فلسفة مبسطة: حتمية اجتماعية أم إرادة حرة؟ - نبيل عودة - مدارات ثقافية

احدث المواضيع

الاثنين، 27 أبريل 2020

فلسفة مبسطة: حتمية اجتماعية أم إرادة حرة؟ - نبيل عودة


حسب مفهوم فلسفة الحتمية الاجتماعية، كل ما يحدث في عالمنا من فعاليات، قرارات أو أفكار إنسانية، تتقرر بناء على أحداث سابقة فقط وليس لنا كبشر أي سلطة على مصيرنا.
الموضوع يشمل مسائل عديدة بينها العلم، الدين، فلسفة الأخلاق والثقافة. فلاسفة من تيار الحتمية الاجتماعية يقولون ان “الله أجبرنا” – حسب تعبير للفيلسوف اليهودي – هولندي باروخ شبينوزا من القرن السابع عشر: “الله قرر سلفا كل شيء في الكون حتى أدق التفاصيل”. أي ان الإنسان ممكن ان يقوم بلعبة ما ، منافسة مع صديق ، لكن النتيجة ليست بيده إنما بيد الله.
إذن ما قيمة وجود الإنسان وتطوير العلوم والمجتمعات وبناء المستشفيات ما دام كل شيء في الكون مسجل سلفا في الكومبيوتر العظيم في السماء؟ وهل داعش هي ضربة من السماء أيضا؟ بمعنى ان الحرب الدولية ضدها لن تساعد إذا لم يكن هناك قرار كوني مسبق بنتائج هذه الحرب؟
ترى أي إله هذا.. هل الذبح واغتصاب السبايا ( كما يطلق على النساء أسرى داعش) تنفذ أيضا بإرادة الله؟ .. ولماذا تجري إدانة مجرمي الحروب وقتلة الشعوب ما دامت جرائمهم ارتكبت لأنها مقررة سلفا في الكون؟
هل توجد قوى نفسية – بسيخولوجية – خارج قدرتنا على التحكم بها تقرر تصرفاتنا؟
الفيلسوف الإغريقي ارسطو كان أول من صاغ هذا المفهوم الفلسفي، بأن كل حدث سابق لحدث ما، يؤثر على الحدث نفسه أو يسبب بحدوثه. بمعنى آخر لكل سبب يوجد مسبب (السببية).
بعض الفلاسفة يقولون أنهم حينما يتابعون البحث عن أسباب وقوع حدث ما يتابعون البحث بشكل سلسلي وراء الأسباب المسببة للحدث وما سبقه.
هكذا يدعون انه يمكن الوصول، نظريا على الأقل.. إلى ما يسمونه ” المحرك الأول”. أي المسبب الأول وفي حالات كثيرة يقولون انه: “المحرك الإلهي”.
فلاسفة آخرون يربطون المسبب الأول بالانفجار الكبير . ديموقريطوس أيضا وهو من أهم الفلاسفة الإغريق كان يؤكد أيضا ان لكل سبب يوجد مسبب. لكن لننتبه ان الفلسفة الإغريقية بجذورها هي الفلسفة الطبيعية التي حاولت ان تفسر الظواهر الطبيعية بشكل عقلاني وتحررها من الغيبيات الإيمانية الوثنية. اليوم مع تطور العلوم وخاصة علم الفيزياء بات من المستهجن ان نعتقد ان الإنسان لا يملك خياراته وحرية وصوله إلى أدق المعلومات حول نشوء الكون وتطور الحياة.
هناك نظرة أخرى تفترض ان كل فعل يجر إلى فعل آخر، لذا يمكن القول انه لكل فعل توجد له نتائج أو هدف.. قد لا يظهر لنا إلا بعد فترة زمنية.
إذن نحن أمام صورة لفلسفة الإيمان بالقدر، باللاتينية (fatum) وهو اصطلاح لنظرة، حسبها يوجد نظام طبيعي ومقرر سلفا (حتمي) حول الأحداث في العالم. أي الإيمان ب “القدرية” بشكل مطلق، بالتالي تؤمن ان النهاية ليست معروفة مسبقا فقط، إنما أيضا تدعي معرفة كل مرحلة ومرحلة في الحياة.
المعنى بشكل مبسط هو ان الله يعمل ويعرف كيف يدير العالم، كيف يتصرف الإنسان منذ الخلق وفي كل لحظة، لذا كل ما يحصل لا يوجد للإنسانية فيه حرية الخيار، ولتكن قيمته ما تكون، بالنسبة لهذه الفلسفة هذا الأمر يعبر عن قانون ما للطبيعة..
الفلكي والرياضي بيير سيمون لافلس (1949 – 1827)اشتهر بالأساس بتطبيقه لنظريات عالم الفيزياء إسحاق نيوتن (1642 – 1727- عالم إنجليزي ،أبرز العلماء مساهمة في الفيزياء والرياضيات وأحد رموز الثورة العلمية) ادعى لافلس انه بإعطاء معلومة حول حالة الكون بتاريخ ما يمكن من الناحية ألمبدئية التنبؤ بالتطور التاريخي المستقبلي للعالم.
حسب هذه الرؤية الفلسفية العلم يطرح مبادئ الحتمية، إذا لم يكن هذا المبدأ قابل للبرهان، لذا يعتمد العلم على فرضيات أولية غير قابلة للبرهان.
لكن الفيزياء أثبتت ان الحتمية المسبقة أهملها العلم وخاصة الفيزياء، لذا لا يمكن التعامل مع هذه الحتمية الاجتماعية كقاعدة ثابتة حقيقية أو كاذبة، إنما قبولها كمبدأ منهجي – ممكن أو غير ممكن ان يستعمل في البحث العلمي.
هذا الاتجاه يجر بأعقابه ادعاء ان الإرادة الحرة غير حرة، الجسم ليس إلا وهما وكل النشاطات مقررة سلفا، بكلمات أوضح، هي نسخة من فلسفة “القضاء والقدر”.
إذن هي فلسفة تحكمها قوانين السببية. وهي من الفلسفات “الجبرية” التي تقول ان كل ما يحدث للإنسان أو لمحيطه هو مقدر عليه، أي لا قدرة له على تجاوزه وبالتالي هو مسير وليس مخير!!
انتبهوا ان “الحتمية التاريخية” (حسب المادية التاريخية لكارل ماركس) رغم أنها شكليا اعتمدت على نظريات الديالكتيك وسميت “علمية” إلا أنها في النتائج هي قدرية أيضا، أي سبب التطور التاريخي يعتمد على مسببات سابقة، والوصول إلى الثورة الاشتراكية هو موضوع حتمي. من هنا سقوط الحتمية التاريخية، رغم ان الماركسية تحدثت عن العامل الذاتي(الأشخاص) والعامل الموضوعي (التطور الطبيعي)، لكن العامل الذاتي هو مسرع أو مبطئ وليس المقرر. ربما الله عند ماركس أيضا بشكل ما، هو المقرر في أحكام المادية التاريخية؟!
وجدت هذه الطرفةـ فأعدت صياغتها كقصة قصيرة، وهي تفسر هذه الفلسفة الجبرية – الحتمية. حتى لو كُنت أفضل متبار في لعبة ما، الا أن المنتصر مقرر سلفا.. حتى بطريقة لا يمكن للعقل ان يتخيلها. كل شيء مخطط له، كل شيء بيد الله:
لعبة الغولف - قصة تعبيرية ساخرة
تنافس النبي موسى والمسيح بلعبة غولف. ضرب موسى طابة الغولف بعصا الضرب فطارت إلى مسافة بعيدة، سقطت قبل الحفرة بمتر واحد، لكنها واصلت التدحرج، مرت بمحاذاة الحفرة على بعد اقل من سنتيمتر واحد، أثارت توتر موسى بأنها بالتأكيد ستدخل الحفرة.. لكنها استمرت تتدحرج إلى بركة ماء بلصق ساحة اللعب. ضحك المسيح سعيدا لأن الطابة تخطت الحفرة. قال موسى غاضبا: “سنتيمتر واحد وكنت سأسجل الفوز الأول”. قال المسيح لموسى: ” لديك ضربة أخرى من داخل الماء” وابتسم. قال موسى غاضبا: ”لا استطيع السير مثلك على سطح الماء”. قال المسيح: “اذن اعترف بخسارتك؟” .فكر موسى قليلا ولم يجد حلا. أخذ موسى عصى الغولف وخاض حتى ركبتيه داخل ماء البركة، وضرب الطابة باتجاه الحفرة لكنها طارت ابعد وهبطت على الضفة الثانية لملعب الغولف.
جاء دور المسيح ، ضرب الطابة بعصا الغولف فطارت بعيدا وراء الحفرة ، بل تجاوزت ملعب الغولف إلى الشارع المقابل، مرت بنفس اللحظة سيارة أصابت الطابة التي ارتدت عاليا نحو الملعب مرة أخرى، لكنها علقت فوق زنابق على حافة بركة الماء حيث رأتها ضفدعة، تناولتها الضفدعة بأسنانها، بنفس اللحظة انقض نسر على الضفدعة وامسكها بمخالبه وطار بها عاليا والكرة بين أسنانها، أسقطت الضفدعة الطابة من فمها وهي بين مخالب النسر في الفضاء فإذا هي تدخل الحفرة مباشرة. صفق المسيح ناظرا إلى السماء سعيدا بما أنجزه وقال: “شكرا يا أبي”. عبس موسى حائرا، ثم قال له: “لا أحب اللعب مع والدك”!!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق