في اللّحظة الّتي أفلت فيها الكرسي الحديدي من تحت قدميه، دون أن
يوقعه، شعر بضغط الحبل السّميك على عنقه وانتبه إلى أنّه ما من شاهد على موته سوى
العنكبوت ساكن الرّكن العلويّ الأيمن من الغرفة والسّحليّة العجوز الّتي كانت
مستلقية على الجدار في مرمى عينيه المفتوحتين على اتّساعهما كعينيّ بوم.
بماذا يفكّر المنتحرون في
هذه اللّحظات الأخيرة؟ تساءل وقد بدأ يحسّ بتقطّع أنفاسه وارتعاش مفاصله ورغبته في
التّبوّل. بالحياة الّتي اختاروا العيش بعيدا عنها؟ بالرّفاق؟ لكنّه لم يعرف غير
ذلك العنكبوت اللّعين الّذي ينظر إليه الآن في لامبالاة تامّة كجنديّ إفريقيّ قديم
اكتفى بما رآه في حروب لا تعنيه.
أحسّ أنّ رئتيه تكادان
تنفجران لكنّه مازال يقاوم الرّغبة في رفع يديه للتّمسك بالحبل وفكّ الأنشوطة.
لاحظ أنّ النّعاس مازال
يطوّح برأس السّحليّة وهي لا تحرّك ذيلا أمام تأرجحه العنيف بين الحياة والموت.
هذه العجوز الّتي عاشت معه في الغرفة ذاتها سنينا حدّثها خلالها عن كلّ شيء. مرّة،
وكانت تحتفظ ببعض جمال السّحالي، اقترح عليها الزّواج من العنكبوت على أن يكون
شاهدا في المراسم. لم يجرؤ طبعا على استشارة العنكبوت المتراخي في نسيج شبكته
الواهنة. لكنّه كان يعلم أنّه لن يرفض.
ولماذا يرفض؟ عاطل مثله لا
يملك غير تلك الشّبكة الّتي نسجها من لعابه القذر، ولم يستطع أن يوقع بين خيوطها
ولو ذبابة واحدة! كان عليه أن يشكره فالسّحليّة على كلّ حال لا تقتل رفيقها بعد
التّزاوج كما تفعل إناث العناكب المجرمة. وكما تفعل بعض النّساء.
كان يعتقد أنّ هذه الغرفة
الضّيّقة ستكون مكانا مناسبا للموت اختناقا وفي أسرع وقت، فلمدّة طويلة لم تكن
مناسبة للحياة. حتّى أنّه أبقى النّافذة الصّغيرة مغلقة لكي لا يتسرّب منها الهواء
فيُطيل عذابه. ظنّ أنّه سيكون مُصيبا ولو لمرّة واحدة وأخيرة في قرار يتّخذه. لكنّ
الفشل يطارده كما اعتاد دوما. الفشل في كلّ شيء. ليس هذه المرّة!
أخبرته أمّه، حين كان يحزم
حقائبه للإبحار خلسة إلى الضّفة الأخرى، أنّها حلُمت به وكأنّ البحر انفلق أمامه
طودين ليتركه يمرّ كما فعل مع النّبيّ موسى. لم تكن هذه البشارة كافية سوى للنّجاة
من تحطّم القارب والعودة لقضاء عقوبته مع من نجا من “الحرّاقة” *. في السّجن، لم يخبر أحدا منهم بتلك الرؤيا حتّى لا يشتموا أمّه ولا يكفروا
بموسى.
الدّقائق الخمس اللّازمة
لكي يلفظ أنفاسه، كما قرأ عن ذلك في مطالعاته استعدادا للانتحار شنقا، يبدو أنّها
ستستمرّ يوما بطوله. كان على الدّماغ أن يجفّ من الأوكسجين ويدخل في مرحلة
اللّاوعي بالألم قبل الموت. لكنّه لا يزال واعيا تماما، رغم حدّة الارتجاف وبروز
عروق يديه. تذكّر أنّه قد نسي أن يضع مرآة على الجدار ليشهد نهايته عوض العينين
المُتهدّلتين للسّحليّة العجوز. النّسيان هو نوع من سوء الحظّ الذّي يلازمه. تذكّر.
لم يكن تعنيف والده له في
صغره ليشفيه من هذا المرض. كان يضربه لمجرّد نسيانه إغلاق الباب الخارجيّ للمنزل
العتيق. لترك جواربه مرميّة في الفناء تتلاعب بها القطط. لأن يراه ولا يقف له
احتراما…
وكأن ينسى أنّ عليه
استعطافه ليسمح له بالبقاء حيّا.
– يا ابن الحرام! سأسلخك سلخا!
ومدّ يده الغليظة كجذع
شجرة محترق متناولا حبل “الماجل” ** الملقى بدلوه وسط الدّار وهوى عليه
به في ضربات متتالية وقد حشره في ركن الفناء بين شجرة العنب والحائط. مع كلّ ضربة
كان الدّلو القصديريّ يرتفع ثمّ يقع على الأرضيّة الصّلبة مُحدثا قرقعة حادّة
أرعبت قطّه الصّغير الّذي اختبأ في “حوض النّعناع”.
ظلّ لسنوات، بعد موت ذلك
القط الرّماديّ، وهو يتذكّر نظرات الرّعب والشّفقة الّتي كان يرسلها إليه وهو ملقا
في الفناء لا يقوى على الوقوف. سيكون قادرا فقط على الزّحف حتّى يبلغ “بيت المونة”
أين يحبس نفسه أيّاما رافضا الخروج. لا يأكل ولا يشرب كي لا يضطرّ لقضاء حاجته
البشريّة. لكنّه كان يسمع كلّ ليلة بكاء أمّه كلّما أنشب فيها ذلك العُقاب مخالبه
ومزّق جسدها.
لكنّ هذا كلّه لن يستمرّ.
سينسى كما يشاء. سينسى كلّ شيء إلّا ذلك الحقد الّذي كبُر في صدره على جميع الآباء.
وهذا ما أبعده عن “مريم”
الّتي تحبّ الأطفال.
مريم..أوّل زهرة تتفتّح
لرذاذ دموعه. تُميل رأسه على صدرها وتدعوه للبكاء. تُحسّ باضطرابه.
– لا تخجل..الرّجال يبكون أيضا..أتعلم؟
عليكم أن تبكوا. ليس سهلا أن تكون رجلا محروما من البكاء! حين يرفع رأسه لينظر في
عينيها كان يبذل جهدا خارقا ليفعل ذلك. لم يكن خجلا. كانت تلك الرّعشة الّتي تصيب
جفونه وتضطرّه للنّظر دائما إلى أسفل قدميه كمن يخشى التّعثّر في كلّ خطوة يخطوها.
– قاربت العاشرة من العمر وتتبوّل في
بنطالك! ألن تصبح رجلا؟ ماذا؟ تأْ..تأْ..تأْ..وتُتأتئُ أيضا! أنزلْ عينيك عندما
أكلّمك..
وينال الصّفعة الأولى.
“لن أكون أبا يا مريم. إنّني أحمل جيناته
في داخلي. على هذه السّلالة أن تنتهي بموتي ورحيلي عن عالمكم البغيض”. ورحلت مريم
لتتزوّج رجلا تنجب منه أطفالا وتقتله بعد ذلك كما تفعل العناكب السّوداء.
لو تزوّجها وقتلته لكان في
غنى عن هذا الحبل. لكنّه سيرتكب جُرمه الأكبر إن ترك وراءه ضحاياه الصّغار. لو
تزوّجها، لكان سيفقد متعة نجاحه للمرّة الأولى في القيام بالصّواب. في الموت على
يديه وحده. ميتة واحدة لا تتكرّر مع كلّ شروق وغروب للشّمس ومع كلّ ذكرى لمريم
تهبّ على قلبه كريح حارقة.
تحرّك العنكبوت وقد بدا
عليه الدّخول في نوبة تثاؤب الظّهيرة. الوغد. يريد أن يتّخذ مكانا أفضل ليراه في
نزعه الأخير. كيف نجوت كلّ هذه السّنوات من حروبك الكثيرة؟ خُيّل إليه أنّه يضع
نظّارات شمسيّة وقبعة من سعف النّخيل، مرتخيا على كرسيّه الهزّاز، يدعك بطنه
المنتفخة كحبّة زيتون.
“لا ترم النّوى في الفناء. ضعه أمامك على
الطّبق. هل عليّ أن أذكّرك دائما؟ سيقتلك هذه المرّة!” خاطبته هامسة محذّرة.
زيتون أمّه المملّح هو
الأفضل حتّى لو أكله بنواه. لكنّ الخوف جعله يقفز ليجمع ما ألقي. كان يدور
كالمجنون بحثا عن نواة نسيها قد تطؤها قدماه. خُيِّل إليه أنّه تحوّل إلى دجاجة.
دجاجة تنقر الأرض رعبا من ذلك العُقاب المحوّم في أجواء طفولته الكئيبة.
يوم عاد إلى الدّار الخربة
بعد كلّ تلك السّنوات، جلب معه رطلا من الزّيتون المملّح. جلس في السّقيفة وأخذ
يتناول الحبّة تلو الأخرى ويلقي بالنّوى في الفناء الّذي سُرق بلاطه بعد أن خلت
الدّار من سكّانها وأصبحت قنّا لدجاجات الجيران.
تأكّد بأنّ قواه تنهار.
تكاد عظام رقبته تتهشّم. السّائل السّاخن بدأ يتسّرب كجداول صغيرة من حوضه إلى
قدميه. أصبحت الأنشوطة بعيدة عن متناول يديه. لم يعد قادرا حتّى على الإمساك
بلسانه المتأرجح. ضغط عليه بأسنانه ليقطعه. أحسّ بأنّ رقبته تتمطّط. هذا سيكون
بسبب ثقل جسمه وفراغ رأسه. سيتحوّل إلى زرافة في النّهاية! ولكن كيف تنتحر
الزّرافات؟
رأى صورة وجهه منعكسة على
نظارات العنكبوت. كان مثل بركة اختلطت فيها الدّموع بالمخاط.
– سامحني..سامحني..أرجوك يا أبي! إنّني
أختنق !..
– يا ربّي! سيبتلع لسانه..اتركه يا سي
عبد الجبّار..هذا يكفي…وترتمي بجسدها فوقه لتحُول بينه ولسعات حزام عبد الجبّار
فينالها شيء ممّا ناله.
– ابتعدي يا امرأة! أنت السّبب…فتحت له
طريقا في بحر الدّلال…اللّعنة عليكم جميعا!
يُلقي بحزامه مع آخر ضربة
تطالهما معا ويستدير خارجا، مطبقا الباب، نافثا دخان سيجارته، مترنّحا.
أخذ يتلوّى بآخر شحنة من
الطّاقة الكامنة فيه. بدأت فتحة ذلك النّفق الحلزونيّ تظهر له كلّما أغمض عينيه.
قريبا سيبتلعه الثّقب الأسود. سينجح في العبور. سيكون موسى!
فجأة، دفع تيّار قويّ من
الهواء النّافذة فانفتحت على مصراعيها. ارتطم جسده بالجدار المقابل حين انّفكت
عقدة الحبل من السّقف. لم يسمع شيئا غير سقوط الكرسيّ الحديديّ بعد أن لامسه بقدمه
عند ارتداده من الجدار. أحدث الكرسيّ قرقعة أشبه بقرقعة دلو قصديري يتهاوى داخل
بئر. اختفت السّحليّة العجوز في إحدى الشّقوق بينما كان العنكبوت متشبثا بآخر خيوط
شبكته، الّتي عبثت بها الرّيح، متدليّا كالمشنوق.
كان ممدّدا وسط الغرفة على
بطنه. يسحب الهواء إلى رئتيه في حركات متقطّعة أقرب إلى الحشرجة. لم يغلق عينيه.
كان عليه أن يشهد مرّة أخرى تجربة الفشل. أن يشتمّ رائحة النّعناع المتصاعدة من
كلّ شيء حوله. وأن يرى القطّ الرّماديّ الصّغير يطلّ برأسه من خلف الدّولاب
المتهالك بنظراته الّتي يملؤها كلّ خذلان العالم.
*******
حجر مارس/أفريل2020
* الحرّاقة : لفظة تطلق على من يقومون بعبور الحدود البحرية خلسة في اتجاه الدول
الأوروبية.
** الماجل : منشأة كانت موجودة في البيوت التونسية لتخزين مياه الأمطار وإعادة
استعمالها في الصيف.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق