حوار مع الروائي إبراهيم الكوني - سامي كليب - مدارات ثقافية

احدث المواضيع

الثلاثاء، 3 مارس 2020

حوار مع الروائي إبراهيم الكوني - سامي كليب


"لم يرو لي أحد شيئا غير الصحراء، الصحراء هي الجدة التي ربتني وهي التي روت لي وهي التي دفنت في قلبي سرها ولهذا عندما أتحدث عن الصحراء أشعر بأن الصحراء مسكونة.. أشعر بأنني مسكون بالصحراء، يعني لست أنا من يسكن الصحراء ولكن الصحراء هي التي تسكنني لأن في الصحراء فقط يتجسد مبدأ وحدة الكائنات، في الصحراء تعلمت أن تكون الشجرة، أصغر شجرة أو أصغر نبتة قرين لي، في الصحراء أيضا تعلمت تحريم أن تنتزع عودا أخضر، في الصحراء تعلمت أن لا أفقس بيضة طير".
هكذا حدثني الروائي الليبي-السويسري الطارقي المبدع والشهير في الغرب  أكثر من شهرته في بلاد العرب إبراهيم الكوني. زرته في سويسرا وكان الثلج لا يزال  يغطّي بعض جوانب منزله القرميدي ويترك آثاره فوق أشجار الصنوبر وكل شيء في تلك المنطقة الساحة الواقعة فوق هضبة.
  لا شيء في هذه القرية السويسرية الهادئة بناسها والهانئة بطبيعتها والنازعة شيئا فشيئا حلتها البيضاء  يوحي بأن فيها مواطنا ليبيا من أبناء قبائل الطوارق يسافر في الأدب يقطع الجبال المواجهة فيجوب صحراءه ويعود إلى الإنسانية بكل تلك الأساطير والرسائل، وحين وصلت إلى هنا وجدته يسير كعادته كل صباح ومساء في كنف الصنوبر والسنديان وبين المروج، جسده متكئ على عصاه هنا وقلبه متكئ على مخزون الصحراء هناك الذي انجب منه اكثر من ٤٠ رواية
والكوني وفق ما روى لي ،لا تعني الكون، وانما هي  كلمة طارقية "إكنا"  وهي تعني  "يعمل" أو يشتغل أو يتقن، منها "تكنة" باللاتينية القديمة منها "تقنية" كلمة "تقنية" الحالية في اللغة اللاتينية..وهي عائلة معروفة عند الطوارق وكان احد زعماء منطقة آزير لطوارق الصحراء الموجودين في ليبيا والجزائر منها.
إبراهيم الكوني السبعيني العمر  ولد في غدامس بليبيا وبعد دراسة أدبية في بلاده قصد معهد غوركي العريق في روسيا لدراسة عليا في العلوم الأدبية والنقدية، وهو لذلك يجيد  لغات متعددة ومتنوعة.عمل في وظائف صحفية ودبلوماسية عديدة حيث كان مستشارا دبلوماسيا في السفارات الليبية في روسيا وبولندا وسويسرا وتولى رئاسة تحرير مجلة الصداقة الليبية البولندية وكان مراسلا لوكالة الأنباء الليبية في موسكو ومندوبا لجمعية الصداقة الليبية البولندية. أما الكتابة فقد بدأها وهو في الثامنة عشرة من العمر فصارت عنده رسالة والرسالة اضحتىبحثا عن الحقيقة.
 أخبرني إبراهيم الكوني ونحن نسير في الجبال السويسرية الرائعة في منطقة الألب أنه يفرض على نفسه نظاما قاسيا في الكتابة فهو يكتب عند الفجر حين تكون الطبيعة بعد في سكونها وهو في خلال كتابته التي تؤسطر التاريخ بحثا عن السر والحقيقة أو تؤرخ الأسطورة أدرك أن إتقان اللغات ضروري لفهم اللغة الأم القديمة فتعمق في دراسة لغات عديدة وتبحر في التاريخ وخصوصا تاريخ الديانات والأدب والفلسفات وكأنما في تعمقه يريد حفظ سر الطوارق لأن انكشاف السر يعني انقراض الشعب
قال لي: " إن الغربة عمق، الغربة إعادة تشكيل الروح، بحيث تعيد اكتشاف نفسك ليس خارج نفسك، يعني هي لا تعطيك شيئا من خارج ولكنها تعطيه لك منك، هي تكشفه لك من الداخل من الباطن أي انها تعري لك الكنوز التي فيك  .
· ماذا يعني لك  الوطن الأصل ليبيا أو وطن الطوارق إذا صح التعبير، ماذا تعني لك الصحراء التي تركتها خلفك؟ أهي مجرد صور باقية في الذاكرة، ام انها جزء منك ككاتب للإنسانية وليس لمنطقة واحدة؟
الكوني: لا، الوطن دائما نموذج مصغر من العالم، الوطن دائما قيمة وليس غنيمة، مشكلتنا مع الأوطان عندما نكون في الأوطان دائما أننا نعاملها كغنيمة لكننا عندما نغترب نعاملها كقيمة ولهذا، فان الذين ينقذون الأوطان أولئك الذين اغتربوا عن الأوطان وليس أولئك الذين تشبثوا بالأوطان، هذه أيضا مفارقة.
 الصحراء، الصحراء، لا شيء غير الصحراء ولا شيء أجمل من الصحراء، عالم قائم بذاته هو ذاك العالم الصحراوي الذي يستنبط منه إبراهيم الكوني شخصياته ورواياته وأفكاره والأساطير، ومن على شرفة ذاك العالم يطل على الكون. ولكن اللافت أن إبراهيم الكوني لم يعش في الصحراء غير عشر سنوات حتى ولو أنه يعود إليها بين حين وآخر، وكأن الموروث في جيناته يجعله يتذكر شيئا خبيئا منذ قرون طويلة فتتكامل في ذاته الصور والذكريات وتتوحد الديانات لتعيد للإنسان أولويته.
وعن ذلك يقول :" إن ما يزرع في الجينات دائما هو الأثرى وهو الأجمل وهو الأنفس، شريطة أن تستنطق الجينات كما يجب أن تستنطق لأننا كما يقول إفلاطون نحن لا نتعلم عندما نتعلم ولكننا نتذكر، نستحضر نستعيد ما عشناه يوما ما. إذاً هو في الواقع استجواب للمنسي.
· لكني فهمت من رواياتك ان مخزونك الديني المتنوع كبير أيضا ، فانت تكتب عن القرآن الكريم كما تكتب عن الإنجيل وعن العهد القديم كما تكتب عن الفلسفات الهندية اليونانية، وعن بعض الفلسفات الصينية أيضا، تستشهد بالكثير من الأديان تستشهد بالأسفار بالفلسفات. لماذا هذا النزوع الديني؟ للمعرفة؟ أم للايمان؟
الكوني: الديانة البدئية التي أحملها في هذه الجينات هي في واقع الأمر سلسلة طويلة فيها حلقات، أقصد أن الديانات لا تنفي نفسها، عندما يأتي دين لا ينفي الدين الذي قبله، ربما يقمع فينزل الدين السابق إلى القيعان ليصبح باطنيا ولكنه يعيش بشكل آخر في هذا الدين الجديد، وهكذا. يعني الديانات في الواقع هي سلسلة معقدة ولكنها لا تنفي سابقها إطلاقا فيبقى يحيا فيها مبثوثا فيها على نحو أو آخر وعلينا تحليل ذلك ..
·هل افهم منك، ان فيك اليهودي والمسيحي كما المسلم؟  
الكوني: يقينا، يقينا، أنا هكذا أشعر، هكذا أشعر. عندما أقرأ القديس بولس أو أقرأ القديس أوغسطين أشعر بأن خطابه هذا موجه لي ونابع مني أيضا، ونحن نعرف من هو القديس أوغسطين ومن هو القديس بولس، هما ركيزتا المسيحية الرئيسيتان..أستشهد بهما لأنني أحبهما وأتمثلهما وأرى أنهما لا يختلفان عن محي الدين بن عربي أو عن الغزالي أو عن أي إمام من أئمة الفكر الإسلامي.
· في الكتابة عن الصحراء   تقول "لا أعتبر نفسي كاتبا عن الصحراء وإنما أستخدم الصحراء كمفردة وجودية أعبر من خلالها عن رؤيتي الخاصة للعالم من حولي".
الكوني: هذا صحيح، الصحراء لم ترد في أعمالي في يوم من الأيام كصحراء، دعنا نسأل ما هو الوجود؟ الوجود بلا روح صحراء والصحراء بحضور الروح فردوس، إذاً ليس هو هذا الفردوس، الفردوس ليس الصور الخارجية الطبيعة التي تجولنا فيها انت وانا هنا في هذا المكان الجميل اليوم ولكن الروح هو ذاك الذي يزرع فيها المعنى، إذا حضرت الروح هنا إذاً هي فردوس مكتمل وإذا غابت الروح إذاً هي منفى في واقع الأمر.
وكأن الروح فيما تكتب، سيد إبراهيم الكوني، موجودة فقط في الصحراء ومن يغترب عن الصحراء يغترب عن الفردوس وعن الروح.
الكوني: تماما،هذا صحيح، الصحراء روح مجسدة نستطيع أن نقول الصحراء ليست رمزا مجسدا فحسب ولكنها الروح إذا تجسدت..
· تقول مثلا في رواياتك إن صحراءك غير صحراء الناس، هم يرون فيها جحيما أنت ترى فيها النعيم وفيها الحرية وفيها رمز للأبدي، واقتبس منك التالي "الصحراء ليست صحراء في أعمالي ولكنها دائما ظل لحقيقة أخرى، ظل لمبدأ ميتافيزيقي".
الكوني: بالضبط، آه، هنا النقطة التي يجب التركيز عليها، الصحراء نستطيع أن نقول إنها هي الحلقة التي تربط الطبيعي بما وراء الطبيعي هي همزة وصل بين الطبيعة المرئية، بين الظاهرة وما وراء الظاهرة.
·       وفيها سر الماورائي كما أفهم من رواياتك.
 الكوني: بطبيعة الحال هكذا هي، ومن أتقن استنطاق الصحراء سمعها   وأدركها ولهذا السبب يأتي الأنبياء من هناك، لهذا السبب أتى كل الأنبياء من هناك لأنها هي في البعد الآخر في البعد المفقود، هي في واقع الأمر تشرف على الأبدية تشرف على الموت، فيها مظهر الموت ولكن الجانب الثري من الموت، ما لا تقوله لنا الطبيعة تقوله الصحراء عندما نتعامل معها في هذا البعد ولهذا هي الأثرى على الإطلاق ، لماذا؟.. لأنها هي أيضا التي تدفعك إلى حديقة التأمل التي قلنا عنها منذ قليل إنها هي ركن الأركان في التجربة البشرية الروحية.

تقول سيد إبراهيم الكوني  في ما كتب مثلا  عن الطوارق في "ملحمة المفاهيم" وفي "بيان في لغة اللاهوت " :" وإن هددتهم العزلة وقساوة الطبيعة بالانقراض على مر العصور إلا أن لهذه العزلة بالذات يرجع الفضل في فوزنا اليوم بذلك الكنز النفيس الذي كان هاجس الإنسانية دائما في بحثها الدائم عن سر اللسان المجهول الذي انبثقت منه بقية الألسن الحية منها والميتة على حد سواء"  ، كأني بك تُعيد أصل اللغات الانسانية الى الطوارق وسر الكون الى الصحراء.   
الكوني:  هناك تأكيدات علمية أن في لغات اللاهوت، اللغات التي أسميها لغات الديانات سواء القديمة أو ديانات الوحي، هذه اللغات كلها تحمل مفاهيم منبثقة من لغة الطوارق، لأن ما هي اللغة البدئية؟ يقال إن اللغة البدئية يجب أن تكون ذات حرف ساكن واحد، هذا الحرف يكون كلمة، هذه خاصية موجودة في لغة الطوارق فقط ولذلك تجد كلمة في اللغة اليونانية القديمة مثلا أو اللغة المصرية أو اللغة السومرية أو إحدى اللغات المنبثقة من اللغات اللاتينية كلمة واحدة هي في الواقع جملة في لغة الطوارق هي جملة تفسرها تفسر مضمونها.
 دعنا اذا  نأخذ مثالا  حرف الباء الذي طبعا يترجم كما حضرتك تكتب بالـ (با) باللغات اللاتينية، تقول إنه حرف مصري طارقي بدئي، الباء، "والباء كحرف ساكن مجرد تعني باللسان البدئي روح".
 الكوني: تعني الروح وتعني العدم أيضا، لأن الروح هي شيء عدمي في واقع الأمر ولهذا تحمل هذين المعنيين دائما وعندما ترد في لغة من لغات العالم القديم سواء اليونانية القديمة أو اللاتينية أو السومرية أو المصرية فإنما تدل على كلمة كاملة في حين أنها تعامل في داخل هذه اللغات كحرف، هو هذه الأعجوبة، أن هذه اللغات تحمل تراثا مجهولا بالنسبة لها هي أيضا يعني تحمل مدلولا فلسفيا أو دينيا أو وجوديا مغتربا لأنه منسي.
·      وفهمت من كتبك أيضا ان  البيت هو قرين إذا صح التعبير أو ملازم للقبر.
الكوني: يقينا، يقينا، كلمة بيت تعني العدم بلغة الطوارق وتعني أيضا الروح، يعني عندما يموت الإنسان يتحول روحا فهو معدوم وهو أيضا يعني معدوم ومتحول إلى روح، هنا هاتان الكلمتان قبر..
·       معدوم كجسد، لنتفق على الأمر.
الكوني: بالضبط معدوم كجسد ولكنه باق كروح لأن هذه اللغة اللغة البدئية وكما في لغة مصر القديمة هي اللغات الوحيدة التي كان لها الفضل في تأسيس مفهوم الخلود، خلود الروح، هذا يقوله هيرودوت ويؤكده كل فلاسفة العالم القديم.
·      على كل حال تفسيرك لأصل البيت انه كان بالأساس قبرا .  
الكوني: بالضبط، قبر تعني بيت، قبر أيضا تعني روح.   هو يحمل معنيين،  أيديولوجية الرحيل في مقابل أيديولوجية الاستقرار، الإنسان القديم لو تأملنا مسيرة البشرية لوجدنا أنها منذ البدء تنقسم إلى فريقين رئيسيين فريق راحل وفريق قار، الفريق الراحل لأن المكان يرفضه ليس هو الذي يرفض المكان ولكن لأن المكان يرفضه لأنه مستحيل العيش في مكان لا وجود للماء فيه، هذا شرط، ولهذا لا بد أن يتنقل وعندما يتنقل بما أنه إنسان لا بد أن يلهو بشيء، بماذا يمكن أن يلهو الإنسان المتنقل على الدوام؟ لا يستطيع أن يلهو إلا باستنطاق المجهول، الروح، التفكير يعني التأمل، التأمل ماذا ينتج في العادة؟ ينتج النبوءة.
النبوءة، الحياة، الصحراء، الرحيل والاستقرار، سر الكون، الأساطير، الكاهنة، العراف، السحرة، صور كثيرة تنبض بها روايات وكتب إبراهيم الكوني، ولو سألته عن الحقيقة الباحث عنها سيقول إني أبحث عن الحلقة المفقودة في فلسفة التاريخ، وهو بذلك يضع نفسه في مصاف مكتشفي اللغة البدئية لغة الطوارق وبالتالي لغة الكون.
 · في كتابك  "ملحمة المفاهيم " الجزء الثاني تقول ، إن الروح عربية عبرية طارقية بدئية، ذلك ان روح بالعربية أو روح بالعبرية ما هي في الحقيقة إلا "رو" الدالة في لغة الطوارق على القدم..
الكوني: نعم، على القدم وعلى الألوهة لأن "رو" بالمصرية القديمة أيضا إله الآلهة، الإله الأكبر.
·      قل لي ان كنتُ مخطئا، لكني شعرت أنك في كل كتاباتك لم تكشف عن سرّ تحفظه، وكأنك تخشى على ضياع السرّ لو انكشف؟
 الكوني: المصريون أيضا عندما اندثروا ربما لا يريدون أن يُكشف عن سرهم، ذلك لأن سرهم رهين باكتشاف البشرية لذاتها ، أنا على يقين أن لا سر يبقى سرا، لكن المفارقة أنه عندما تشرف قبيلة ما على الانقراض ينكشف سرها، المصريون القدماء انكشف سرهم عندما أشرفوا على الانقراض..
·      وأنت تخاف على الطوارق من الانقراض؟
 الكوني: لن ينقرضوا إذا كانت بصماتهم موجودة في كل الثقافة الدينية العالمية، لن ينقرضوا، ليس المهم أن ينقرض الإنسان جسدا المهم ألا ينقرض ثقافة المهم ألا ينقرض روحا، هذا هو الخلود، هذا هو الخلود. سواء انكشف، ام لم ينكشف. المسألة ستنكشف عاجلا أو آجلا وسيأتي التاريخ يوما ما سيأتي من يفسر أو يكمل هذا المشوار ولكن أنا على يقين أن هذا يعتبر من أخطر اكتشافات القرون الحديثة بعد اكتشاف ربما المصرية القديمة لأن اكتشاف المصرية القديمة هذه حلقة واكتشاف السومرية هذه حلقة، الأصل فيه هو هذا.
·      الا تخشى ان تتُتهم بالهلوسة والهرطقة وانت تقلب مفاهيم عالمية؟   
الكوني : هل هي هلوسات إذا كانت هنا أدلة علمية؟ فليناقشوني، أدلة علمية، هذه اللغات موجودة. الذين يعرفون اليونانية القديمة موجودون والذين يعرفون المصرية القديمة موجودون والذين يعرفون السومرية موجودون فليتفضلوا فليناقشوا الأمر، يعني يجب أن تعقد مؤتمرات حول هذه القضية، إذا كان في بداية القرن كانوا يعقدون مؤتمرا على كلمة في اللغة المصرية القديمة اللي هي "نتّر" عقدوا مؤتمرا كاملا دوليا..لم يتكشفوا معناها لأن معناها موجود في لغة الطوارق، "نتّر" تعني القداسة، وتوصلوا إلى أنها تعني الآلهة، هم توصلوا إلى أنها تعني الآلهة ولكنها ليست الآلهة تماما وإنما تعني القداسة وليس الآلهة.  
كأني بك تضع نفسك أيضا مكان يقارب أمكنة الرسل، وأنك تكشف أسرارا، فانت تتحدث عن إبراهيم الكوني وكأنه يريد أن يقول للإنسانية جمعاء سرا لم يعرفوه، يريد أن يبشر بشيء جديد.
الكوني: لا أعرف عما إذا كان هذا خطيئة أم أنه قدر؟ هل المعرفة. نحن نعرف من الديانات السماوية أن المعرفة عموما خطيئة فأن تعرف دائما أنت متهم وأنت مدان وأنت معرّض للقصاص، هذا حدث للرسل أيضا وحدث لكل أصحاب الأفكار العظيمة، سقراط حكم عليه بالإعدام ظلما، وغير سقراط.


يشعر الروائي والمفكر الليبي إبراهيم الكوني بأنه حامل رسالة، واخبرني أنه يعيش تقشفا يقارب التصوف حتى ولو أنه ينعم برفاه الحياة في هذه الجبال المكللة بالثلوج والهانئة والباعثة على الطمأنينة والفرح والانسجام الداخلي، وفي التقشف والوحدانية والانعتاق والعزلة ثمة أسئلة عن الإنسانية وثمة نقمة على من يخرق قوانين الطبيعة أو نواميسها.قال لي: إن الإنسانية هي البعد الأخلاقي والبعد الأخلاقي يتجلى في السلوك وعندما يتحول الناموس الديني إلى مسلك يومي وهو ما حاولت كل الديانات أو كل التجارب البشرية أن تفعله منذ فجر التاريخ، عندما يحدث ذلك يصبح المجتمع مجتمعا أخلاقيا، وهو ما نفتقده اليوم أعتقد. وفي كتابه "السحرة"  يروي أن تلك القوافل التجارية التي جاءت تسكن وحاولت أن تخرق الناموس وتقيم لها مراكز تجارية وحوانيت تجارية وما إلى ذلك، جاء من يعاقبها على كسر هذه القوانين لأنها سرقت أيضا شيئا من الذهب .
 الكوني: آه بالضبط الذهب محرم، عملة الطوارق الفضة وليس الذهب، الذهب هذا مملوك للجن يعني هذه الفكرة هي التي أوحت لي بملحمة المجوس ، المعنى الرمزي هو أن عندما تحاول أن تمتلك الثروة تمتلك ما لا يجب أن يملكه المخلوق البشري، تُمتلك أنت في ذلك الوقت، أنت تصبح مدانا ومسكونا ومغتربا ومنبوذا أخلاقيا، في حين أنك عندما تكتفي بالملكية الأعظم وهي الحرية من خلال التنقل من خلال الترحال والمبدأ الذي تنجبه الحرية وهو مبدأ التأمل: فأنت حتما انسانٌ سعيد.
·       لك تعريفك الخاص بالحرية غير التخلص من الامتلاك،  في تعريفك الها في "ملكوت طفلة الرب، سيرة آنا الكوني بلسان الصمت"  ( آنا هي ابنه أخيه)  تروي كيف ولدت قريبتك وكيف كرهت أنها ولدت وأجبرت أنها ولدت وكيف شاهدت في بدايتها أول لعبة إلى جانبها وأغرقت اللعبة واكتشفت من خلال إغراق اللعبة شيئا من سر الكون. ولكن الفظيع في الواقع في آخر هذه الرواية تقول "في طريق العودة قرر الكاهن أن يعرج بي على أهل الواحة ليريني المصير الذي آل إليه القوم يوم خالفوا الوصية فباعوا الحرية مقابل الركون إلى الاستقرار، ثم وقف بي عند جبل يطل على حضيض الواحة وخاطبني قائلا: انظري هؤلاء الأغيار الذين ترينهم كانوا يوما أحرارا كانوا يوما أخيارا أيضا مثلهم مثل من رأيت في الصحراء ولكنهم تنكروا للصحراء تنكروا لناموس الصحراء يوم نزلوا إلى الواحة ليعتنقوا شريعة الاستقرار، ها أنت ترينهم أمواتا يدفنون أمواتا بعد أن كانوا أحياء لا خوف عليهم ولا هم يحزنون". وكأنك تريد القول انه بالاستقرار وبالملكية وبالحياة اليومية يُقتل الإنسان، وبالتالي فان الحرية تكمن في التخلي عن كل ذلك.
الكوني: بالتأكيد، بالتأكيد يعني لأهل الصحراء الزهد مسلك يومي مسلك طبيعي لا يستعار ولا يختلق لأنها هي هذه طبيعة.. يكفي فقط أن تتبع الناموس الصحراوي لتجد نفسك زهديا وكائنا معزولا، معزولا بالمعنى الإيجابي للكلمة بمعنى أن العزلة ليست توحدا كما قلنا منذ قليل وإنما العزلة ثراء العزلة إبداع، الإنسان المعتزل ليس متوحدا بالعكس هو الذي يحيا مع.. يحيا مع الرب.
 ·      كيف تتحدث عن الوحدة والتقشف وأنت في بيت جميل هنا في سويسرا وتطل على جمال الطبيعة؟
الكوني: هذا لا يلغي هذا، هذا الذي تراه في الخارج لأنني أملكه في الداخل في واقع الأمر، أملك بديلا له في أعماقي ولذلك هذا وهب لي، لو لم أملكه في أعماقي بمعنى أن أرفضه، لم أسع إليه، لم أسع إليه لأني أملك.. لأني لا أريد شيئا، من لا يريد شيئا يملك كل شيء ويأتيه كل شيء، ويأتيه كل شيء، ولهذا هذا الذي تراه هو هذا مبدأ جمالي قبل أن يكون مبدأ ملكية أو مبدأ ترف.
 لنعد إلى الصحراء، ربما لم أجد وصفا أجمل في كل ما كتبت حضرتك لعلاقة بين امرأة ورجل من وصف العلاقة بين البحر والصحراء، تقول ما يلي "أي فتنة في هذا العشق المحموم بين الصحراء والبحر، أي رجف في هذا الالتحام المذموم بين تخوم المدى وشطآن اليم! يتمددان حنينا للقاء، يندمجان في غفلة من الرقيب السماوي الخالد فيلتئمان ويندمجان ويغيبان كل طرف في أحضان الطرف الآخر فيتنازعان وينشب بينهما العراك، تتنفس الصحراء في وجه البحر غبارا وتغزو المعشوق بهبات الرمل، ويدمدم البحر ويثور حتى يلفظ زبدا ويندفع لملاقاة أمواج الغبار فتبدأ شعائر المشادة الخفية ويحتدم الصراع ولكنه صراع العشاق الذين لا يطيقون أن يتباعدوا فتعصف بهم حمى الأشواق".
الكوني: هي جدل الطبيعة جدل الأشياء كلها يعني في الحب الحقيقي عداوة حقيقية، في العشق سعي إلى إماتة المعشوق، الأشياء عندما تكون حقيقية تنفي نفسها لتولد في نقيضها.https://www.aljazeera.net/CHANNEL/KEngine/imgs/top-page.gif

 * حين وصلت لعندك  سارعت زوجتك الطارقية مثلك لتسوية هندامك قبل الحوار، تزوجتك عن حب وقالت لي إنها أحبتك عبر رواياتك قبل أن تحبك لشخصك, وهي كانت في قبيلتها الوحيدة ربما الحريصة على قراءة كل إنتاجك ومنذ زواجها بك -وهي زوجته الثانية- كتبت نحو ٢٠ رواية، فهل يعقل أن يكون هذا الرجل الهانئ بسعادة زوجية مماثلة هو نفسه الذي يصب جام غضبه على النساء حين يكتب أفكاره ومقولاته؟! لماذا ؟
الكوني: ( ضاحكا)  أتت النبوءة بالمبدأ الذكوري كمركز شهد العالم انقلابا جذريا، أصبحت المرأة هي التي أغوت آدم لأن يلتقم الثمرة الحرام، من هنا أتت العلاقة السلبية ربما، هي ليست سلبية ولكن هذا ما حدث، أن المرأة يعني أصبحت حاملة للواء الإغواء، أنا أفضل استعمال كلمة إغواء على استعمال كلمة خطيئة لأن كل شيء في واقع الأمر إغواء، هذا العالم إغواء، هذه الزهرة إغواء يعني كل ما يغوي هو ينسي الرب.
·      لا تهرب من السؤال، وسوف  أقرأ بعض ما كتبت حضرتك لكي تكرهك النساء أكثر، في "نزيف الروح" وفي "المرأة تحكم العالم.." تقول إن "المرأة تحكم العالم من وراء قناع اسمه الرجل، المرأة في حكم العالم أصل والرجل في اللعبة أداة.."
الكوني:  الرجل دمية نعم.
·       تقول ايضا  "لا يشرك الخالق بنفسه أحدا ولا تشرك المرأة بنفسها أحدا فكيف تجتمع المرأة مع خالق المرأة في قلب واحد؟"
الكوني: صح، كلاهما صح. يعني إبراهيم الكوني الذي تراه أمامك اثنان، أحدهما المفكر الذي رسالته أن يُظهر والثاني المبدع الذي رسالته أن يخفي.
·      :  يا رجل انت تعتبر ان المرأة عدو الله؟
 الكوني: لا، اقرأ، يعني هو الله الذي أدانها في الديانات، لست أنا.
·      ثم تسأل  "هل تجد المرأة مكانا في قلب امتلأ بالله؟"
الكوني: عمرك لقيت ناسكا عاشقا في امرأة؟ أو قديسا؟
·      طيب ماذا تقول اذا عن  أمهات المؤمنين عند المسلمين وعن السيدة مريم العذارء عند المسيحيين وانت المؤمن بكل الأديان ؟
الكوني: أنا أتحدث عن النموذج، أنا لا أتحدث على زوجات أنبياء، أنا أتحدث على المرأة كواقع عام، القداسة شرطها التخلي عن المرأة، الرهبنة شرطها التخلي عن المرأة، المرأة هي العالم هي الدنيا. هذا شيء بديهي، هذه أشياء كلها بديهية كل ما هنالك أن إحنا نريد أن نغترب عنها لإرضاء المرأة، بالعكس المرأة هي أول من يجب أن يقبل بهذه الأشياء لأن هذه سلطة، هذه سلطة، المرأة هنا سلطة.
·       يا أخي النبي صلى الله عليه وسلم أحب المرأة وهي ساعدته في حياته كي يوصل الرسالة ؟
 الكوني: في النبوة ساعدته؟ لم يساعده أحد في النبوة..
·      : لا اتحدث عن الوحي وعن النبوءة ولكن وهي التي كانت تشجعه وهي التي كانت تساعده..
الكوني: ساندته، شيء آخر..
·      : أمهات المؤمنات ساعدنه أيضا في القتال..
الكوني: مش ساعدنه، مش ساعدنه، عزوه هم كانوا له عزاء ولكن لم يساعده أحد في النبوءة، النبوءة ليست.. النبوة صليب يحمله هو وحده، يحمله صاحب النبوة وحده، لا دخل به لامرأة.
·      انت مناهض للنساء، وانا اتهمك.
الكوني: طيب لماذا لم يخلق الله نبيا امراة ؟ قل لي ؟ وخلق أنبياء كلهم الأنبياء كلهم ذكور؟
·      هذه حكمته، وليست خبيرا بحكم الله، لكن دعني أسالك .هل تستطيع أن تعيش بدون امرأة؟
الكوني: عشت بدون امرأة عشرات السنين، عشت.
·       كانت حياتك أفضل؟
الكوني: لو كانت موجودة امرأة أنا ما كتبت هذه الكتب، يكفي هذا. والان أعيش مع زوجتي لأني أعتقد أنه بعد أكثر  سبعين كتابا يحق لي أن ألقي قليلا، أسترخي قليلا، أسترخي قليلا.
·       هل أحببت في حياتك
·      الكوني: بالتأكيد، أنا أحببت كما لم يحب أحد..وعاشرت النساء وأحببت النساء كما لم يحبهن أحد، القضية بالعكس هذا فهم عميق للمرأة وليس إدانة خارجية ولا بسيطة ولا سهلة.
·       هل صدمتك إحدى النساء حتى انتقمت بهذه الكتابة؟
الكوني: لا، بالعكس لم يظلمني أحد ، ولم اتعرض لصدمة، ليس صدمة، هذا فهم هذا فهم عميق لتجارب البشرية وليس تجربة شخصية.
·      لكنك تقول : "تميت المرأة العاشق الذي تخلى عن عشقها، تحيي الدنيا العاشق الذي تخلى عن عشقها، تستدرجنا الدنيا إلى ساحة الله بشرورها وتستدرجنا المرأة بعيدا عن ساحة الله بحنانها" بعيدا عن ساحة الله! وتصنع الدنيا من الرجل إنسانا خيرا بشرها وتصنع المرأة من الرجل إنسانا شريرا بخيرها". يعني المرأة خلف شرور الرجل.
الكوني: يقال "لا يوجد الأرادل إلا في مخادع النساء" هذه ترجمة لها، إذا احترف الرجل مخادع النساء أخفق في كل شيء، هذه هي الحقيقة.
الحقيقة أن من يقرأ مقولات إبراهيم الكوني المقاربة أسلوبا ومضمونا الحكم الصوفية ثم يقرأ رواياته سيكتشف أن للرجل فعلا شخصيتين، شخصية المبدع السامح لنفسه كسر كل حدود المعقول وشخصية الإنسان الحامل كثيرا من معاني الإنسانية، الأولى تربط المرأة بالخطيئة -أو الغواية كما يحلو له تسميتها- والثانية ترفع المرأة إلى مستوى المثالية. وهو يقول:" ان المرأة امرأتان وليست امرأة واحدة، هناك المرأة مبدعة العالم وهناك المرأة الأنثى أي الخطيئة، موقفي عدائي دائما من الجزء الثاني من المرأة..هناك موقفان -حتى في أعمالي- من المرأة، المرأة في الروايات ليس هناك.. لم ينصفها أحد -أعتقد- لم ينصفها روائي في الوطن العربي كما أنصفتها أنا".
 حصل إبراهيم الكوني على ما لا يقل عن ١٥ جائزة عالمية  وعلى عدد قليل من الجوائز العربية ومنها جائزة الدولة السويسرية ووسام الفروسية الفرنسي للفنون والآداب وجائزة اللجنة اليابانية للترجمة وجائزة الدولة في ليبيا وجائزة الشيخ زايد وأخرى من المغرب، واختارته مجلة لير الفرنسية كأحد أبرز خمسين روائيا عالميا معاصرا، وفي سويسرا له شهرة كبيرة، يحبه ناسها ويفخرون بإقامته عندهم ويضعون اسمه في كتاب يخلد أبرز الشخصيات التي تقيم على أراضيهم وهو العربي الوحيد لا بل الوحيد أيضا من العالم الثالث في هذا الكتاب، ورئيس سويسرا اصطحبه معه في واحدة من أبرز المحطات الثقافية، وذلك في العام  1998 عندما كانت سويسرا ضيف شرف في معرض فرانكفورت الدولي للكتاب في عيده اليوبيل الخمسين، العيد الذهبي.  وفي برلين تُدرس أعمالي لطلاب السنة الرابعة إلى جانب أعمال هوميروس وشكسبير.. ونلت 15 جائزة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق