهمها " الدرسات الإجتماعية لهنتر ميد والنظرية اللغوية لفيتغينشتين وبخاصة فكرة أن اللغة مبدأ العقل "[17]، وفي تعريفه للتواصل ينقلنا هابرماس إلى تعريف جان كازانوف Jean Cazaneuve  فيعرفه لأنه " جعل الشيئ مشتركاً Commun أي الإنتقال من حالة فردية إلى حالة جماعية أو إجتماعية عبر الفعل الأزمة " اتصل" الذي يتضمن من بين ما يتضمن الإخبار الإبلاغ والتخاطب كما يقوم بنقل الرسائل والرموز المحملة بالدلالات والمملؤة باالإيحات، ثم إن التواصل بما هو نشاط تبادلي وعلائقي فإنه يتم بصور شتى كالأصوات، الإشارات والصور لكن التواصل اللغوي يبقى أرقى أنواع التواصل ومن هنا تطرح الطبيعة الإيتيقية للتواصل أولنقل من هنا نصل إلى بعث إيتيقا معينة للتواصل ما دامت رسائل التواصل المتبادل بين المرسل والمتلقي، غير بريئة، فهو وبمقدار ما هو أداة للتفاهم والتحاور قد يكون وبالمقدار ذاته أداة للصراع والخصام ومجتمعات اليوم تقدم لنا أمثلةحية على ذالك "[18].
  إن العقل التواصلي يبرز ويوضح العلاقة القائمة بين اللغة وفعل التواصل ذالك أن اللغة ذات دور محوري تلعبه في إقامة وتأسيس فعل التواصل، باعتبار أن التواصل عملية تقوم على نقل المعلومات بين مرسل ومستقبل وهنا تكمن أهمية اللغة والتي تحمل في جوهريتها معانِ التواصل والذي تتأسس إعتباريته مع اللغة ذاتها فهو أحد أوجهها، ويعرف هابرماس فعل التواصل بقوله:" قد أسمي التواصل مجمل الترابطات التي يتفق حولها المشاركون من أجل تحقيق مخطط أعمالهم بطريقة ذكية أو فعالة، والإتفاق الحاصل يتحدد بمقدار المعرفة الخاصة بين الذوات وشروط الصحة أو متطلبات الصدق "[19].
 يستشف هابرماس إقامة فعلٍ تواصلي يتجاوز العقلانية الأداتية، فعلُ مُوجِه لا مُوجَه حيث ينطلق مشروع هابرماس النقدي التواصلي عبر تحليله لكافة الأبنية المُكونة للمجتمع وعلاقة العقل بها، إن مسعى هابرماس هو التأسيس لعقلانية تواصلية تجمع إليها كافة الأبعاد والقيم أين يتم الالتفات إلى الأبعاد كلها دون استثناء فيتم الإرتباط بين ماهو أداتي أخلاقي وجمالي، وبذالك يخالف هابرماس التصور الفيبري وينقلب عليه من خلال تركيز هذا الأخير على البعد التقني والعلمي على أولوية العلم الأخلاقي والجمالي، فهابرماس يرفض اقصاء وتهميش القيم من طرف فيبر ويعيد بذاته نفس التقسيم عبر التأسيس لعقلانية اجتماعية تعقلن العالم المعيش للإنسان والتي تجتمع فيها كافة القيم، كالعلم والأخلاق والجمال، بحيث يخضع هذا الكل لعقلانية تواصلية، ذالك أن الفعل التواصلي تخذ من الأداتية ركيزةً له في بناء نظرية للمجتمع " إن هابرماس يؤمن بمحدودية الإطار الذي وضعت فيه العقلنة، ولذالك فإن ارتباط العقلانية بالغائية وبالنشاط الأداتي لا يقلص من قيمة وأهمية المفهوم الفيبري لدى هابرماس سيما وأنه ( فيبر ) جعل مفهوم النشاط العقلاني يحيل إلى مقولات عملية منظمة اجتماعياً "[20] 
      يحاول الفعل التواصلي عند هابرماس تحرير الفضاء العمومي وتنقيته من المخلفات الإيديولوجية بعد أن تحول كل من العلم والإيديولوجية إلى أدوات للهيمنة والسيطرة عبر إقامة فعل تواصلي ضمن نظرية اجتماعية تتآلف داخلها العلوم الإجتماعية، وعن طريق توظيف اللغة وذالك بغية التأسيس لفكر عقلي نقدي " فالفعل التواصلي لدى هابرماس يتميز بطابعه المحدد للعلاقات التواصلية التي لا يمكن بأي حالٍ من الأحوال ردها واختزالها إلى مجرد تبادل المعلومات أو الإخبار أو المعطيات بواسطة اللغة"[21] كما أن الفعل التواصلي لا يقوم على تبادل المعلومات ضمن سياق أو ظروف اجتماعية معينة فقط، وإنما يقوم بفعل التأويل لما يحدث، ونستطيع بلورة القواعد والأليات التي تسمح بالعيش الجماعي أو قيام الحياة الإجتماعية وبالتالي فإن الفعل التواصلي يسهم في بناء العالم الإجتماعي المعاش[22] 
يقوم الفعل التواصلي على جملة شروط وقواعد ينبني عليها ويتحدد وفقاً لها، ودونها لا تقوم نجاعته، فإن أبرز أولويات الفعل التواصلي تتجسد في اعتماده على فعل اللغة باعتبارها محركاً وهمزة وصلٍ لتحديد العلاقات الإجتماعية القائمة بين أطراف التبادل بين الملقين والمستقبلين، فالأساس في الفعل التواصلي قائم في حركة التداول بين الأفراد الذي يطرح بدوره عوامل النقد وأساليب الحجاج بين المتحاورين أثناء المحادثة، ومنه فقد ركز هابرماس على تحديد قواعد وضوابط لغوية يتم التوافق عليها بغية إنجاح الفعل التواصلي، فاللغة تعد شرطاً أساسياً وضرورياً حيث تعمل على تفعيل الخطاب التواصلي وتتيح سبل النقاش الذي يقيم ويطرح الرؤى المختلفة والمتباينة للتداول، ذالك أن فلسفات الوعي بالمنظور الهابرماسي لم تعد تمتلك الآليات لبلوغ الحقيقة وإدراك المعنى، ذالك أن خطابها خطاب متعالٍ ميتافيزيقي،وفي الأصل فإن شروط استيفاء معيارية الحداثة وإعادة تعديل مسارها يقتضي إزاحة تلك التصورات الذاتية الميتدولوجية ذات الإطار الضيق والمنطوية تحت براديغم الذات ثم ضرورة الوثوق بالمعيار العقلاني الحداثي عبر استثمار عقلاني ضمن الممارسة اليومية تحت إطار العقلانية التواصلية،ويستلهم هابرماس معيارية اللغة ودائماً في إطار نزعته التوفيقية عبر حوارات متعددة مع عديد المفكرين، أمثال فيتيغنشتين Wittgenstien1889-1951. وجون أوستين 1911-1960 بالإضافة إلى إسهامات هينتر ميد ضمن أطروحته التي يؤكد من خلالها على أن اللغة هي في الوقت نفسه الأساس والشكل لكل مجتمعٍ إنساني وأنها تحق ذالك بشكل  تداولي، فقد أكد هابرماس على فعل الكلام أين تؤسس اللغة جملة الإستراتجيات التي يتعامل من خلالها الناس في بناء أفعالهم التواصلية، ويقف هابرماس عند نظرية"أفعال اللغة" عند فيتغنشتين وكذا تلميذه أوستين الذي طورها ضمن كتابه " كيف تفعل أشياء بالكلمات " فقد استخدم هابرماس تلك الأفعال في أن البرغماطيقا العامة معنية بتحليل اللغة المستخدمة بوصفها فعل إستراتيجي،وفعل تواصلي ومثل هذا الإستخدام" ...فمن بين الأصناف الثلاثة من أفعال الكلام التي تناولها أوستين فإن الفعل" الأداتي الإنجازي الإنشائي "هو الذي يهم هابرماس بالدرجة الأولى"[23] إن الرهان الذي يهدف هابرماس تحقيقه يكمن في التأسيس لخطابٍ فلسفي راهني لا تخرج مقولاته عن مقتضيات العصر أين تسعى اللغة نحو بناء البنى الإجتماعية ضمن عقلانية تتضمنها اللغة ذاتها فهي تخلق نسقاً اجتماعياً ديمقراطي يقتضي المشاركة من قبل كافة أطراف المجتمع،" لقد توصل هابرماس إلى القول بأن فكرة المجتمع ذاتها مرتبطة إرتباطاً وثيقاً بالمبدأ الأخلاقي الذي يفترض ضرورة الربط المعقول مابين القول والفعل[24]
   فعملية التواصل عملية تتجاوز تلك العلاقة الترابطية التي تقيمها اللغة عبر نقل المعلومة من مرسل إلى متلقٍ بواسطة قناة الإتصال (اللغة) إذ أنها تشير إلى دلالات تأويلية،فيعرف هابرماس الفعل التواصلي بقوله " أسمي  التواصل مجمل الترابطات التي يتفق حولها المشاركون من أجل تحقيق مخطط أعمالهم بطريقة ذكية أو فعالة والإتفاق الحاصل يتحدد بمقدار المعرفة الخاصة بين الذوات وشروط الصحة ومتطلبات الصدق"[25] فالفعل التواصلي عند هابرماس هو فعل تجاوزي لا أداتي يرمي إلى الوصول نحو الفهم والتفاهم ولا يقبل فهماً فرضياً على أو من طرف أحد المشاركين ضمن عملية التواصل، فالفعل التواصلي يفترض دوماً إمكانيات متعددة من خلالها يطرح الحجاج والمناقشات المنطوية على إمكانات الرفض أو القبول بين المتحاورين ذالك أن هذه الإمكانات تعد شروطاً أساسية وضرورية لا يتأسس الفعل التواصلي بدونها، من هنا يؤكد هابرماس على ضرورة إنشاء شروط تداولية تتسم بطابعها التوافقي والشمولي ولا يتم ذالك إلا عن طريق الإهتمام باللغة، حيث يفترض هابرماس " وجود لغة ميثالية ليس بوصفها قيمة ناظمة ولكن باعتبارها عنصراً حقيقياً أو افتراضيا وحاضراً في كل مناقشة"[26]ويؤكد هابرماس على السمة الوظيفية والإتفاقية لقواعد اللغة في نظريته مؤكداً على إلزامية وضع أخلاقٍ للمحادثة، تؤطر العملية التواصلية قبل أن تتحول مسألة أخلاق المناقشة إلى حوارٍ معمق جمع كل من هابرماس وزميله كارل آتو آبل " فقد لخص هابرماس قواعد المحادثة أخلاقياً وسياسياً في قاعدتين أساسيتين هما:قاعدة "U" أو القاعدة الكونية العالمية Universalité والتي يتمثل منطوقها بأن كل قاعدة لكي تكون صالحة يجب أن تستوفي الشروط سواء من حيث نتائجها أو من حيث أثارها الجانبية، وأن تلقى القبول من كل الأشخاص الذين لهم علاقة بها، أما القاعدة الثانية فهي قاعدة الديمقراطية"D"Démocratie  ويتمثل منطوقها في أن أي قاعدة لا تملك الصلاحية إلا إذا كان المعنيون بوصفهم شركاء في المحادثة العملية بشأن تلك القاعدة، متفقين عليها فيما بينهم "[27].
ينشأ سجال فكري واسع النطاق بين آبل و هابرماس حول مسألة أخلاقيات المناقشة وضوابطها ودورها في تأطير الفعل التواصلي، فإن هذا الأخير وباعتبار طبيعته التي تؤسس لأفعال التفاهم والاتفاق فهو يطرح تحديدات ويتعرض لمعوقات قد تحول دون تحققه أهدافه، فما دام الفعل التواصلي قائم على بعث رسائل تبادلية بين المرسل والمتلقي،يمكن أن يكون الفعل التواصلي بالمقدار ذاته أيضاً أداة لخلق الصراع والإختلاف، ويتأسس مثار الجدل بين آبل وهابرماس ويعود تحديداً إلى مسألة اليقين بالنسبة لمرجعية المناقشة، وهو الشأن الذي يصرح به آبل فالمشكل " يعود بالأساس إلى ما يمكن أن يحصل عليه من إجابة حول السؤال التالي: هل يكفي لقيام مناقشة فلسفية الرجوع إلى نفس موارد التفاهم المتبادل الموجودة في العالم المعيش؟بمعنى أخر العودة إلى يقينيات لا يمكن أن توضع موضع شك"[28].
    يستفيد إذاً العقل التواصلي من معطيات العقل النقدي من حيث قدرة هذا الأخير على نقد واستبدال النتائج السلبية التي خلفها العقل الأداتي فهو يطرح البدائل من خلال ما يملكه من قدرةٍ على فتح أفاق بين ذاتية والتواصل مع الأخرين، وهو عقل ينبذ كل أشكال الفردانية والتسلط ويعوضها مفهوم التصالح والتفاعل الإجتماعي، ومنه يعتبر هابرماس أن إنكار العقل ونبذ سلطانه أو إعلان موته وإدانته أمر فيه مبالغة، أين ينبغي ضرورة الإيمان بقدراته النقدية والتجاوزية، وكذا قدرته على الإصلاح والبناء، فالعقل التواصلي عقل تجاوزي يتجاوز سلطان العقل الحسابي فهو عقل تواصلي يتجاوز الذات الضيقة ليكون نسيجاً من الذوات المتواصلة التي تتجاوز ذاتيتها.
  ---------------------------------------------------------------------

[1] نور الدين أفاية، الحداثة والتواصل، مرجع سابق، ص 154.
[2] هابرماس يورغن، العلم والتقنية كإديولوجيا، مصدر سابق، ص47.
[3] هابرماس يورغن، العلم والتقنية كإديولوجيا، مصدر سابق، ص 48.
[4] نور الدين أفاية، الحداثة والتواصل، مرجع سابق،ص 107.
[5] المرجع نفسه، ص 107.
[6] حمدي أبو النور حسن، يورغن هابرماس الأخلاق والتواصل، دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت لبنان،2012. ص76.
[7] سالم يفوت، المناحي الجديدة للفكر الفلسفي المعاصر، دار الطليعة بيروت لبنان، الطبعة الأولى، 1999. ص 94.
[8] المرجع نفسه، ص95.
[9] المرجع نفسه، ص 101.
[10] سالم يفوت، المناحي الجديدة للفكر الفلسفي المعاصر ، مرجع سابق، ص 104.
[11] هابرماس يورغن، الفلسفة الألمانية والتصوف اليهودي، ترجمة نظير جاهل، الطبعة الأولى، المركز الثقافي العربي، بيروت 1995، ص 43.  
[12] هابرماس يورغن، الفلسفة الألمانية والتصوف اليهودي، مصدر سابق، ص 45.
[13] سالم يفوت، المناحي الجديدة للفكر الفلسفي المعاصر،مرجع سابق، ص 133.
[14] Habermas:théorie de l'agir communicationel,op cit p395.
[15] Ipid , p22.
[16] هابرماس يورغن ، القول الفلسفي للحداثة، مصدر سابق، ص482.
[17] الزاوي بغورة ، مابعد الحداثة والتنوير، مرجع سابق، ص240.  
[18] هابرماس يورغن، إتيقا المناقشة ومسألة الحقيقة، ترجمة عمر مهيبل، منشورات الاختلاف، الجزائر، الطبعة الأولى،2006، ص8-9.
[19] الزواوي بغورة ، مابعد الحداثة والتنوير، مرجع سابق، ص 242.
[20] آفاية نور الدين، الحداثة والتواصل، مرجع سابق، ص179.
[21] المرجع نفسه، ص243.
[22]  المرجع نفسه، ص243.
[23] مجموعة من المؤلفين، الفلسفة الغربية المعاصرة، ( صناعة العقل الغربي من مركزية الحداثة إلى التشفير المزدوج) ، مرجع سابق، ص55.
[24] المرجع نفسه، ص241.
[25] الزواوي بغورة، مابعد الحداثة والتنوير، موقف من الأنطولوجيا التاريخية، (دراسة نقدية)، مرجع سابق،ص242.
[26] الزواوي بغورة، مابعد الحداثة والتنوير، مرجع سابق، ص244.
[27] المرجع نفسه، ص244.
[28] آبل كارل أتو، التفكير مع هابرماز ضد هابرماز، ترجمة وتقديم،د عمر مهيبل، منشورات الإختلاف، ص07.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق