كورونا والموت كإشكالية أنطولوجية - د. احسيني عبد الحميد - مدارات ثقافية

احدث المواضيع

الاثنين، 4 مايو 2020

كورونا والموت كإشكالية أنطولوجية - د. احسيني عبد الحميد


يعيش العالم اليوم أكثر من أي وقت مضى، حالة من القلق الوجودي الكبير، بسبب جائحة كورونا التي أزهقت – وما تزال- أرواح العشرات كل يوم، والدول المتقدمة في البحث العلمي متجندة لإيجاد مضاد فعال لإيقاف هذا النزيف الذي أبى كل شيء إلا التوقف، فلا صوت يعلو اليوم على صوت الموت الأسود. إن فكرة الموت إشكالية قديمة قدم الوجود البشري، وواقعة أنطولوجية لا محيد عنها، لهذا حاولت من خلال ورقتي هذه أن أقارب هذا المفهوم من عدة جوانب منها؛ الموت والقلق الوجودي الإنساني، الموت والتاريخ، الموت والديانات السماوية ( الإسلام والمسيحية واليهودية نموذجاً) الموت كإشكال أو إشكالية أنطلوجية فردية كانت أم جماعية، ثم الفلسفة والموت.
يعي الناس تماماً أن وجودهم سينتهي أخيراً دون معرفة الزمان أو المكان أو الطريقة التي سيموتون بها. قال الله تعالى: “وما تدري نفس ماذا تكسب غداً، وما تدري نفس بأي أرض تموت، إن الله عليم خبير (لقمان 34) ويقول أيضاً : ” أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة (النساء 78). ومن الممكن القول؛ بأن الخوف من الموت أمر شائع وعام لدى البشر. وذلك أن الموت يقتحم أفكارنا وحياتنا بطرق شتى ولأسباب متعددة سواءً أكانت هذه الأسباب بيئية خارجية كموت عزيز مثلاً أم نفسيةً داخليةً كمرض يصيب الإنسان. أو اكتئاب يعتريه. أو عندما يحبط عمله…وهكذا. فما معنى قلق الموت؟ وهل يعتبر إشكالاً أم مشكلة وجودية؟ أم هما معا؟ كيف نظر الفلاسفة للموت؟ و ما علاقة الروح بالجسد؟. وما علاقة الموت بالسعادة؟
الإنسان…وقلق الموت
إذا كان الموت والقلق منه لا يمثلان أمام أذهاننا وخواطرنا في كل لحظة – في الحقيقة – لا يغيبان كثيرا عن فكرنا وحياتنا ومجتمعنا. ويذكرنا ذلك الفيلسوف الإغريقي “هيراقليطس” عام 505 ق.م إذ يقول: إن كل ما نراه هو الموت ومن بين معاني هذا القول: أن كل شيء اَيل إلى زوال، ومن بين العبارات المأثورة في التراث العالمي عن الاحتضار  نحن نحتضر منذ اللحظة التي نولد فيها، وذكرنا ذلك بأن الحياة مستمرة، وأنها على الرغم من استمرارها فإنها مرتبطة دائما بالموت. إن الموت أمر متناقض؛ إنه قوة تدميرية للحياة.
تنبع جذور دراسة قلق الموت من فحص مسألة الموت. وقد اهتمت الديانات السماوية بالموت. فللموت أهمية مركزية في كل ديانة، وفي كل نسق فكري وفلسفي متماسك. ولقد استخدم النوم على أنه شبيه طبيعي للموت، فصور قدماء اليونان النوم على أنه أخ توأم للموت. كما أن اليهود لسنين وهم يستيقظون من نومهم في الصباح يشكرون الله على أنه أعادهم إلى الحياة مرة ثانية. كذلك صور القراَن الكريم النوم بأنه الوفاة الأولى للإنسان في الحياة ولكنها وفاة مؤقتة. ففي سورة الأنعام يقول: “وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتكم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضي أجل مسمى (الآية 6). وفي سورة الزمر يقول الله سبحانه وتعالى: الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها، فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى (الآية 42).
إن الوعي بالموت له تاريخ طويل يسبق محاولة “سقراط” وتهدئة ثورة أصدقائه وتلامذته قبل أن يتجرع السم. وقد عرفت ملحمة “جلجامش” للسومريين عام 3000 ق.م والتي يحتمل أن يرجح أصلها إلى ما قبل هذا التاريخ.؛ وتعبر هذه الملحمة عن كل من الرغبة العميقة في النظر إلى الموت والشك في أن السحر أو المكر أو الفضيلة أو القوة يمكن أن تحقق هذا الهدف. ولم تكن إطالة العمر وتجديد الحياة موضوعين بارزين في “كتاب الموتى” فحسب، بل أيضا على امتداد الحضارة المصرية القديمة التي حلقت بموضوع الموت إلى حد كبير. واهتمت الشيمياء أو الكيمياء السحرية في العصور الوسطى بأمرين أساسيين هما: إطالة العمر، وتحويل المعادن إلى ذهب. وفي هذا العصر  الوسيط زادت بشدة معدلات الوفيات وانخفضت معدلات الأعمار. وعلى الرغم من أن تجارب الدكتور “فرانكنشتين” كانت على صفحات رواية. فإن الأشخاص الحقيقيين قد استكشفوا إمكانية إعطاء فرصة الحياة مرة أخرى للشخص الذي يبدو أنه ميت. وذلك عن طريق التنبيه “الجلفاني” في القرن التاسع عشر. ومن هنا نشأت العلاقة بين التكنولوجيا والموت منذ وقت مبكر.
وعلى الرغم من أن علم النفس قد نشأ في أحضان التقاليد الاجتماعية والفلسفية حيث كان الموت مشكلة بارزة، فإن العلم الجديد كانت لديه أولويات أخرى ليبحثها. ومع ذلك ففي عام 1836 وضع “فخنر” أحد مؤسسي علم النفس التجريبي كتاباً صغيراً عن الحياة بعد الموت وأعجب به ” وليام جيمس”، وبهذا العمل وكتب عام 1910 عن الخلود على حين أجرى “ستانلي هول” عام 1915 دراسات إمريقية مركبة عن رهاب الموت أو مخوفة الموت Thanatophobia.
وكذلك اهتم علم الاجتماع بالموت، ككتاب “إميل دوركايهم” عن الانتحار. كما نلمس اهتمام الأنثروبولوجيا الشديد بالموضوع ذاته. فمن الصعب أن نتخيل هذا المجال الأخير دون فحص مفصل للممارسات الجنازة وطقوس الحداد وغير ذلك. وفي عام 1901 قدم “مشينكوف” وهو حاصل على جائزة نوبل في البيولوجيا الطبية مصطلح علم دراسة الموت والاحتضار Thanatology.
ولقلق الموت أهمية فائقة لدى عديد من المنظرين مثل “ميلاني كلاين” التي ترى أن قلق الموت هو أساس كل قلق، ويفترض بعض واضعي نظريات التحليل النفسي أن الخوف من الموت كامن من وراء كل المخاوف، وأن معظم أنواع القلق الأخرى كما يذكر “فيفل” ما هي إلا مظهر مخادع لقلق الموت، وكذلك يرى “كارل يونغ”؛ أن قلق الموت مصدر أساسي لبؤس العصاب خصوصا في النصف الثاني من حياة الإنسان بمختلف أنواعها والتي تضم الاكتئاب والفصام والعصاب والانحرافات الجنسية. يمكن أن تصنف جميعاً في إطار واحد؛ هو الخوف من الموت. ويرى كثير من المحللين الوجوديين. وكذلك “ألفرد أدلر” أن المرض العقلي يتكون نتيجة لفشل في تجاوز الخوف من الموت ولقد أعلن “جلليسي” الطبيب النفسي الإنجليزي، أن الخوف من الموت هو أكبر عامل طبيعي صدمي يصوغ ذهان الشيخوخة.
الموت كإشكال و كمشكلة وجودية
لكي نفهم معنى الإشكالية يجب أن نميز أولاً بين : الإشكال وبين مشكلة أما الإشكال فهو؛ صفة تطلق على كل شيء يحتوي في داخل ذاته على تناقض، وعلى تقابل في الاتجاهات، وعلى تعارض عملي، والمشكلة هي طلب هذه الإشكالية بوصفها شيئاً يحاول القضاء عليه، هي الشعور بالألم الذي يحدثه هذا بطابع الإشكالي، وبوجوب رفع هذا الطابع وإزالته؛ هي تتبع هذه الإشكالية كما هي في ذاتها أولاً، ثم محاولة تفسيرها تفسيراً يصدر عن طبيعة الشيء المشكل، ومحاولة تفسير هذا الإشكال. فالحياة مثلاً؛ تتصف بصفة الإشكال بطبيعتها، لأنها نسيج من الأضداد والمتناقضات؛ ولكنها ليست مشكلة بالنسبة إلى الرجل الساذج الذي ينساق في تيارها دون شعور منه فيها من إشكال، ودون محاولة وبالتالي – القضاء على هذا الإشكال، وذلك لأن الشعور بالإشكال يقتضي من صاحبه أن يكون على درجة عليا من التطور الروحي، وأن يكون ذا فكر ممتاز على اتصال مباشر بالينبوع الأصلي للوجود والحياة، وأن يكون إلى جانب هذا كله على حظ عظيم من التعمق الباطن الذي تستحيل معه المعرفة إلى معرفة وحياة معاً؛ وبقدر هذا الحظ تكون درجة الإدراك. هذا إلى جانب ما يقتضيه الموضوع المشكل من شروط صادرة عن طبيعته هو الخاصة، دون غيره من الموضوعات المشكلة الأخرى.
فإذا أردنا الاَن أن نطبق هذا على الموت، وجدنا أنه يتصف أولاً بصفة الإشكال. فمن الناحية الوجودية، يلاحظ أن الموت؛ فعل فيه قضاء على كل فعل؛ وثانياً: أنه نهاية للحياة بمعنى مشترك؛ فقد تكون هذه النهاية بمعنى انتهاء الإمكانيات وبلوغها حد النضج والكمال، كما يقال عن ثمرة من الثمار؛ إنها بلغت نهايتها، بمعنى تمام نضجها واستنفاد إمكانيات نموها؛ فقد تكون هذه النهاية بمعنى وقف الإمكانيات غير متحقق بعد؛ وقد تكون بمعانٍ أخرى أيضاً.
إن الموت؛ حادث كلي كلية مطلقة من ناحية، جزئي شخصي جزئية مطلقة من ناحية أخرى: فالكل فانون، ولكن كلاً منا يموت وحده ( الموت الفردي) ولابد أن يموت هو نفسه، ولا يمكن أن يكون واحداً اَخر بديلاً عنه. ولابد أن يموت هو نفسه، ولا يمكن أن يكون واحداً اخر بديلاً عنه. وهذا عين مصدر الإشكال من ناحية المعرفة: إذ لا سبيل إلى إدراك الموت مباشرة بوصفه موتي أنا الخاص لأنني في هذه الحالة – حالة موتي أنا الخاص – لا أستطيع الإدراك ومعنى هذا أيضاً؛ أنني لا أستطيع ان أدرك الموت إدراكا حقيقيا، لأن إدراكي للموت سينحصر حينئذ في حضور موت الاَخرين ومشاهد الاَثار الخارجية؛ التي يحدثها هذا الموت. ومثل هذا الإدراك ليس إدراكاً حقيقياً للموت كما هو في ذاته، بل هو إدراك للموت في اَثاره، ولا أستطيع أن أقول هنا إنني عند محاولتي إدراك الموت أضع نفسي موضع الاَخرين الذين يموتون، لأن المرء لا يمكن أن يحمل عبء الموت لغيره. هذا إلى أنه لو سلمنا جدلاً بإمكان إدراك موقف المرء بالنسبة إلى الموت، فإن هذا لا يفيدني شيئا في معرفة حالة الميت نفسه، وإنما يخبرني عن حالة المحتضر فحسب، لا عن حالة الموت نفسها. فما السبيل إذا إلى إدراك حقيقة الموت؟.
الموت من الناحية الذاتية يقتضي بالنسبة لمن يمكن أن يصير عنده مشكلة الشعور بالشخصية والذاتية أولاً، لأنه بدون هذا الشعور لا يستطيع الإنسان إدراك الطابع الأصلي الجوهري للموت، وهو أنه شخصي صرف، ولا سبيل إلى إدراكه إدراكاً حقيقياً إلا من حيث أنه موتي أنا الخاص، ولا يبلغ الشعور بالشخصية والوحدة درجة قصوى وأعلى مما هو في هذه اللحظة، لحظة الموت، لأنني أنا الذي أموت وحدي، ولا يمكن مطلقاً أن يحل غيري محلي في هذا الموت. ولهذا نجد أنه كلما كان الشعور بالشخصية أقوى وأوضح، كان الإنسان أقدر على إدراك الموت: وبالتالي على أن يكون الموت عنده مشكلة ؛ ولهذا أيضا لا يمكن أن يكون الموت مشكلة بالنسبة إلى من يكون ضعيف الشعور بالشخصية؟ والنتيجة لهذا هي؛ أن البدائي الساذج، نظراً إلى ضعف شعورهما بالشخصية، لا يمكن أن يصير الموت بالنسبة لهما مشكلة، واللحظة التي يبدأ فيها الموت بأن يكون مشكلة بالنسبة إلى إنسان ما. هي اللحظة التي تؤذن بان هذا الإنسان قد بلغ درجة قوية من الشعور بالشخصية، وبالتالي قد بدأ يحتضر. ولهذا نجد أن التفكير في الموت يقترن به دائما ميلاد حضارة جديدة، فإن ما يصدق على روح الأفراد؛ يصدق كذلك على روح الحضارات، وهذه فكرة قد فصل فيها “اشبنجلر” وأوضحها تمام التوضيح.
إن المثالية الألمانية مع “هيغل” بنوع خاص، ترى بأن الفرد ليس له وجود حقيقي في ذاته، وإنما الوجود الحقيقي هو وجود المطلق، ولا قيمة وجودية للفرد إلا من حيث كونه مشاركاً في وجود المطلق، أياً كان الإسم الذي نعطيه لهذا المطلق، فسواء سميناه “الأنا المطلق” وهو الأنا الذي يضع نفسه بنفسه، كما فعل “فشته” أو سميناه الروح الكلية وهي تلك الصورة التي تعرض نفسها على مر الزمان كما فعل “هيغل”- فإن هذا من شأنه أن يحجب عنا إحدى المميزات الجوهرية للموت، ونعني به ارتباطه بالفردية أو الشخصية أو الذاتية كل الارتباط ولهذا لم يقدر لهذه المثالية أن تضع للموت مشكلة.
الروح والجسد بين الشرق الغرب
في الحقيقة، النص القرآني سكت عن قضية الروح، وأرجع أمر ماهيتها إلى الله، “وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا” الإسراء الاَية 85. لكن هذا لم يمنع فلاسفة الإسلام على اختلاف مذاهبهم وتباين مواقفهم التاريخية من تلمس القرائن القمينة بإضاءة ما تيسر من مفهوم الروح واستنطاق الشواهد القادرة على ملء مواطن البياض الدلالي له وذلك عن طريق التأويل أو المقارنة أو القياس. وفي هذا الصدد نجد الفكر الإسلامي قد وجه اهتمامه صوب الجسد باعتباره المقابل الضدي للروح، والموضوع الأنسب للقياس أو المقارنة المفضية إلى معرفتها معرفة عقلية.
كان أصم (المعتزلي)لا يثبت للحياة والروح شيئاً غير الجسد ويقول: ” ليس أعقل إلا الجسد الطويل العريض العميق الذي أراه وأشاهده”، وكان يقول: “النفس هي البدن بعينه”. أما أولئك الذين يفصلون الروح عن الجسد والنفس، ويفرقون من ثم بين الروح والجسد فقد جعلوا من هذا الأخير كياناً كسولاً سلبياً، تتوزعه طاقتان الأولى: لاهوتية نورانية تنزع إلى كل ما هو أرقى وأسمى والثانية ناسوتية نارية. ما فتئت تنجذب إلى العوالم السفلية المظلمة حيث تكمن سعادتها في التدمير، والتمتع بالشهوات والإغراق فيها.
يفيد صاحب “الإشارة الكافية” بأن النفس خلها الله ظلمة من جسم الإنسان فأسكنها الأسفل، وجعلها تترد بين البطن والفرج، ونظرها شاخص دائماً ناحية العالم الأرضي في حين خلق الله تعالى الروح من نور العقل الأول فسكنت أعالي الجسد. ورأي إخوان الصفا في تناسق أعضاء الجسد يؤثر إيجاباً على الأخلاق الحسنة، أما تنافرهما وعدم انسجامها مع بعضها البعض، فقد يؤدي إلى انتفاض الأخلاق الوحشية والسلوكات الشنيعة.
إن ثنائية الروح والجسد لم تكن وليدة الفكر الإسلامي الذي منبعه القراَن والأحاديث النبوية فقط، بل إن مواقفهم – الفلاسفة المسلمون- بهذا الخصوص؛ نابع أيضاً من الفكر الفلسفي الإغريقي اليوناني، خصوصاً مع سقراط وأفلاطون وأرسطو، إلى حدود المدرسة الأبيقورية التي اهتمت بقضية الروح والجسد والموت والسعادة، فلطالما نظر سقراط إلى الجسد كمصدر للشر، لذا يجب ان تنفصل عنه الروح كلية، إن هي أرادت أن تحقق الحرية والخلود الأبدي، نفس الشيء مع تلميذه أفلاطون؛ الذي نظر إليه –الجسد- كمصدر للخطيئة، والذي يقف كحاجز أمام الفكر كي يصل إلى أعلى درجات الفضيلة، ونجد المدرسة الابيقورية؛ من أكبر المدارس الفلسفية التي عنت بمسألة الموت، فأشد ما يؤرق بال الإنسان حسبها هو الموت، التفكير فيه يجرده من السعادة، وتحقيقه “للهارمونيا” أو التناغم و “الأتركسيا” السعادة، لهذا يقول أبيقور: “ما دمت أوجد فأنا لم أمت، وهذا يؤكد أنني موجود الاَن، وإذا متُّ فلن أوجد، ولن أشعر حينها بأي شيء، فلم التفكير في الموت إذن؟”.
يجب أن نعيش اللحظة التي نحياها فقط، وذلك بطلب اللذة؛ التي هي مصدر السعادة، خصوصاً لذَّات الفضيلة القائمة على التوازن والاتساق. وهذا التصور نجد له حديثاً مناقضاً تماماً في الفكر الإسلامي، حديث الرسول القائل:” كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا” رواه مسلم ، وفي قول عند الترمذي أضاف “فَإِنَّهَا تُذَكِّركمُ بالْآخِرَة” .
يغبن الصوفية الجسد ويزهدون في رغباته، ويتجاهلون ميله الطبيعي إلى الراحة والعيش الرغد، ليعود إلى ذلك الجسد، مجدداً، بعد إدراكه سر الحقيقة. وهي عودة يعبر عنها من خلال إقباله مجالس السلوى والقصوف، والبركة: هي علامة حلول الروح في الجسد واَية الصوفي النافذة في انتهاك المحظور والتحرر من سلطة العقل والنقل والتشبث في المقابل بالذوق أو شهود العيان والاحتفاء بالمحسوس والملموس. يقول الحلاج وهو يستبطن صمت هذه اللحظة القدسية: “أنا مَن أهوى ومَن أهوى أنا نحن روحان ِحَلَلْـنا بدنا فـإذا أبصرتـَني أبصرتـَهُ و إذا أبصرتـَهُ أبصرتـَنـا.
تعتبر إشكالية الروح من القضايا الكبرى التي طرحتها الفلسفة الإسلامية، إلى جانب قضايا العالم (الوجود) والله (الصانع)، فقد تصور كل من “الكندي” و”الفارابي” و”ابن سينا”؛ أن الروح فانية لكنهم ينكرون بعث الأجساد يوم القيامة وحشرها، أي ان الله يبعث الناس يوم الحشر بأرواحهم دون الأجساد؛ وهي من المسائل الكبرى التي عارضهم فيها حجة الإسلام “الغزالي”، إذ تصور أن الروح من أمر الله، والناس يبعثون بأرواحهم وأجسادهم معا، والروح في الحياة الدنيا يجب أن تصقل بالتصوف والزهد من أدران الحياة البالية، كي لا تكون سبباً في شقاء الجسد يوم القيامة. أما المعتزلة فقط طرحوا إلى جانب خلق القران، مسألة التجسيم بناء على آيات قرآنية كثيرة وخاضوا في أسماء الله وصفاته.
لابد أن أشير أيضاً إلى نظرة الديانة المسيحية للجسد، يمكنني القول أن المسيحية بهذا الخصوص تنهل من تصور أفلاطون للجسد، فإذا كان هذا الأخير يحتقر الجسد، فإن المسيحية تدعو إلى التفرقة بينهما إلى درجة التحقير والتجاهل والإماتة، وليس أدل على ذلك من عمليات الإخصاء التي تحدث في الكنائس وأديرة الرهبان في القرون الوسطى، بدعوى إنقاذ رجال الدين من تلبس الشيطان عليهم، وفي العهد القديم هناك حكمة مسيحية تقول: إذا كانت عينك تقتادك إلى السقوط ( أي الوقوع في الرذيلة) فاقتلعها من مكانها. رام ديكارت تطويع الزوج الأفلاطوني بمنأى عن خلفيته الصوفية اللاهوتية، وحاول استثماره في سياق تأملاته العقلانية التي تنفي القول بالعداء والتنافر بين الجسد والروح، فلكل مميزاته، فجسد الإنسان اَلة مركبة من أجزاء متجاورة ومتراصفة حسب تصميم قبلي، تخضع لقوانين الميكانيكا والكيمياء والأحياء وعلم وظائف الأعضاء والذي يحرك هذه الأعضاء هما؛ العقل و الروح؛ اللذان يجريان في مجموع الجسد.
في الفترة المعاصرة المشوبة بالتفكيك والتحليل والنقد، حمل الفيلسوف الألماني “نتشه” مطرقته على الديانة المسيحية، بما في ذلك نظرتها للجسد، وللحياة بصفة عامة، لأنها تتأسس على الخنوع والاستسلام والضعف والزهد في نظره، لهذا يقول في كتابه نقيض المسيح: ” لا الأخلاق ولا الدين يلامسان نقطة واحدة من الواقع في المسيحية. لا شيء سوى حشد من العلل الوهمية (الله) “النفس” (الذات) ” الروح” (الإرادة الحرة) أو حتى اللاّحرة؛ حشد من النتائج الوهمية “خطيئة” (خلاص) “رحمة” (غفران الخطايا)؛ علاقات بين كائنات خيالية…إن غلبة مشاعر القرف على مشاعر المتعة هي علة هذه المتخيلات الأخلاقية والدينية: هذا النوع من الغلبة يمدنا بالمبدأ الذي يتأسس عليه الانحطاط” (يقصد مبادئ المسيحية)، إن الجسد عند نتشه عقل كبير، يتحرر به الإنسان من قيود الخطيئة الأبدية، نحو الإنسان الأعلى، نحو الإنسان السوبر، المنفتح على الحياة بكل معانيها.
وختاما، وفي نفس السياق المقبل على الحياة، قال وليام شكسبير في مسرحية عطيل:
إذا كان محتماً أن أموت في هذه اللحظة
إذا سأكون الاَن في ذروة السعادة، لأنني أخشى
أن روحي التي احتفظت بدواخلها نقية على نحو مطلق
لن تجد راحة مثل هذه
تقودها إلى قدر غير معلومٍ.

المراجع والمصادر المعتمدة بتصرف
- الموت والعبقرية؛ بدوي عبد الرحمن؛ وكالة المطبوعات الكويت؛ دار القلم بيروت لبنان.
- قلق الموت؛ عبد الخالق أحمد محمد، عالم المعرفة؛ 1998.
- الجسد بين الشرق والغرب؛ العلوي هشام؛ منشورات الزمن؛ مطبعة النجاح الجديدة- الدار البيضاء.
- جمهورية أفلاطون؛ ترجمة زكريا فؤاد؛ فضاء الفن والثقافة.
- نقيض المسيح ؛ نتشه فريدريتش؛ ترجمة مصباح علي؛ منشورات الجمل.
- عن الحب والموت؛ زوسكيند باتريك؛ ترجمة .د. الحفار نبيل، تقديم الدليمي لطيفة؛ دار المدى؛ الطبعة الأولى 2017.
- القراَن الكريم.
·NIETZSCHE (frederiche), le cas wanger, suivi de nietzsche ontre wagner,ed, Gallimard, coll.idée.paris.1989,p.16.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق