الجغرافيا الماركسية: من الإهمال إلى التجديد - معين حداد - مدارات ثقافية

احدث المواضيع

الجمعة، 21 فبراير 2020

الجغرافيا الماركسية: من الإهمال إلى التجديد - معين حداد


في الستينات من القرن العشرين شهدت الجامعات الغربية حركات احتجاجية، تناولتها في حينه وسائل الإعلام على نحو واسع، أدت فيما أدت اليه، إلى بروز تيارات أكاديمية معارضة لمناهج التعليم السائدة. وفي هذا السياق عمد عدد من الجغرافيين في بعض الجامعات الإنكلوسكسونية، إلى تشكيل مجموعات مهمّتها ممارسة النقد الجذري للجغرافيا المعمول بها. ضمّت هذه المجموعات خليطاً من الجغرافيين اليساريين «المتطرفين» من أنارشيين وماركسيين... هدفهم كان في حينه وضع مناهج جديدة لجغرافيا نقدية على مختلف الصعد الأكاديمية والسياسية على السواء.
جغرافيا راديكالية
دُعيت الجغرافيا الجديدة بالجغرافيا الراديكالية نظراً إلى جذرية نقدها للأوضاع السائدة غرباً وشرقاً، في الولايات المتحدة كما في الاتّحاد السوفياتي حين ذاك، ثم صار لها دورية فصلية حملت اسم انتيبود Antipodes. لكن هذه الجغرافيا لم تحظَ بالاهتمام الواسع إلا مع العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين عندما راحت أصداء أعمال البارزين فيها تشهد اتّساعاً ملحوظاً في الأوساط الأكاديمية والسياسية لا سيما بعد أن نُقل بعض من هذه الأعمال من الإنكليزية إلى اللغات الأخرى. نكتفي هنا بالتوقف عند اثنين منهم هما بمثابة رمزين نالا شهرة ملحوظة في الوسطَين الأكاديمي والسياسي: وليم بونج (١٩٢٨ - ٢٠١٣) وديفيد هارفي (١٩٣٥ - ...)
الأول، صاحب مسيرة مثيرة جمع فيها الشأن الأكاديمي إلى الشأن السياسي العملي، مجاهداً في سبيل تحقيق أهدافه ذات الطابع اليساري المتشدّد أو المتطرف كما يقول الخصوم. وهو أميركي من مواليد ١٩٢٩ (توفي سنة ٢٠١٣)، درّس الجغرافيا في جامعة فيسكونسون ثم انتقل إلى جامعة سياتل، حيث نال فيها درجة الدكتوراه في الجغرافيا عام ١٩٦٠ ، وقد عُدّت رسالته آنذاك في «النظرية الجغرافية» من المساهمات الأساسية في ما دعي بالثورة الكمية أو الرقمية - المعلوماتية في الجغرافيا. إلا أنه بعد سنوات قليلة، تخلّى عن المنهج الكمّي والتحق بالجغرافيا الراديكالية، ثم راح يلتزم بالعمل السياسي والاجتماعي من أجل المهمّشين في الأحياء الفقيرة، وضدّ التمييز العنصري كما شارك في مختلف الأنشطة المعادية للإمبريالية الأميركية. وقد أدّى كل ذلك إلى محاصرته أكاديمياً ومعاشياً فانتقل إلى كندا، لكن أموره لم تكن أفضل مع الهيئات الأكاديمية والسياسية، فإذا به يجد نفسه سائقاً لتاكسي يجوب به شوارع مدينة تورنتو بعد طرده من جامعتها. تميّز بونج في أنه كان من أوائل الذين أضافو على النظرية الماركسية في الصراع الطبقي ضرورة الأخذ بعين الاعتبار حال المحيط الجغرافي المتهالك الذي تعيش فيه الطبقات المسحوقة. وفي هذا الصدد أدخل بونج على الأدبيات اليسارية المتشددة مصطلح «الثورة الأيكولوجية» لمواجهة ضروب الملوثات البيئية المائية والهوائية كما أدخل مصطلح «الثورة البيولوجية»، للخروج من حوافي الموت التي يعيش عليها سكان الأحياء المُزرية في بعض المدن الأميركية.
أما دايفيد هارفي الجغرافي الإنكلو أميركي، وإن بدت مسيرته أقل صخباً من مسيرة وليم بون، لكنه كان وما زال الجغرافي الأكثر تأثيراً في الأوساط الأكاديمية اليسارية ذات المنحى الاحتجاجي الراديكالي. يعود إليه الفضل في تضمين الماركسية البعد المكاني الجغرافي. نال هارفي من جامعة كامبريدج البريطانية درجة الدكتواره عام ١٩٦١. وقد تناول في أطروحته إقليم كانت kent الواقع إلى الجنوب الشرقي من العاصمة لندن، إنما تناوله وفق المنهج التقليدي.
تحوّل هارفي بعد ذلك إلى الجغرافيا الكمّية ونشر عام ١٩٦٩ كتاباً حمل عنوان «شروحات في الجغرافيا» شكّل مرجعاً أساسياً لاستخدام النظريات والفرضيات الكمية لأو الرقمية - المعلوماتية في الجغرافيا. انتقل بعد ذلك إلى جامعة جون- هوبكينز في بالتيمور في الولايات المتحدة، وإذ به شيئاً فشيئاً يبدّل من مفاهيمه في الجغرافيا ليعلن في نهاية المطاف أن الجغرافيا مهمّتها المساهمة في تغيير العالم لا الاكتفاء بمعرفته أو شرحه، بما بدا وكأنه الصدى لأقوال ماركس عن مهمة الفلسفة بهذا الشأن. عام ١٩٧٣ التحق بالجغرافيا الراديكالية، وتكثّفت مساهماته في دورية انتيبود Antipodes بحيث صار الموجّه الأكثر فاعلية للتيار الراديكالي في الجغرافيا. ومنذ ذلك الحين هيمن الفكر الماركسي في الجغرافيا الراديكالية على التيارات اليسارية الأخرى. وقد تتالت وتنوّعت دراساته ومؤلفاته عن الرأسمالية والمدينة والعولمة... وما بعد الحداثة، كلّ ذلك في سياق منهج ماركسي جديد، تعمّد من خلاله تبيان حدود المادية التاريخية في النظرية الماركسية وضرورة رفدها واستكمالها بالمادية الجغرافية
مفارقات منهجية
قد يبدو مستغرَباً أن لا يحاول الجغرافيون المنتمون إلى الأحزاب الشيوعية، قبل السبعينات من القرن العشرين، انتهاج الماركسية في إنتاجهم العلمي، كما فعل رفاقهم في العلوم الاجتماعية والاقتصادية. ولعلّ ما شهدته الجغرافيا الفرنسية في هذا الإطار يُعدّ أبلغ تعبير عن هذه المفارقة إذ أن العديد من الجغرافيين الفرنسيين إن لم يكن معظمهم، كانوا بعد الحرب العالمية الثانية إما منتسبين إلى الحزب الشيوعي أو أصدقاء سياسيين له، ومع ذلك لم يحاولوا معالجة تأثير العوامل الجغرافية على الرأسمال وهو آخذ بالتوسع في أنحاء المعمورة ولا حاولوا التحرّي عن التحولات والتعديلات التي يدخلها رأس المال على المجالات الجغرافية الوافد إليها من مراكزه الأوروبية أو الأميركية التي انطلق منها. يعود ذلك على الأرجح إلى أن الجغرافيين الفرنسيين الشيوعيين وأصدقاءهم، ساروا على خطى ماركس الذي لم يُعِر اهتماماً يُذكر لهذه الجوانب من النظام الرأسمالي.
والحال أن استحضار التجربة الفرنسية في هذا السياق، مردّه إلى أنها كانت قد شهدت تألّقاً ملحوظاً على المستوى العالمي في النصف الأول من القرن العشرين. لكنها في النصف الثاني منه دخلت في أزمة إبيستمولوجية حاول الجغرافيون الخروج منها بطَرق أبواب مختلف المناهج المستجدّة إلا المنهج الماركسي على الرغم من ارتفاع عديد الجغرافيين الشيوعيين وأصدقائهم في فرنسا آنذاك كما أسلفنا. في حين أن الماركسيين في الجامعات الإنكلوسكسونية لا سيما في بريطانيا والولايات المتحدة هم الذين تولّوا نشر الجغرافيا بالمفهوم الماركسي. تعود هذه المفارقة إلى أن هؤلاء كانوا يتحرّكون خارج الأطر الحزبية، حيث أن الأحزاب الشيوعية كانت شبه غائبة عن بلدانهم، ولم يكن لهم ارتباطات أيديولوجية من أي نوع كان مع الاتحاد السوفياتي على عكس الشيوعيين الفرنسيين. هذا الأمر وفّر لهم مناخاً حراً لتناول هذه القضايا الفكرية والابيستمولوجية بعيداً عن الحسابات الخاصة بتهم الانحراف الأيديولوجي التي كان معمولاً بها في الأوساط الحزبية، إبان الحرب الباردة في حينه
على صعيد آخر، ساهمت منطلقات الجغرافيا الأكاديمية الحديثة من جهة والماركسية من جهة أخرى إلى تباعد في الإنتاج المعرفي لكلّ منهما. ذلك أن الجغرافيا الأكاديمية الحديثة كانت انبنت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر على مبدأ الاستهداف المعرفي للتفاعل بين المجتمعات البشرية والطبيعة، وذلك بالتزامن مع انتشار البيان الشيوعي الذي كان قد أطلقه ماركس ورفيقه انغلز نهاية النصف الأول من القرن نفسه، ومنذ تلك البدايات بدت الماركسية على تباعد من الجغرافيا. فقد بنت الماركسية مقارباتها انطلاقاً من حركة التاريخ وحملت عنوان المادية التاريخية، والمادية هنا تعني هنا فيما تعنيه، عملية الإنتاج الاقتصادي إنما في سياق ما تفرزه من تناقض جدلي بين الطبقات الاجتماعية، الأمر الذي يجعل التناقض الاجتماعي متموضعاً في مركز مرمى المقاربة الماركسية. هذه المقاربة رأت أن الجغرافيا باعتمادها مبدأ التفاعل بين الانسان الاجتماعي والطبيعة، تبدو وكأنها، تتناول المجتمع متجرّداً من التفاوتات الاجتماعية الاقتصادية، فتعالج المجتمع البشري وكأنه وحدة كلية دون تفسخات داخلية في مواجهته لمكونات البيئة الطبيعية، ومن جهة أخرى تعالج مكونات البيئة الطبيعية، وإن تباينت في نسبها ومفاعيلها، على أنها تتكرر ذاتها في مختلف الأمكنة.
بمعنى آخر ظهرت الجغرافيا الأكاديمية عند التأسيس وكأنها في الموقع المضاد للماركسية بتجاهلها لقضية التناقضات الاجتماعية الاقتصادية بحيث يبدو التفاعل بين المجتمع والطبيعة وكأنه قائم بين عنصرين كلاهما خامد لجهة جوهر وجوده.
في المقابل، لاحظ الجغرافيون أن ماركس قلّما يأخذ بالحسبان دور المكان في أنماط الإنتاج ومفاعيله والتحولات التي تدخلها هذه الأنماط على المكان على ما أشرنا إليه سابقاً. وتبدّى ذلك حتى في معالجته لنمط الإنتاج الآسيوي، عندما أهمل بشكل أو بآخر تلك التحولات التي أدخلها رأس المال الأوروبي لا سيما البريطاني منه على الإقليم الآسيوي. إذ لم يتناول ماركس في معالجته للنمط الآسيوي، ما يمكن أن تؤدي إليه حركة رأس المال الوافد من أوروبا من تحولات في الجغرافيا الآسيوية. تناول ماركس نمط الإنتاج الآسيوي باعتباره نموذجاً يمكن تعميمه على مجتمعات تقع خارج آسيا انطلاقاً من أنها تتشارك في ميزة الاستبداد السياسي، متجاهلاً ما يمكن أن يدخله اختلاف العوامل الجغرافية، بين هذا الإقليم أو ذاك، من تنوع في أنماط الإنتاج. هذا وأجرى الماركسيون بعد ذلك نقاشات وسجالات واسعة بهذا الشأن إنما دون أن يمنع الفكر الماركسي من أن يبقى مصطبغاً بإهماله للبعد الجغرافي في مقاربته للتوسع الرأسمالي
على هذا الافتراق المعرفي بين الجغرافيا والماركسية صيغت أحكام تشكك بإمكانية بلورة مفهوم ماركسي للجغرافيا أو إرساء أسس متينة لجغرافيا ماركسية، غير أنه كان للجغرافيين المجدّدين رأي آخر
منطلقات التيار الجغرافي الماركسي
كان الماركسيون عموماً قد واجهوا إشكالاً تمثّل في الخيبة من مآلات التوقعات التي وردت في البيان الشيوعي في ما خص فلاح الطبقات العمالية وتقدّم الاشتراكية «العلمية» في الدول الصناعية، ثم جاء انهيار الاتحاد السوفياتي ليضفي جواً من الإحباط لدى مختلف الأحزاب الشيوعية وما يتّصل بها من مؤسسات ثقافية ونقابية ما انعكس سلباً وما زال على الإنتاج الفكري الذي تضطلع به المؤسسات الثقافية والإعلامية التي تعتمد المنطلقات والمناهج الماركسية
لكن كل ذلك لم ينَل في شيء من التيار الجديد للجغرافيا الماركسية، بل على العكس، بدت مجريات الأمور برأي الجغرافيين الماركسيين وكأنها تعزز من ضرورة استدعاء الجغرافيا والعمل بها لمعالجة ما تسبب به إهمالها في النظرية الماركسية. الإهمال الذي لم يمكّن المقاربة الماركسية من الإحاطة بالأوضاع المستجدة والمتجددة في النظام الرأسمالي، الأمر الذي ساهم إلى هذا الحد أو ذاك في تراجع فعالية الماركسية في الميدان السياسي، على الرغم من التفاقم المتزايد للتناقضات الاجتماعية الاقتصادية في مجمل أنحاء الكرة الأرضية وعلى مختلف المقاييس.
من هنا، عمل الجغرافيون المعنيون بتجديد الماركسية على كشف العلاقة بين نظام الإنتاج من جهة والمكان من جهة أخرى. والمقصود بالمكان هنا هو تلك المساحة الجغرافية التي تشكّل مجالاً لأنشطة الإنسان الاجتماعي، هو ما ندعوه بالمجال الجغرافي، والمتمثّل بالمنشآت والمباني والمراكز السكنية والإنتاجية... وشبكة المواصلات والتواصل والاتصالات والأسواق وحركة السكان وحركة السلع والبضائع والخدمات... والمبادلات والتدفقات والاستقطابات... فضلاً عن المشاعر والأفكار والتصورات، المتعلقة بالمجال الجغرافي وصولاً إلى نوعية حياة الأفراد والجماعات فيه من حيث درجة جودتها أو رداءتها.
في هذا الإطار بُنيت الرؤية الجغرافية الماركسية الجديدة على اعتبار المجال الجغرافي منتجاً اجتماعياً شأنه في ذلك شأن الطبقة الاجتماعية بالمفهوم الماركسي، وعليه فإن الرأسمالية، لا سيما بعد عولمتها، بقدر ما تشتدّ فاعليتها في تعميق التفاوتات الاقتصادية بين الطبقات الاجتماعية بقدر ما تشتد أيضاً فاعليتها في تعميق التفاوتات الاقتصادية بين المجالات الجغرافية وعلى مختلف مقاييسها (بين مجالات المدن والأرياف أو أحياء المدن والضواحي، أو المراكز والهوامش والأطراف... والأقاليم والمناطق في ما بينها...) وصولاً إلى التفاوت المتمادي بين الشمال والجنوب على تعدّد عوالم كل منهما. وعليه فإن الصراع في سبيل العبور إلى الاشتراكية بات يستدعي إلى جانب الصراع الطبقي التاريخي الأخذ بعين الاعتبار صراعاً مختلفاً، يقع على مستوى آخر هو صراع «المجال الجغرافي».
وقد استمدّت الجغرافيا الماركسية عناصر فاعليتها النظرية من مبادئ أثبتت جدواها في الحقول المعرفية الأخرى من علوم اجتماعية واقتصادية وغيرها وقوامها أن النظام الرأسمالي من سماته الأساسية أنه لا يرسو على استقرار. إنه محبوك من جملة متناقضات: بين الرأسمال والعمل، بين التنافس والاحتكار، بين زيادة الأرباح وتخفيض الأسعار، بين النمو الاقتصادي ومحدودية الموارد الطبيعية... بمعنى آخر إن النظام الرأسمالي هو في حال إنتاج دائم للتناقضات، وبالتالي فهو يذهب من أزمة إلى أخرى، والأزمات فيه ليست حوادث طارئة عليه، بل هي من صلب تكوينه
وإذا كانت التناقضات الاقتصادية الاجتماعية في سياقها التاريخي قد نالت قسطاً وافراً من المقاربات والتحليلات الماركسية تحت عنوان المادية التاريخية، فقد آن أوان النظر فيها، أي في هذه التناقضات في إطارها الجغرافي تحت عنوان المادية الجغرافية بنتائجها على مختلف الصعد الأكاديمية والعملانية، انطلاقاً من أن العوامل الجغرافية بتنوعها من مكان إلى آخر تدخل على التشكيلات الاجتماعية التي تفرزها الرأسمالية، ما يمنع عنها ذلك التجانس الطبقي العابر للدول الذي كان يُروج له، كما تكشف في الوقت عينه عن شرائح اجتماعية جديدة أو مستجدة واسعة لم تلحظها المادية التاريخية، وقد أُلحق بها، أي بهذه الشرائح، من الأضرار الاقتصادية والبيئية والحياتية ما جعلها تبدو وكأنها على وشك أن تشكل بروليتاريا من نوع جديد يضاف إلى القديم منها.
* أستاذ جامعي - صحيفة الأخبار اللبنانية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق