اللّيلة الأخيرة قبل نهاية العالم - مديحة جمال - مدارات ثقافية

احدث المواضيع

الاثنين، 27 أبريل 2020

اللّيلة الأخيرة قبل نهاية العالم - مديحة جمال

نشر موظّفو وكالة ناسا أنّ الكويكب «NT7 2002» سوف يصطدم بالأرض يوم الغد 1 فيفري عند الساعة الثامنة صباحا. وقال الموظّفون إنّ نهاية العالم ستبدأ في هذا التّوقيت، حيث سوف تكون قوة الاصطدام مساوية لانفجار ثلاثين مليون قنبلة نوويّة.
ارتعشت يداي، وكاد الهاتف يسقط من يدي بينما أقرأ الخبر. هاتفت زوجي وطلبت منه العودة سريعا إلى البيت. ثمّ أرسلت له رابط الخبر. قرأ الخبر، ثمّ أرسل إليّ وجها أصفر ضاحكا مرفوقا بجملة:
“أنهي شرب قهوتي مع صديقي وسأعود الى المنزل قبل نهاية العالم!”.
اتّصلت به مجدّدا، فطلب منّي أن أتعقل وأكّد لي أنّ مصدر الخبر غير موثوق من صحّته. فالخبر كلّه ليس سوى نكتة ثقيلة سبق نشرها، مؤكّدا مرّة أخرى أنّه سيعود الى المنزل قبل نهاية العالم إذا لم أزعجه بالاتّصال مجدّدا.
أغلقت الهاتف. تسارع نبض قلبي. بدت لي الأرض تهتزّ تحت قدميّ، وجدران الغرفة تندفع نحوي حتّى تسحق عظامي. تذكّرت أنّ بيتي يحتوي على مئات الكتب باستثناء كتاب القرآن. خرجت أهرول إلى المكتبة وطلبت نسخة من المصحف. عرض عليّ الكتبيّ نسخا جديدة بأغلفة ملوّنة وسألني أيّ لون أريد.
دون اهتمام أجبته: “أيّ نسخة”.
حدّثني صوت بداخلي: “ما جدوى الألوان ان انتهى العالم؟”.
مدّني المكتبيّ بنسخة تقليديّة ذات غلاف بنّيّ. استدرك الصّوت الذي حدّثني “هذه النّسخة تقليدية لا تشجّع على قراءة القرآن، اللّون الأصفر أجمل”.
اعتذرت من المكتبيّ وطلبت منه نسخة ذات غلاف أصفر مبهج. ثم اعتذرت منه ثانية مؤكّدة أنّ رأيي استقرّ على نسخة ذات غلاف ورديّ.
ابتسم المكتبي، ثمّ رمقني بنظرة ماكرة فنهرته ممازحة:
“أعلم أنّها كلّها نسخ للقرآن لكنّ قلبي مال إلى النّسخة ذات الغلاف الورديّ”.
“ذوق أنيق سيّدتي، تفضّلي”.
حملت النسخة بين يدي وكأنّني امتلكت للتوّ خاتم سليمان. ثمّ توجّهت إلى أقرب فضاء تجاري بالحيّ، تجوّلت بين أروقة الخضر والغلال ومعلّبات التونة وأروقة البسكويت والأجبان والحليب ومشتقاته والحلويات والفواكه الجافة إلا أنني لم أختر منها شيئا.
ماذا أريد ان اتناول قبل نهاية العالم؟
ظللت أتجوّل بين الأروقة والصّوت يردّد على مسمعي نفس السؤال إلى أن تسمّرت أمام رواق الشوكولا أردت أن أشتري علبة فيريرو روشيه إلا أنّها كانت باهظة.
“سينتهي العالم وأنت لا تملكين حتّى ثمن علبة شوكولا تشتهينها”. آلمني الصّوت ثبّت في قلبي رصاصة واختفى. واصلت تجوّلي بين الأروقة أجرّ ساقيّ جرّا. أخيرا وجدت بديلا عن الشّوكولا بديلا محلّيّ الصّنع، خفيف الوزن، رخيص السّعر، فريد الطّعم.
اشتريت مائة غرام من الزّيتون. ثمّ عدت إلى المنزل. غيّرت ملاءات السّرير وأغلفة المخدّات. فرشت ملاءات جديدة لم يسبق استعمالها. ثمّ بحثت في الرفوف عن سجّادة للصّلاة أعطتني إياها أمي، ولقد أخبرتني متيمّنة بأن جارتنا قد جلبتها لها هديّة من “الحجّ”، إلى أن عثرت عليها. وبينما كنت أفرش السجّادة في اتّجاه البحر، لأنني لا أعرف اتّجاه القبلة، لمحت علامتها التجارية وقد كتب عليها “صنعت في تركيا”.
قهقه الصّوت: “ماذا كنت تأملين؟ سجّادة مهرّبة من صنع آخر أحفاد الرسول مثلا؟”. استعذت من الشّيطان. أخرست الصّوت الذي يوسوس لي. ثمّ توجّهت الى بيت الاستحمام ونويت الطّهارة. حين أنهيت الدّشّ السّاخن جفّفت شعري، فصاح الصّوت بعد أن أغلقت مجفّف الشّعر:
“ماذا؟ ألم تستمعي إليّ؟ أَأصابك صوت المجفّف بالصّمم؟ خائفة من المرض هاهاها… ماذا إن مرضت ساعات قبل نهاية العالم! سيكون مرضا كوميديا بامتياز! أليس كذلك؟”. ارتديت جلبابا جلبته لي قريبتي من المدينة المنوّرة، فضول قاهر دفعني إلى التّفتيش على مكان صنعه: “صنعت في مصر”. ضحكت وضحك الصّوت أيضا، ضحكنا معا ضحكة ساخرة من هذا العالم الذي أصبح له شكل خيالات تتأرجح في رأس مريض بالزهايمر. ارتديت الجلباب بعاطفة منقوصة. وضعت غطاء على رأسي، ثمّ نظرت الى المرآة.
همس لي الصّوت مغازلا: “الحجاب يليق بملامحك، لقد أبرزها بشكل فاتن، عينان عربيّتان ذئبيّتان، وفم مرسوم كلذّة غاوية…”
ثمّ متداركا بلؤم: “جلباب فخم يليق بسهرة رمضانيّة.. إن لم ينته العالم هاهاها”.
استعذت من الوسواس الخنّاس، فصرخ الصّوت متحدّيا بنبرة واعظ يحذّر من عذاب القبر: “كم من ركعة الآن؟”.
نويت صلاة سمّيتها صلاة الرّحمة: رحماك يا الله.. رحماك يا الله..
ثمّ اتّجهت الى غرفة الجلوس. اتّصلت بأمّي، اعتذرت منها لأنّ مشاغل الحياة حالت بيننا في الفترة الفارطة، ثمّ سررت لها: أحبّك. بعد ذلك هاتفت أبي واكتفيت باشتقت إليك، وأنا أقصد بذلك أحبّك جدّا.
اتّجهت إلى الشّرفة، وبقيت أحدّق في السّماء، كلّما دقّقت النّظر أحسست بالدّوار أكثر.
وتضاعفت دقّات قلبي وتدفّق الدّم. إنّ السّماء إذا ما تكلّمت تقول ما لا يقدر كائن بلا أجنحة على تحمّله، وما لا يقدر كائن لم يتدرّب على مناورة فوّهات بنادق القنص على فهمه. أرهقتني السّماء ففتحت التّلفاز كي أخفّف ثقل الصّمت:
فرنسا 24: برنامج يستضيف كاتبا مهاجرا يتحدّث عن قيادة الثّورة في بلده.
العربيّة: موجز للأخبار يتحدّث عن المستجدّات في سوريا.
القناة الوطنيّة الأولى والثّانية: حلقة من سلسلة ” شوفلي حلّ” تعاد للمرّة التي عزف التونسيون عن عدّها مادامت تجد لهم حلولا لتوتّرهم وترقّبهم لإنجازات حكومة لم تنجز شيئا.
خاطبني الصّوت ساخرا:
“هل تظنّين بأنّهم سينشرون خبرا كهذا؟ فلو تمّ تناوله بشكل رسميّ سيصبح العالم مقبرة للجثث المتساقطة من شرفات العمارات، أو الجثث المحترقة في الشّوارع، أو الجثث المرتمية أمام آخر مترو يقلّ آخر الرّكّاب بين آخر محطّتين يعمّران العالم، يقوده سائق تدمع عيناه بينما يلقي التحيّة العسكريّة على الأشخاص الذين يفترشون السّكّة الحديديّة قبل أن يدهسهم في ملحمة بطوليّة، ثمّ يغادر حجرة القيادة ليجلس مع بقيّة الرّكّاب يدخّن في صمت آخر سيجارة ميريت.”
أمرت الصّوت أن يخرس لكنّه لم يمتثِل، بل واصل حديثه ضاحكا متّخذا شكل وجه مهرّج ينطّ مدليا بلسانه ورافعا يديه خلف أذنيه.
هرعت إلى المطبخ أبحث عن شيء أشربه أو آكله، شيء يمكنه أن يخرس هذا الصّوت الغريب. فكرة مّا أكّدت لي بأنّ مصدره بطني.
حين قُصِفَتْ بيروت، كان محمود درويش يعدّ قهوة على مهل في مطبخه أمام موقد، أمامه نافذة زجاجيّة تحوم حذوها طائرات تلقي القنابل بشكل عشوائي. كان إعداد القهوة في ذلك اليوم، فعل مقاومة ضدّ هجوم الموت القويّ. فتّشت عن البنّ والقدّاحة. أدرت مفتاح الغاز، ثمّ أطفأته. تناولت علبة الشوكولا وملعقة، ثمّ توجّهت إلى غرفة الجلوس، وبدأت ألتهم ما تبقّى في قاعها وكأنّها المرّة الأخيرة التي سأتذوّق فيها الشوكولا الكريميّة التي تذوب في الفم لتتسرّب مباشرة الى خلايا السعادة في الجسد. وبينما كانت خليّة من خلايا السعادة في جسدي تحلّق كفقّاعة صابون ترشّ مسام جلدي برائحة زكيّة إذ سقطت دموع من روحي. كانت تنساب على وجنتيّ حزينة صامتة كأمّ تودّع خلسة ابنها الفارّ من اعتِقالٍ مباغت إلى بَلَدٍ آخر لن يعود منه إليها مرّة أخرى. غيّرت رأيي وجلبت الزيتون الذي اشتريته، اكتفيت بأكل حبّة زيتون واحدة، ثمّ خبّأت نواتها في جيب “بيجامتي”. سوف تكون أوّل الأشجار التي ستعمّر العالم الجديد الذي سينشأ على أنقاض الأرض. سأولد من جديد على شكل شجرة زيتون معمِّرة. وبينما كنت أتخيّلني شجرة زيتون وارفة الظّلال، تسلّل زوجي إلى الدّار وضمّني إليه موشوشا في:
“ها قد عدت لأستقبل معك نهاية العالم”.
وحين كان يلقي سترته على الأريكة، وقعت عيناه على المصحف الورديّ.
“كتاب قرآن وردي؟ يا سَلام! حسب رأيك لو كان أزرق اللّون مثلا هل سيكون أقدر على منع الانفجار الكبير؟!”. ثمّ أطلق ضحكة ساخرة.
“أستغفر الله”، قاطعته بكلّ جدّيّة.
قاطعني: “وما شأن الله بنقدي لطريقة تفكيرك؟”، ثمّ أخذ علبة الشوكولا من فوق الطّاولة وقال مشاكسا:
“عليك التّخلّص من بعض الكيلوغرامات حتّى يلائمك البيكيني وإلا اضطررت إلى السباحة في البوركيني في هذا الصّيف ههههه.”
رميته بأقرب وسادة إليّ. التقطها بيده ثمّ اقترب منّي بهدوء مثير قائلا:
“يوما ما سينتهي العالم… لكن يجب أن نعدّ العشاء أوّلا”.
وسحبني من يدي إلى المطبخ.
كلّ شيء سار بشكل طبيعي: استغرقنا في إعداد العشاء ساعة أو أكثر. ثمّ تناولناه بسرعة. ثمّ تابعنا برنامجا سياسيا، استضاف سرّاقا برتبة نوّاب للبلاد، غسلنا الأواني، رتّبنا المطبخ، أغلقنا التّلفاز ثمّ ذهبنا الى النّوم.
أمّا هو فقد خلد إلى نوم هادئ عميق وأمّا أنا فقد بقيت عيناي مثبّتتان على الشبّاك بجانبي. يقلقني أيّ وميض خفيف عابر. وأتفحّص هاتفي بين الحين والآخر أراقب الوقت.
هجم عليّ الصّوت مجدّدا: “لو كنت مكانك لكنت أصلّي الآن، فإذا انفجر العالم وأنت تصلّين ستكونين حتما من أهل الجنّة”.
تذكّرت حين كنت صغيرة كيف كنت أبادر بالتحيّة، وأجيب كل من يسبقني بها بأفضل منها، أرفع الخبز الملقى في الشّارع أبوسه ثمّ أنثره للعصافير، أميط الأذى عن الطّريق، أحاذر أن أدوس بحذائي نملة. وفي المساء أكتب كلّ تلك الإنجازات في دفتر الحسنات. ودفتر الحسنات هذا: هو دفتر أحسب فيه عدد حسناتي في ذلك اليوم أضاعفها عشرة أضعاف ثمّ أطرح منها عدد السّيّئات التي ارتكبتها، أدقّق في المجموع ثمّ أنام وكلّي ثقة بأنّني من الطّيّبين الذين يحبّهم الله.
تساءلت دمعة على خدّي: “أين أضعت الطفلة صاحبة الدّفتر؟”.
اِلتصقت بزوجي، قبّلته تبادلنا القبلات ثمّ صرخت في وجه الصّوت:
“هذا كل ما أريده من العالم!”
اصطدم الكويكب بالأرض فانفجرت. تحوّلنا إلى نجمتين صغيرتين في سماء لا تطلّ على شيء ولا تشغل بال أحد ولا يصلها ذلك الصّوت.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق