مقاهي الأدباء والمثقفين. - محمد خليل - مدارات ثقافية

احدث المواضيع

الثلاثاء، 31 مارس 2020

مقاهي الأدباء والمثقفين. - محمد خليل

تاريخ المقاهي في الشرق.. طويل جداً واختلف باختلاف الجغرافيا من الشام إلى المغرب، ومن المحيط إلى الخليج. ومع أنه ليس ثمة تاريخ محدد لنشأة المقاهي في الوطن العربي، غير أن بعضهم يرجعها لقدماء المصريين، اعتماداً على أن المصري القديم كان يقضي وقت فراغه في مكان يستمع فيه إلى آلة (الهارب) الفرعونية، ويشرب عصير العنب ويناقش فيه أحوال الفيضان.

إلا أن الظهور الحقيقي للمقهى كان في أوائل القرن (10 هـ / 16م) عندما قدمت الحملة الفرنسية إلى مصر، وأقام الفرنسيون نادي (كيغولي) في حي الأزبكية وقلدّهم المصريون، فأقاموا بعض النوادي في البيوت المغلقة والمقاهي مفتوحة الأبواب في القاهرة التي تقدم الشاي والقهوة في فناجين، كما تقدم (النرجيلة) للزبائن الذين يطلبونها، وإلى جانب هذه المقاهي العامة كانت هناك مقاهٍ للطوائف المختلفة في المجتمع المصري. واشتهرت بعض المقاهي بتردد رجال السياسة عليها مثل مقهى (متاتيا) في ميدان (العتبة) الشهير، حيث تم الإعداد لثورة (1919م)، ومقهى (ريش) الذي اشتهر بكثرة المثقفين الذين اتخذوه مقراً لهم، ومنذ ثلاثينيات القرن الماضي أصبحت المقاهي منتديات وطنية لمواجهة الاحتلال البريطاني، فضلاً عن أنها كانت كمجالس للأدب والثقافة حتى ثورة يوليو (1952م).
انتشرت ظاهرة المقاهي الأدبية في مصر- مع أواخر القرن التاسع عشر، وبداية القرن العشرين- والسبب يرجع إلى المثقفين، الذين تعلموا في باريس التي تتميز بمقاهيها الكثيرة، ومن بينها المقاهي الأدبية، وامتد تأثير العادة الثقافية الباريسية إلى منصور فهمي ومحمود عزمي، ولويس عوض، ورمسيس يونان، ومحمد مندور، وتوفيق الحكيم الذي كان في باريس يجلس على الدوام في ركن قصي بمقهى (السلام) بميدان الأوبرا الباريسية، وأراد أن يسجل يوماً بعض الأفكار التي هبطت عليه لتوه، فلم يشأ أن يغادر مكانه المفضل، وآثر أن يكتبها على رخامة (الترابيزة) أمامه، واستأذن الجرسون ليعود في الصباح لنقلها على الأوراق. ويعتبر محمد السعدني خريج المقاهي الأدبية، الذي قال إن المقاهي لعبت دوراً مهماً في تاريخ مصر، وتاريخ الأدب فيها مثل مقهى (القزاز) بالسيدة زينب، التي كان من روادها ببرم التونسي، والناقد عبدالفتاح البارودي، ومقهى (عبدالله) بالجيزة وروادها المعروفون، رشدي صالح، وأنور المعداوي، وبابا شاور، ونزار قباني، ويوسف إدريس، وصلاح عبدالصبور. فصار المقهى يصنع جزءاً كبيراً من تجربة الكاتب أو الفنان، لأنه مادة سخية للشخصيات والأحداث والحكايات، أما بالنسبة للمقاهي الأدبية بشكل خاص، في الستينيات والسبعينيات ما بين مقهى (ريش) ذي الشخصية الفريدة، و(إنديانا)، و(إيزافتش)، و(علي بابا)، و(كازينو صفية حلمي) كل يوم جمعة، حيث يجتمع المثقفون والأدباء مع نجيب محفوظ، ومقهى (عبدالله) بميدان الجيزة، وفي (سان سوسي) يلتقي الكتاب والأدباء مع محمود السعدني، وزكريا الحجاوي وأنور المعداوي وسليمان فياض، وغيرهم.
وفي بداية حياة الكاتب والفنان يكون المقهى بمثابة مدة تكوين مهمة بالنسبة له، يقترب من الكتاب الكبار بخبراتهم الأدبية والفنية ويتعلم منهم، ويستطيع أن يقرأ ما كتبه عليهم، ويعرف آراءهم فيما كتب، ويستطيع أن يستمع لما يكتبه زملاؤه وما يكتبه الرواد مثل أمل دنقل، وعبدالله خيرت... فالإبداع الجديد لأحدهم يفجر الطاقات الداخلية للإبداع عند الآخر. وفي تفسير لظاهرة المقاهي الأدبية يقال إن السبب الرئيسي لها، كان انتهاء عصر الصالونات الأدبية الكبيرة التي كان يقيمها الأثرياء في بيوتهم مثل ندوة (الآنسة مي) التي كانت تعقد في الثلاثينيات كل يوم ثلاثاء في بيتها، وقبلها صالون الأميرة (نازلي فاضل) الذي كان يتردد على صالونها الإمام محمد عبده، وقاسم أمين، والعقاد، وغيرهم من أعلام عصرهم.. ولم تعد مثل هذه الصالونات الراقية متاحة ولا ممكنة، لأن أدباء الخمسينيات معظمهم من الطبقة الوسطى، أو الفقيرة، التي لا تملك فرصة إقامة صالونات في بيوت كبيرة واسعة، فبدؤوا يفكرون في طريقة أخرى، وكانت الفكرة هي أن يتوجه هؤلاء الأدباء والمبدعون إلى أماكن عامة، مثل المقاهي الشهيرة لعقد ملتقياتهم الثقافية والأدبية. وكان من ضمن هذه الندوات الأدبية الشهيرة: ندوة نجيب محفوظ كل يوم جمعة في مقهى (كازينو الأوبرا) في أوائل الخمسينيات، التي كسرت عزلة نجيب محفوظ الاجتماعية، والفكرية، وجعلته يستشعر الأفكار الجديدة منذ بزوغها وقبل أن تصبح أفكاراً سائدة، وقد ساعده على ذلك- بلا شك- في تحقيق تطوراته المذهلة التي رأيناها في فنه الروائي . ولعبت المقاهي دوراً فنياً كبيراً، ففيها ظهرت مواهب مصر الفنية كلها، فغنّى على رائحة القهوة والشاي كل من منيرة المهدية، وفتحية أحمد، وأم كلثوم، وعبده الحامولي، وسلامة حجازي، وسيد درويش، ومحمد عبدالوهاب، أي أن المقاهي كانت حالة فنية كاملة ومصدراً لصقل المواهب وإجازة النابغين من الفنانين.
ونعود إلى رحلة أشهر المقاهي التي سجلت جوانب من التاريخ الثقافي والسياسي لمصر، مقهى (متاتيا) الذي يقع بالقرب من ميدان العتبة، فقد جلست على مقاعد هذا المقهى شخصيات ذات أسماء رنانة في تاريخ مصر السياسي والثقافي أمثال جمال الدين الأفغاني، وسعد زغلول ، والإمام محمد عبده، ومحمود سامي البارودي، وعبدالله النديم، وكان يُطلق عليه اسم المقهى الأكبر.
ومقهى (قشتمر) حيث يقع في حي الحسينية، ولم ينل هذا المقهى شهرته، إلا عندما كتب عنه نجيب محفوظ في روايته المذكورة (قشتمر)، ويعد من أقدم المقاهي التي لاتزال موجودة حتى اليوم، وقد كان ملتقى للأدباء، وعلى رأسهم بالطبع نجيب محفوظ إلى جانب الأديب المعروف إبراهيم عبدالقادر المازني.
ومقهى (ريش) ويقع بالقرب من ميدان طلعت حرب بوسط القاهرة، تأسس عام (1908م) بالقاهرة، وكان مكان انطلاق العديد من المشروعات الأدبية والفكرية، فقد وُلدت فيه مجلة (الكاتب المصري) التي تولى رئاسة تحريرها الدكتور طه حسين، ومجلة (الثقافة الجديدة) التي تولى رئاسة تحريرها رمسيس يونان، وكان أكبر تجمع للمثقفين أمثال نجيب محفوظ، ويوسف إدريس، وأمل دنقل، ويحيى الطاهر عبدالله، وصلاح جاهين، وثروت أباظة، وكمال الملاح، ونجيب سرور. وكذلك السياسيين في المنطقة العربية ممن كانوا يحرصون على حضور ندوات نجيب محفوظ الأسبوعية، التي كان يعقدها عصر يوم كل جمعة منذ عام 1963م. 
مقهى (بعرة) ويقع في شارع عماد الدين بوسط القاهرة، وقد شهد مقهى(بعرة) مولد عدد من نجوم الفن الراحلين أمثال رشدي أباظة، وأنور وجدي، وتوفيق الدقن، وعادل إمام، ومحمد هنيدي ومحمود حميدة.
ولم تعد مقاهي(ريش، والفيشاوي، والجريون) قبلة المثقفين الشباب في مصر، والأماكن الأقرب إلى قلوبهم بعد أن فقدت تلك المجالس العريقة تدريجياً، وزحفوا إلى أماكن أخرى هرباً من سطوة الكبار ورغبة في الاستقلال عنهم، وتشكيل عالمهم الخاص الذي يعتقدون أنه يختلف كثيراً عن العالم الثقافي في الستينيات والسبعينيات.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق