حدود المعرفة - محمد الحديدي - مدارات ثقافية

احدث المواضيع

الأربعاء، 4 مارس 2020

حدود المعرفة - محمد الحديدي

إنها الحيرة التى تجسدها رغبة الإنسان فى المعرفة اليقينية وقصور أدوائه عن تقديم مثل هذه المعرفة
شاهدت، كما شاهد غيرى من الناس، الكثير من الأعاجيب المحيرة التى تحفل بها ما تسمى بـ" جلسات استحضار الأرواح "، منضدة ترتفع فى الهواء وسلة تصدم واحدا من الحاضرين عقابا له على مقولة مثيرة للغضب، والأكثر من ذلك: أحاديث أجريتها مع أحبائى من الراحلين، بنفس أساليبهم ومنطقهم وبذات مشاعرهم وأفكارهم، بل وتلقيت منهم- ومن غيرهم- أمورا من خبايا نفسى لم أبح بها لأحد فى حياتى، وياله من أمر مخيف !إلاأن هذا كله لم يكن كافيا لأن أقتنع بشئ من هذا كله، وقلت لنفسى إن عجزى عن تفسير هذه الظواهر، وعن تفسير أى شئ آخر، لا يدل إلا على أن هناك حدودا لقدرتى، وأن هذا فى ذاته لا يلزمنى إلا بالإقرار بذلك، دون أن أكون بمقتضاه مضطر لأن أقبل أى تفسير يأتى به شخص آخر هو نفسه خاضع لنفس هذه الحدود بحكم كونه آدميا مثلى مهما فاقنى فى العلم والتجربة. وقلت لنفسى أيضا إن هناك أكثر من تفسير ممكن لهذه الخوارق، من أدرانى أن الكشف عن خبيئة نفسى لم تكن هى ذاتها مصدره ؟ إننى أنا الذى " فضحت " نفسى دون أن أدرى، وأن المحادثات مع أرواح الراحلين لم تكن سوى دراما من تأليفى، وعندما قرأت بعد ذلك عن أفكار كارل يونج وغيره فيما يتعلق باحتمالات تشارك البشر فى أفكارهم الباطنة، زاد يقينى بأن أمورا كالتخاطر وغيره تكفى لتفسير هذه الظواهر إن كانت- أي هذه الظواهر- حقيقية، أو على الأقل تعطي احتمالات لا تضطرنى ولا تضطر غيرى أن يصدق أن أرواح الموتى يمكن لا تطرنى ولا تضطر غيرى أن يصدق أن أروح الموتى يمكن أن تتحاور معنا أو أن تكون مصدر لمعرفة الغيب، وعندما قرأت أيضا عن التجارب المريرة التى أجرها باحثون مثل الشاعر الأيرلندى ييتس، الذى تزوج وسيطة روحانية لكى تفتح له باب "شياطين الشعر"، ازددت اطمئنانا إلى ما أسميته " اليقين بعدم اليقين "، وأعجبتنى مقولة الفيسلوف الأمريكى البراجماتى وليم جيمس: " بعد خمس وعشرين سنة من البحث فى هذا الموضوع أيقنت أنه يبدو أن الخالق لا يريد لنا أن نعرف شيئا عن ثقة بشأنه "، ثم أضفت من عندى هذا التساؤل: بالله عليك !- هكذا قلت محدثا نفسى- لو أن معرفة خفايا الأمور متاحة لنا عن طريق الاتصال بأرواح الموتى، أما كانت أجهزة الاستخبارات توفر على نفسها وعلى حكوماتها هذا الثمن الباهظ الذى يتحمله دافعو الضرائب ؟ وخصوصا فى أزمنة الحرب، لماذا لا تلجأ القوى العظمى إلى هذا الطريق السهل المضمون وتطلب من أرواح قتلاها على الأقل أن تعطيها نبذة عن أمور من نوع مواقع الحشود والإمدادات.. إلخ ؟
إلا أننى وقعت منذ قريب على مقال فى مجلة عالمية جعلنى أشعر أننى بإضافتى هذه قد أفسدت قضيتى وعدت باليقين إلى موقع الشك ! أمتعتنى هذه المقالة واضحكتنى ولولا ضيق المقام لنقلتها للقارئ كاملة ! فالواقع أن القوى العظمى- وعلى رأسها الولايات المتحدة وغريمها الاتحاد السوفيتى، أو روسيا كما هى الآن- لا تكف أجهزتها حتى هذه اللحظة عن بذل المحاولات- والملايين- من أجل اختصار الطريق إلى عالم الأسرار الدنيوية ! وعلى رأس هذه الأجهزة تلك الوكالة العتيدة التى دأب الناس فى كل أنحاء العالم على أن يعزوا إليها كل ما يحدث فى الكون من سقوط الحكام إلى سقوط الأمطار، وأصبحت العمالة لها هى التهمة التى يلحقونها بأى كائن آدمى يريدون إهانته ! نعم، وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، والتى كانت هى نفسها ضحية لجواسيس من العاملين فيها يبلغون أسرارها لنظيرتها فى موسكو مما أدى إلى إعدام فرقة من الجنرالات وكبار رجال الدولة هناك من المتعاونين مع الوكالة، ترى أين كانت الأرواح من الجانبين بينما كان هذا يجرى. وقد كان الاتحاد السوفييتى السابق- برغم المادية الجدلية والفلسفة القائلة بأن حقائق الحياة كلها قابلة للمعرفة بوسائل العلم التجريبى- هو نفسه كان مسرحا للبحوث الطائلة فى هذا المجال الشموق، بل وقد قرأت مرة أن واحدة من كبيرات زعماء الحزب ألقت خطابا فى واحد من المؤتمرات الكبرى وأرادت أن تقيم الدليل على ما تقوله، فروت أن روح الزعيم لينين جاءتها فى المنام وقالت لها.. إلخ.
تروى المقالة الممتعة أن الكونجرس الأمريكى كلف لجنة علمية من جامعة كاليفورنيا البحث حول حقيقة أن أجهزة الاستخبارات أنفقت عشرين مليون دولار أمريكى، دفعتها اتعابا للروحانيين الذين طلبت منهم معلومات متفاوته فى نطاق مشروع حربى اسمه الكودى " ستارجيت "، على وزن " ووترجيت " و " إيران جيت ".. إلخ، من معلومات عن أسرى الحرب المفقودين فى فيتنام إلى أماكن وجود شخصيات معينة فى ليبيا أثناء التحضير للغارة الجوية عليها سنة 1986. كل هذا حدث فى عصر الرئيس ريجان الذى يبدو أن ولعه بالنجوم كان يتمثل فى كل شئ من " حرب النجوم " التى تمثلت فى خطابه الذي اشتهر بهذا الاسم، إلى أعمال التنجيم واستطلاع البخت التى كانت زوجته تمارسها بدأب واستماتة. وتذكر المقالة أن الوكالة كانت تضم بين العاملين فيها ثلاثة مسشارين يتقاضى كل منه راتبا يصل إلى نصف مليون دولار سنويا، لكى يدلهم عل أمور مثل الموضع الذى تخفى فيه منظمة الألوية الحمراء ضابطا كبيرا فى قيادة حلف الأطنلطى كانوا قد اختطفوه. يقول واحد منهم إن طريقته هى أن المكان " بيت مبنى بالحجارة وله سقف أحمر "، وهو وصف ينطبق على أغلب المنازل السكنية فى كل أنحاء إيطاليا.
الإنسان والكون
إذا كان لدى الإنجليز مثل سائر يقول " إن الفضول كلف القطة حياتها " فهو قد كلف العديد من عظماء البشر- مثل سقراط وبرونو- حياتهما أيضا وكلف رجالا مثل جاليلو وفولتير وديديرو أقدار متفاوتة من الأذى والشماتة، بل إنه حتى القرن العشرين- الذى لم ير التاريخ مثيلا له فى قيمة المعرفة وحرية التعبير عنها وعن الآراء والعقائد- طرد برتراند راسل مرتين، لا لفعل أتاه بل لمجرد كلام كتبه.
منذ اللحظة التى يخرج فيها الجنين من بطن أمه، يبدأ الإحساس بالفضول، ولذلك سموه " الحيوان المتسائل "، عالم معاصر فى الجينات كتب يقول: " أسلوبنا فى الحياة، دائم التطور، تغيرنا كثيرا فى المائة ألف سنة الأخيرة، بل تغيرنا أكثر فى المائة سنة الأخيرة، ولكن تكويننا الجسمانى يبقى كما هو ! نحن لسنا فى حاجة إلى الانتقاء الطبيعى بحيث لا يبقى منا إلا من كانت رقابهم أطول أو حركاتهم أسرع، نحن لا نتغير لأن الالات والمجتمع فى تغير نيابة عنا. سوف تنظر إلينا الأجيال التالية فى دهشة لما نحن فيه من تخلف، ولكنهم سيكونون نفس النوع، مثلنا. هذا لأن التطور البيولوجى عند الإنسان لا يتمثل فى كيانه أو تكوينه، بل فى قدراته الذهنية ومعارفه وتطبيقاتها ".
بل إن الأمر قد يكون عكس ذلك. أغلب الناس يشكون من آلام الظهر والرقبة لنهم لا يتسخدمون أجسامهم فى أمور معيشتهم كما هم مخلوقون ! والإنسان الحديث لا بد له أن يجرى فى الطرقات والحدائق لكى لا يتوقف قلبه بفعل الراحة الأبدية !
المعرفة إذن هى عدة الإنسان، وحدوده هى حدودها، كان أرنست رينان هو الذى قال فى أواخر القرن الماضى: " سقراط أعطى الفلسفة للبشرية، وأرسطو أعطاها العلم، كان هناك فلسفة قبل سقراط، وعلم قبل أرسطو، ولكن كل شئ قد انبنى على الأسس التى وضعاها. قبل أرسطو كان العلم جنينا، وقد ولد على يديه ".
وأظن أنه إلى ارسطو يرجع الفضل الأكبر فى إعفاء الآلهة من مسئولية ما يقع فى الكون من أحداث، وإعفاء الكهنة أيضا من مسئولية ما يقع فى الكون من أحداث، وإعفاء الكهنة أيضا من مسئولية البحث عن أسراره. إلا أن عصرا طويلا كان لابد أن يمضى قبل أن يبدأ عصر الاكتشاف العظيم بعد أرسطو بما يقرب من ثمانية عشر قنا! ربما بتأثير الحروب وسيادة البرابرة من نوع الرومان وأمثالهم، وربما لأسباب ضلال العلوم كما قال الدكتور كامل حسين. وحتى عصر التنوير، أى القرن الثامن عشر، كانت المعرفة تنتمى بأكملها لدنيا الفلسفة، حتى كتاب نويتن الذى ظهر سنة 1687، والذى يعد حتى الان أخطر وأهم كتاب منفرد بذاته فى الفيزياء، كان عنوانه- وهو باللاتينية: " فيلوسوفيا ناتوراليس برنكبيا ماتيماتيكا ". إلا أنه كان فى هذا الوقت أن بدأت كشوف العلم التجريببى تتوالى لتثبت للفلاسفة أن الأمر قد بدأ يخرج من أيديهم وأن أفكارهم لم تعد سوى مجرد تأملات غير قابلة للتحقق لأنها لاتستند إلى أساس ما تيماطيقى.
فقبل ظهور كتاب نيوتن بشعر سنوات، كان عالم الفلك الدانمركى " رومر " قد اكتشف أن الضوء له سرعة قابلة للقياس، معنى هذا أن الكون الذى نراه هو ما كان منذ زمن، وليس كما هو الآن، نحن نرى الشمس كما كانت منذ ثمانى دقائق ونرى بعض المجرات كما كانت منذ ملايين السنين. ثم بعد نيوتن بمائتى سنة بالضبط جاء واحد من أخطر الاكتشافات فى دنيا المعرفة على يدى عالمين هما مايكلسون ومورلى، وهو اكتشاف أن سرعة الضوء لا علاقة لها بالمصدر الذى ينبعث منه ولا بالزاوية التى يقاس منها ولا بسرعة الكوكب الذى يقف عليه من يجرى عملية القياس ! أنت عندما تسقط جسما من نافذة قطار فإنه لا يسقط إلى الأرض بل يمضى متحركا بسرعة القطار إلى أن يسفط بعد فترة، فقط أنت لا تلحظ ذلك لنك تكون قد ابتعدت، إلا الضوء ! ولو لم يكن الأمر كذلك لكانت الحياة تبدو لنا شيئا مختلفا تماما عما هى الآن ـ تصور جسمين يتحركان فى الفضاء، أحدهما فى اتجاهنا والآخر مبتعدا عنا، ثم يتصادمان، لو كانت سرعة الضوء- والذى قد يكون جسيمات تسمى " فوتونات "، وقد يكون موجات، الله أعلم !- لو كانت تختلف باختلاف مصدره لكنا نرى أحد هذين الجسمين يتوقف وينفجر ثم الثانى وهو يقترب من موقع الانفجار وينفجر بدوره دون أن يبدو لنا أن هناك علاقة بين الحادثين. إلى هذا الحد نحن فى حاجة إلى المعرفة العلمية قبل أن نعتنق مذاهب كالمادية أو المثالية أو الواقعية أو الأناوحدية ( السولبسية ) إلى آخر هذه القائمة الطويلة.
قرنان من الزمن
إذا كان القرن الثامن عشر هو عصر التنوير، فإن هذين القرنين يحق أن يسميهما المؤرخون عصر الاكتشاف الأعظم. ولا شك أن العلم التجريبى قد انتزع ريادة المعرفة من الفلسفة خلال هذين القرنين، وحقق كشوفا لا بد لها أن تحدث تحولا عظيما فى أفكار الفلاسفة ،وهذا هو ما يجعل واحد من كبار علماء وفلاسفة هذا العصر- مهندس الطيران لودفيج فتجنشاتاين- يقول إن مهمة الفلسفة من الان فصاعدا سوف تقتصر على تحليل اللغة. هذه لأن اللغات التى نتكلمها ونكتب بها لم تعد تصلح إلا للتعبير عن نفسها وعن قيمها الجمالية والأخلاقية، وعن فروع المعرفة التى لا تدخل- عند أمثاله من أصحاب الوضعية المنطقية- فى نطاق الفلسفة كما يعرفونها أو يعرفونها. قد يكون هذا الرأى مشوبا بشئ من التطرف وهو- أى فتجنشاتين- كان شخصا متطرفا ومهووسا، وكان دائما يعد اللغة أكبر مشكلة فى طريق الفكر الإنسانى.
هناك ثلاثة من العلماء يتربعون على عرش المعرفة العلمية، نيوتن، ثم أينشتاين، ثم ستيفن هوكنج، خلفية نيوتن فى كامبريدج وصاحب الكتاب الخطير " البنية الواسعة النطاق للفضاء زمن "، وهو كتاب للراسخين فى العلم. إلا أنه له كتاب آخر لعامة الناس عنوانه " تاريخ موجز للزمن "، قد ترجم هذا الكتاب إلى أربيعن لغة وقرأت منذ عهد قريب أن عدد النسخ المبيعة وصل إذ ذاك إلى نسخة لكل 750 من سكان كوكب الأرض. ومع هذا فهو يروى فى مقدمة الكتاب أن الناشر نصحه بألا يورد أى معادلات رياضية فيه، وأن معادلة واحدة ستكون كفيلة بخفض مبيعات الكتاب إلى النصف !
ويضيف أنه لن يأتى إلا بواحدة فقط هى معالة أينشتاين الشهيرة: الطاقة تساوى الكتلة فى مربع سرعة الضوء، ويرجو ألا يكون وجودها قد أحدث الأثر الذى حذره منه الناشر.
والظاهر الكونية التى طلع بها العالم وهى " الثقوب السوداء "، أمر لم يتمكن أحد حتى الآن من رصدها، سوى أن هناك ظواهر فضائية قد تدل عليها بدرجة أو أخرى، ولكنها- حتى الآن- لا تتأتى إلا بالمعادلات الماتيماطيقية التى تنبنى على تصور- أو حساب- عواقب انهيار النجوم أو انطباقها على نفسها نتيجة لفقدانها للحرارة الناشئة عن التحول النووى، وهو ما يؤدى إلى أن تتغلب جاذبية مركز النجم على قوى التمدد التى تحدثها هذه الحرارة المنطفئة. الذى يحدث- بالمعادلات، وليس بالمشاهدة- هو أن ذارت المادة تنسحق وتتمزق، مخلفة وراءها فراغا مظلما لا أحد يعرف ما هو، ولكن قوى الجاذبية التى كانت تأتى من وجود هذا الجرم السماوى، تظل تحدث فعلها فى " تقويس " نسيج الفضاء زمنه، بحيث أن كل شئ يقترب- حتى ولو كان مجرد شعاع من الضوء- سوف يسقط فى هذه الهوة السحيقة ولا يظهر منه شئ بعد ذلك. من هنا جاءت كلمة " ثقب "، أى فتحة فى نسيج الفضاء زمن تؤدى إلى.. إلى فضاء زمن آخر، سكان هذا العالم الآخر سيرون " شيئا " يأتى من حيث لا يعلمون ؟ " يوفو " ؟ " طبق طائر " ؟ زوار من الفضاء..؟
ليس معنى هذا أن العلم التجريبى هو الحقيقة. بل إن الحقيقة قد لا تكون متاحة لبنى الإنسان فى كوكب الأرض إلا على هيئة فكرة وراء فكرة. قوانين نيوتن كانت تبدو صحيحة حتى ظهور النظرية العامة للنسبية سنة 1915، بل ومازالت حتى الآن أساسا لجميع الحسابات الهندسية والتكنولوجية. نحن نعرف الآن ما يلى مما يخالفها تمما ومما لا بد أن يكون له أكبر الأثر على أفكار الفلاسفة، وإن كان التمادى فى الكشوف العلمية مازال يؤدى بالعلماء إلى الغوص فى أعماق الفلسفة:
" الكتلة " عند نيوتن هى كمية المادة، وهى ثابتة، نحن نعرف الآن أن سرعة الحركة تزيد من الكتلة.
الفضاء ليس فراغا مطلقا يشبه حوض أسماك الزينة، الذى تعلوه ساعة حائط تدق بانتظام مطلق لا شأن له بأى شئ آخر ! الفضاء بدأ مع الزمن وينتهى معه، والكون له بداية وله نهاية، هذا الكون الذى نعرفه والذى قد يكون واحدا من عدد لا نهائى من الأكوان !
الفضاء آخذ فى التمدد، وحجمه يزيد بمعدل 5- 10 % كل ألف مليون سنة. وهو ليس مطلقا وليس لا نهائى: كل شئ فيه يتحرك ولا توجد نقطة أصل لقياس إحداثيات أى موقع فيه، وهذه الإحداثيات نفسها آخذة فى التغير، وهى أربعة، رابعها الزمن وهو مستمر فى التغير بالطبع. ولا يمكننا أن نرجع إلى أى مكان كنا فيه بأكثر مما يمكننا أن نرجع إلى لحظة عشناها. والأجرام السماوية ليست أجساما سابحة فى هذا النسيج من الفضاء زمن، بل هى وثيقة الارتباط به، مجرد وجودها يؤدى إلى ابنعاج أو التواء هذا النسيج. ولما كان كل شئ يتحرك فإنه عندما يقترب جسم من آخر فإن التواء الفضاء يجعله يغير مساره متجها نحوه، وهذا هو ما كنا نظن أنه قوى الجاذبية. نيوتن أسماها الجاذبية وجعل لها قانونا معروفا وصحيحا تما من الوجهة العملية، ولكن أينشتاين رأى أنه لو كان هناك تأثير متبادل بين الأجسام هو الذى يحدث الجاذبية وهى تتغير لحظيا مع استمرار الحركة، فمعنى هذا أن التبادل يمضى بسرعة لا نهائية، ولكن لا شئ فى هذه الدنيا بسرعة لا نهائية. أقصى سرعة هو سرعة الضوء، وأى جسم يتحرك لسرعة تفوق سرعة الضوء سوف يتوقف الزمن بالنسبة له، ثم يرجع إلى الماضى. هذه الأمور ليس مسموحا بها إطلاقا !
" الكوانتم " كلمة لا تينية معناها " الكم "، هذه الأبحاث فى سلوك الجسيمات التى تتكون منها ذرات المادة تؤدى إلى ظهور درجة من العشوائية أو تنفى موضوع الحتمية من دنيا المادة تماما ! وبرغم التحقق من هذه النظرية بالتجربة، وبرغم تجارب أجريت على نظرية النسبية أيضا مما لم يظهر أى شئ يتناقض معها، فإن هناك تناقضات بين هاتين النظريتني والكوانتم يؤدى غلى ما يسمى " مبدأ عدم اليقين " الذى لا تنطوى عليه النسبية.
يتصف الكون المحيط بنا بأرقام أساسية، منها مثلا حجم الشحنة الكهربية للألكترون، والنسبة بين كتلتى البروتون والألكترون، وغير ذلك، أرقام ثابتة وحقائق كلها تأتى بالملاحظة والقياس فقط، لو أنها كانت شيئا مختلفا عن ذلك، لما كان يمكن للنجوم أن تنفجر مؤدية إلى خلق الكواكب التى يمكنها إيواء الحياة كما نعرفها الآن، يقول هوكنج " إن أرقاما أخرى لهذه المكونات كان يمكن أن تؤدى إلى نشوء أكوان قد تكون رائعة الجمال دون أن يوجد من يمكنه أن يحس بالعجب لجمالها ! إما أن هذا هو الدليل على وجود إرادة إلهية فى خلق الكون وصياغة قوانينه، وإما أنه هو الأساس لما يسمى: المبدأ الانثروبى، أى المبدأ القائل بأن الكون وجد من أجل الحياة، وأن الحياة وجدت لكى يظهر الإنسان ".
نحن لسنا بالطبع فى سبيل البت فى هذه الألغاز، بل إننا لسنا على ثقة من صحة الاستدلالات التى تأتى من وراء هذا كله، الذى يعنينا هو:
1- لم تعد هناك إمكانية ولا مبرر لتفكير فلسفى ط لا يستمد الوحى من العلم التجريبى دون غيره "، كما يقول برتراند راسل.
2- ليس هناك طريق إلى العلم التجريبى ولا لغة للتعبير عن حقائق ولا أساس منطقيا لممارساته، سوى أرفع درجات الماتيماطيقا. لأنه حتى التجارب من نوع ما يجرى باستخدام معجلات الجسيمات Accelerators والتى تساعد على استكشاف حقيقة المادة، نتائجها لا بد من معالجتها برياضيات بالغة التعقيد بالنسبة للفرد العادى.
اليقين.. بعدم اليقين !
يقول لنا هوكنج: " لكى نتناول هذه الأمور، يجب أن يكون واضحا لنا ما هو المقصود بعبارة: نظرية علمية: إنها مجرد نمط للكون يقوم على عدة قواعد تربط الكميات الورادة فيه بنتائج ما تدل عليه الملاحظات والتجارب. وهى توجد فى عقولنا فقط، ولا يمكننا إثباتها " وقد أجريت فعلا تجارب عديدة على النسبية والكوانتم، ولم يحدث أنهاجاءت بما يثبت خطا هذا أو ذاك. فهل يكفى هذا لإثبات صحتها ؟ كانت قوانين الجاذبية عند نيوت هى تفسيره أو ترجمته لظواهر الحركة والسكون فى هذا الجانب منها، وكانت النظرية العامة للنسبية هى تفسير أينشتاين لنفس هذه الظواهر، فقط لا حيلة لنا إلا.. كما يقول راسل: " لقد دأب الفلاسفة على الاعتقاد بأن قواعد المنطق التى تقوم عليها الماتيما طيقا هى التى تحكم تفاعلاتنا الذهنية، مثل هذا الاعتقاد خليق بأن يحط من قيمة الفكر ويسلبه روعنه وكرامته، لأنه- لابد من أن يجعله بحثا عن الجوهر الخالص لكل الأشياء، حقيقة كانت أو ممكنة- يؤدي به إلى أن يصبح تحقيقا فى أمور بشرية بدرجة أو أخرى، وبالتالى فهى محدودة بحدودنا خاضعة لقدراتنا. إن الرياضيات تمتد بنا إلى ما وراء البشرية، إلى نطاق الضرورة المطلقة التى تنتمى إليها لا مجرد الدنيا الفعلية، بل كل دنيا أخرى قابلة لأن توحد. إن الرياضيات ليست فقط مستقلة عنا وعن أفكارنا، بل إننا- من وجهة نظر أخرى- نحن والكون كله، مستقلون عنها. إنه فقط عندما ندرك هذا جيدا، سوف يمكننا أن نحس بما لديها من جمال وروعة.
إن لفضيلة الزهد والارتقاء بالنفس قوة عجيبة تعلو فوق قوة أولئك الذين لم تتطهر نفوسهم بالفكر والمعرفة. هذه القوة هى التى يمكن أن تتحق بها سلامة الحياة المعنوية والأخلاقية، من أجل إضفاء النبل والسمو على أى فكرة أو شعار يسود عصراأو أمة من بين هذا الفضائل، حب الحقيقة هو الذى يقف شامخا فوق كل اعتبار آخر. وإنه فى الرياضيات، أكثر من أى شئ آخر، تكمن فى هذا الحب طاقة تحث ما قد تدهور من إيمان. إن كل دراسة عظيمة ليست غاية فى ذاتها فحسب، بل هى أيضا وسيلة لخلق عادة التفكير النفاذ المتسامى، والاحتفاظ بها ".
ويقول آليوت الشاعر الإنجليزى المعروف:
" لن نكف أبدا عن استكشاف المجهول
" وغاية كل ما نصل إليه
" هى أن نجد أنفسنا فى الموضع الذى بدأنا منه
" ونراه، وكأمنا لأول مرة... ".
مجلة العربي يونيو 1999

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق