بلورت
البدايات الفلسفية السابقة لـ (أفلاطون) و (أرسطو) معطيات لها من الأهمية في منح
مؤشرات أولية للفكر الفلسفي المنصب في بعض جوانبه على ما يمكنه إماطة اللثام عن
أسس تدخل ضمن طبيعة الممارسة الميتامسرحية ، إذ أنها في جانب منها – وبخاصة ما
يتعلق بالجانب التأملي- تقوم على المعطى الفلسفي الذي يقوم في أساسه على التقابلات
، والتماثلات ، والتفاوت بين الجوهر والمظهر ، والمنسوخ والحقيقي ، والثابت
والمتحرك ، والمرئي واللامرئي ، والحقيقة والوهم ، إذ يتأسس على هذه المعطيات
خاصية تأملية* تمثل محصلة مهمة لهذا التفاعل الذي في أغلبه تستنهضه ثنائيات جدلية
متعالقة تفيد منها الممارسة الميتامسرحية .
من هذا الباب يجسد الميتامسرح في جانب منه
تطبيقاً للفكرة الفلسفية النسبية . وأن جذور هذه الفلسفة تعود في زمنها إلى
الفلسفة اليونانية القديمة ، وذلك عندما صرح (هيراقليطس) : (( إن كل شيء
في حالة دائمة من التغير أو التدفق المستمر))(1) .
وقد يرى المتأمل في قول (هيراقليطس) انه
مشتمل على مساحة لا تحد من النسبية التي من شأنها أن تجعل حتى قوله نفسه محل نقاش
، إذ كيف يفسح هذا الاندفاع المستمر نحو التغيير مجالاً يُمكّنُ (هيراقليطس) أن
يوصلّ لنا مفاهيمه ؟ . علماً أن عبارته نفسها عرضة لهذا التغيير وبنفس القوة ؟! .
لكن التفسير العقلاني لقول (هيراقليطس) يبين انه لا يعني بهذا التغيير عملية
عشوائية تتحقق دون محركات ومسببات وتجرد عن المنطق ، فـ (هيراقليطس) – كما يرى
(غنار سيكربك*) (( لا ينفي فكرة أن الأشياء يمكن أن تدوم لوقت طويل
جداً . غير أن المبدأ الأساسي الذي يقع وراء جميع الأشياء الزائلة ويدعمها هو
التفاعل بين القوى))(2).
وعلى الرغم من أن (سيكربك) يقــدم تبريراً
مستساغاً لتفسير آلية التغيير والحركـــة لدى (هيراقليطس) غير انه يجانب الصواب
بمثال آخر عندما يحاول من خلالــه التدليل على الموضــــــــوع ذاتــه فيقـــــــــــول
:
(( نذكر أن
البيت هو شيء ، وهو شيء في حالة تدفق مستمر . غير أن القوى البناءة
ستسود ، وقتياَ ، سنين عديدة ، على القوى الهدامة . وسيبقى البيت
طالما بقي ذلك الوضع . غير أن ميزان القوة بين القوى متغير ، وعلى الدوام . وسوف
تسود القوى الهدامة في يوم من الأيام ، فيتداعى البيت : فقوة الجاذبية والتآكل
ستتغلب على القوى المضادة ))(3).
لكن ـــ هذا أمر طبيعي ـــ يتعلق بعوامل
فيزيائية ، فتقدم الأشياء المادية صوب
القِدم بفعل فاعلية التغيير المستمر التي تطرأ عليها تجعل من القدم عامل إضعاف لها
، بيد أن هذا الأمر لا ينطبق على الأفكار ، فمهما قدُمتْ الأفكار فإنها لا تدخل
ضمن طائلة هذا القانون ، فهي لا تضعف ما لم يزيحها البديل المقنع ليحل محلها . وفي
الوقت نفسه فأنه مثال (البيت) لا يمكن أن يكون فيه رجحان في النتيجة لثنائية
البناءة والهدم ، إذ يبقى جانب الحسم لمصلحة القوى الهدامة في حين أن بنية الأفكار
ومنطقها تتكيف مع الرأي البناء لكونه من التماسك والقدرة أن يحل محل الرأي الهدام
، فمثال البيت في ضوء ذلك لا يتواشج إلا مع الفكرة السلبية للحركة والتغيير ،
لأنها حركة تراجعية (تبدل في الصفات) دون تعويض عنها . أما الحركة على المستوى
الفكري التفاعلي فإنها حركة بناءة ايجابية لأنها تعمل على التخلي عن مواصفات ومؤشرات
ما لتأتي بما هو بديل عنها ، فيكون الديالكتيك ايجابياً انتاجياً .
هكذا يكون رأي (هيراقلطيس) – (كل شيء في تغير
دائم) متصل بمسألة تبدل صفات الأشياء وعدم امتلاكها لصورة نهائية ، مما يجعل البت
في حقيقتها أمراً مستحيلاً. فحقيقة الأشياء بعيدة المنال ، والمظاهر المحسوسة
متلونة لا تستقر على حال ، كل ذلك يشكل عقبة أمام أدوات الحس الإنسانية في
محاولاتها لتبيان حقيقة ألأشياء ، لذلك يعلن (هيراقليطس) : (( الأعين
والآذان شهود مضللون للناس إن كانت لهم نفوس لا تفهم لغتها))(4).
وقد كان لهذا الجدال حول مفهومي الحقيقة
والوهم بمستواهما الفلسفي انعكاس شديد الوطء على مجمل المنتج المسرحي (الاغريقي) -
فالوهم الأوديبي على سبيل المثال - يتخذ حياة من نوع خاص تتدفق وتتحرك وتصل إلى
متحققات ولكن الحقيقة الضاغطة التي تختبئ خلف مظاهر هذه الحياة ما أن تبزغ حتى
تتهشم بنية الوهم ويتقطع نسيجه إرباً . وهنا يكون التكشف للحقيقة تدريجياً وما
يبقى في الذهن هو صورة الوهم المتسيد على الموقف والذي ينعم بالبقاء الطويل ،
وتبقى صورة الحقيقة محجوبة تتقدم صوب إظهار نفسها ببطء شديد عبر الشواهد والدلائل
والتي تمثل عناصر الحقيقة ، المتجاورة مع الوهم – (الرجل المجهول الذي يفضح سر
تبني
أوديب ) ، (مبلغ الوحي في دلف الكاشف عن المستقبل) ، ( الوباء )، (العراف تريزياس)
،
(خادم لايوس). وعبر هذا التجاور تبرز الخاصية التأملية الميتامسرحية . التي تصل
إلى تقرير نتيجة مفادها إعلان (أوديب) الختامي الذي يجيب عن دواعي تلك الجدلية
المتواصلة ، وخلاصة الثيمة التي أنتجتها الخاصية التأملية ، كي تنتقل توجهات النص
المسرحي إلى خاصية أخرى من خواص الميتامسرح متمثلة بـ (الخاصية النقدية) التي تعمل على الفضح والتشهير عبر الخطاب المباشر،
والاستغناء عن المراوغة التي كانت تقوم عليها الخاصية التأملية ، والتي كان عملها
بمثابة تقديم الأسانيد ، أو اتخاذ طبيعة المحاكمة عبر الاستماع إلى كل الأطراف ،
ومجاورة الشواهد ، ومن ثم يكون قرار المحكمة الحاسم منطوق به على اللسان ألاوديبي
الذي يأتي كجواب لسؤال (قائد الكورس) (( قائد الكورس : ماذا فعلت
؟ كيف خربت إذن حدقتيك ؟ أي أله دفع ذراعك
ففعلت هذا؟
أوديب:
ابولون ، يا صاحبي ! إنه أبولون هو الذي صبّ عليّ في هذه
الساعة هذه الفظائع ، هذه البلايا التي هي نصيبي ، نصيبي من الآن فصاعداً ))
(5).
وهكذا تمتاز خاتمة مسرحية (اوديب ملكاً)
ببروز الخاصية النقدية الميتامسرحية التي تعري حقيقة القانون الإلهي ، وتلفت
الانتباه إليه ، وتدينه بشدة ، وتفضح ما يمارسه من لعب بالمصائر البشرية وهذه الخاتمة ذات التوجه النقدي ، التي اقترنت
بالتحول في مصير الشخصية الاوديبية من المستوى السامي المرتبط بالعرش الملكي وقوته
وجبروته، إلى المستوى المتدني والإجرامي - تتطابق معها
مقولة
(هيراقلطيس) التي ترى – (( إن الزمن طفل يلعب النرد ، والقوة الملكية
إنما يتحكم فيها طفل)) (6) .
من زاوية أخرى يتكشف عبر الأفكار الفلسفيــــة
التي يطرحها (هيراقليطس) مسار آخـــــر يلتقـــــــي مع الخاصية التأملية التي هي
واحدة من الخواص المتعددة للممارسة الميتامسرحية ، وذلك عبر رصده للعملية
التفاعلية المسفرة عن الانسجام ، على الرغم من أنها نتاج للمتضادات ، كما يتكشف
ذلك عبر (( ملاحظة التوتر في القوس والقيثارة))(7) - التي
جذبت انتباهه - فعبر هذه العلاقة المتضادة بين الاثنين يتولد النغم بعذوبته ،
وبذلك ينتج عن التضاد انسجام وتوافق هو ما يؤدي بـ (هيراقليطس) إلى استنتاجه المهم
القائل ان من (( وراء صراع الأضداد ، وفقاً لمقادير محسوبة ، يكمن
انسجام خفي او تناغم هو جوهر العالم ))(8) .
ومن ثم ليس
بالإمكان بلوغ التناغم دون استكمال أطرافه ، كما أن قيمة كل طرف في خلق التناغم
تنبع من قيمة الطرف المضاد إليه ، إذ أن وجود الضد هو ما يلفت الانتباه إلى المضاد
، فطاقة وإمكانات المضاد محكومة بإثارة الضد إليه، وفي ذلك ما يفسح مجالاً للنظر
إلى العلاقات القائمة بين المتضادات في العمل الفني ، وبخاصة في تلك الأعمال التي
تنتمي إلى الممارسة الميتامسرحية ، إذ أن صور المتضادات فيها غالباً ما تكون بارزة
، لأنها تحقق الشروط التأملية والنقدية التي تقوم عليها هذه الممارسة .
فيتحقق التأمل - على سبيل المثال لا الحصر-
بفعل التجاور بين (المقدس والمدنس ) و (الجبري والتحرري). فعلى مستوى التضاد بين
(المقدس والمدنس) تكون مسرحية (انتيجونا) مثالاً بارزاً في هذا الجانب اذ يتجلى
(المقدس) في فكر (انتيجونا) وما تحمله من عاطفة ونبل – فعلى حد قول باتان Patin وهو يصف مسرحية
(انتيجونا) : (( لا يوجد في أي مسرحية يونانية أخرى مثل هذا السمو في
الأفكار ، ومثل هذه العظمة في العواطف ، ومثل هذا التصوير النبيل للإنسانية ))(9)
.
ويتجلى
(المدنس) في شخصية (كريون) وجبروته واستباحته لحرمة الجسد الإنساني . وعبر التضاد
بين هذين القطبين المتعارضين يتبدى الانسجام فيصبح جبروت المدنس إظهاراً لإنسانية
وكمال المقدس ، وبذلك يتحقق التناغم بين الاثنين . وما يستدعي الخاصية التأملية من
خلال التضاد القائم بين (المقدس) و(المدنس) أنهما يمثلان المحرك الأهم والفاعل الذي
يحتل موقعه ضمن فضاء النص المسرحي ، لذلك يُكرسُ استحضارهما والتأكيد عليهما حتى
في حوار الشخصيات: (( إسمينا : ماذا هناك إذن
؟ إن أمراً يعذبك ، هذا واضح.
أنتيجونا : حقاً . تصوري أن كريون يميز بين
كلا أخوينا فيما يتعلق بمراسم الدفن : فهو يسمح لأحدهما بشرف الدفن في قبر ، بينما
يرفض ذلك للأخ الآخر ويصب عليه هذه الاهانة ))(10).
في ضوء ذلك يكون التقديس والتدنيس من حيث
ارتباطهما بالفعل action علامة دالة على الفاعل، ومن ثم تكون كل
افعال (انتيجونا) هي بمثابة السعي لتكامل صورة المقدس الذي انطلقت منه المسرحية ، ويعقب الخاصية التأملية
التي تلفت الانتباه إلى مجريات الأحداث ، وطبيعة الأفعال، بروز للخاصية النقدية
التي تكون بمثابة الخلاصة المهمة للمدار التأملي المتواصل ، الذي تم تفعيله عبر
جدلية المقدس والمدنس ، فيرشح عن الاثنين فكرة ختامية عليا تتواشج مع فكرة المقدس
وتنتصر له ، من خلال تركيزها على فشل المدنس والتنديد بصفاته :
(( قائد الكورس : الحكمة هي أول شروط
السعادة .لا يجوز أبداً ارتكاب الكُفرْ في حق الآلهة والمستكبرون سيجدون أن كلمتهم
الكبيرة سيجازيها المصير بضربات شديدة ، وهم لا يتعلمون أن يكونوا عقلاء إلا مع
مرور السنين ))(11).
هكذا
تؤكد الخاصية النقدية الميتامسرحية حضورها في هذا النص فتكون بمثابة التعقيب على
مــــــا جرى من أحداث ومواقف ، فهذه الخاصية هي علامة انتقال واضحة من الخطاب
الخاص الذي كان يحوطه النص ( عالم الشخصيات المنفصل عن عالم المتلقي ) ، إلى
الخطاب العام الذي يخترق حدود النص ليبلغ رسالته المباشرة إلى المتلقي ويشمله بما
وقع من أحداث ، بعدّه المقصدية التي يسعى الخطاب النصي إلى بلوغها . فإذا كان
المؤلف يتوارى باعتماده على الخاصية التأملية فهــو يبرز ويظهر
أكثر قرباً باعتماد على الخاصية النقدية .
الهوامش
*
الخاصية التأملية : من خواص الميتامسرح البارزة التي تنتج عن تقاطع
المفاهيم او تناظرها ، او نتيجة لتبادل الصفات فيما بينها ، وهي تفيد بشكل كبير من
الثنائيات المتناقضة التي تلح على الحضور في مجرى النص مخلفة أثراً تأملياً يحقق
الانعزال والخصوصية والهيمنة .
(1)
غنار سيكربك و نِلز غيلجي ، تاريخ الفكر الغربي من اليونان القديمة الى القرن
العشرين ، ترجمة : د. حيدر حاج
اسماعيل ، ط1 ، ( بيروت : المنظمة العربية للترجمة ، 2012) ، ص 51.
*
غنار سيكربك : هو استاذ الفلسفة في جامعة بيرغن – النرويج .
(2)المصدر نفسه ، ص 52.
(3)المصدر نفسه ، ص
52.
)4) برتراند رسل ، حكمة الغرب : عرض تاريخي للفلسفة الغربية في
اطارها الاجتماعي والسياسي ، ترجمة : د. فؤاد زكريا ، ج1 ، ط2 ، ( الكويت :
المجلس الوطني للثقافة والفنون والاداب ، 2009) ، ص 48.
(5) سوفوكليس ، تراجيديات سوفقليس : مسرحية
أوديب ملكاً ، ترجمة وتقديم وتعليق : د. عبد الرحمن بدوي ، ط1 ( بيروت :
المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، 1996) ، ص 141.
(6) برتراند رسل ، المصدر السابق نفسه ، ص 48.
(7)
بنيامين فارنتن ، العلم الاغريقي ، ترجمة : احمد شكري سالم ، مراجعة : حسين
كامل أبو الليف ، تقديم : مصطفى لبيب ، ج1، ط1 ، ( القاهرة : المركز القومي
للترجمة ، 2011) ، ص 46.
)8) برتراند رسل ،المصدر السابق ، ص 49 .
)9) د. عبد الرحمن بدوي ، مقدمة : مسرحية انتيجونا ، في كتاب
: تراجيديات سوفوقليس ، مصدر سابق ، ص
151.
(10) سوفوكليس ، تراجيديات سوفوقليس : مسرحية انتيجونا ، ص 162.
)11)
المصدر نفسه ، ص 202.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق