يستثير التأمل الميتامسرحي مجموعة من الاضداد لتحقيق ذاته التي تمثل المحور
الثيمي البارز في النص ، فكما ان الميتامسرح يقوم على التأمل الذاتي في تقديمه
للمسرح المتأمل لذاته بوصفه موضوعاً لنفسه ، ويتخذ من ادماج البعد النقدي مع
الابداعي سبيلاً له ، فهو ايضاً يقدم ما يعلو النص في تأمله وما يشكل
كثافة النص الحية في مواضع تتميز عن سواها ، فلو تفحصنا مستوى التضاد بين (الجبري
والتحرري) فإن هناك ثنائية متضادة يمكن لمسها في مسرحية (آياس) لـ (سوفوكليس) وهي
تدلل على تناغم غير منسجم – فتكون على الضد من المقولة الهيرقليطسية التي تشير إلى
الانسجام في الأضداد – ففي المتضادين (الجبري) و(التحرري) ، تفعيل للخاصية
التأملية ، إذ تبرز التحررية في مسرحية (آياس) مرتهنة بشخصية ألإلاهة (
أرتميس) ابنة زيوس وتأتي التحررية من امتلاك عناصر القوة الكاملة ،
وإمكانات التنفيذ ، في حين يكون مثال (الجبري) مرتبطاً بـ (آياس) الذي يكون أداة
التنفيذ التي يستعين بها التحرري لإنتاج أفعال دموية مشوهة ومقززة وهذا ما يرجح
علاقة الانفصال واللاتناغم بين الضدين :
(( آياس : آه !آه !" آياس" ! من دار بخلده يوماً أن هذا الاسم
يتناسب مع الشرور التي ابتليت بها ؟ (......) أن ابنة زيوس ذات النظرة المتوحشة ،
هذه الإلاهة التي لا تُقهر قد جعلتني أتعثر ، في اللحظة التي رفعت فيها ذراعي
عليهم ، بأن تعشش في قلبي غضبة جنونية أدت بي إلى أن اغمس يدي ّ في دم هذه
الحيوانات ، بينما هم يسخرون الآن منّي لأنهم أفلتوا منّي على الرغم مني واأسفاه
لكن حين يريد الإله بك شراً ، فإن اجبن الجبناء يفلت من أقوى الأقوياء ))(1).
ولا تبقى فكرة الأضداد تدور في الفلك (الهيراقليطسي) وحده بل أنها تأخذ
مداها عند (بارمنيدس) الذي ينظر إلى فكرة النسبية بمنظور جديد يقترن بمعطيات
داخلية وليست خارجية - كما هي عند (هيراقليطس)- فإذا كان الأخير قد
ارجع فكرة التغير الدائم وانعدام الصفات الثابتة في الأشياء إلى تركيبتها الذاتية
، والى الأضداد المتنازعة فيها ، فإن (بارمنيدس) نفى فكرة الحركة الدائمة وقال
بالثبات ، فما التغير المستمر لديه إلا محض وهم ، كما أن (( الكون
لا يدور حقاً ، على الإطلاق ، وإنما هو ساكن سكوناً مطلقاً . إن التغير والحركة
والتبدل لم تكن في نظره سوى أوهام مصدرها الحواس ))(2).
وهكذا يُقرُّ أن منبع الحركة وتبدل الصفات يعود لمصدر داخلي هو
الحواس الإنسانية التي تحاول أن تكيف الخارج بهيمنتها عليه ، وبذلك تغيب حقيقته
الأصيلة .
وبالتالي لا يعترف (بارمنيدس) إلا بما هو مدرك عقلياً ، فكل ما تدركه
الحواس هو وهم وخداع وهذا ما جعل فلسفته تتمركز في التمييز بين الحقيقة
والوهم ، والعقل والحواس وما ينتج عنهما من مركبات تترجم طبيعة كل منهما ، حيث
يمكن تثبيت العلاقة بين ثنائية (العقل /الحقيقة) - و (الحواس / الوهم ) من خلال
التركيبة التخطيطية الآتية ، التي يُدرجها (غُنار سكيربك و نِلز غيلجي) :
((العقل/ الحواس = الوجود/ العدم = السكون / التغير =
الوحدة / التعدد ))(3).
إن هذه الثنائيات التي تعود في أصولها إلى ثنائيتين رئيستين هما (العقل)
و(الحواس) واللتان يمكن حصرهما تبعاً للمخطط السالف بـ (العقل) = الوجود ، السكون
، الوحدة . و (الحواس) = العدم، التغير ، التعدد . تعطيان تصوراً واضحاً عن
متولدات الحقيقة ومتولدات الوهم من حيث أن الأولى ترتبط بـ(العقل) وان
الثانية ترتبط (بالحواس) .
وبمراجعة مسرحية (آياس) سيكتشف القارئ بروز ثنائية العقل والحواس فيقدمهما
(سوفوكليس) بطرح يشعر بالتوجه إلى الفصل بين الاثنين ، وهذا ما يساند في تعزيز
خاصية التأمل الميتامسرحي فـ( آياس) ينتج أفعاله عبر يقين عقلي يؤيد له مشروعيتها
، ولكن حاسته البصرية كانت تريه ما هو وهم، وما هو متقاطع مع الفهم الذي بنى عليه
المنطق العقلي قراراته ، وبذلك يتحقق تصادم عنيف ما بين البصر الخادع وما بين
المنطق العقلي المخدوع ، ومن ثم يكون ما هو ساكن ، متغير ، إذ أن الصورة الحقيقية
التي كانت تحيط بـ (آياس) هي صورة الحيوانات (وهي الصورة الساكنة العقلية) لكنها
دخلت في نطاق المتغير بعد أن كساها الوهم بصورة الأعداء ، أو أحلهم محلها ، أولئك
الذين كان يتحين (آياس) الفرصة للفتك بهم . وبعد أن يقع (آياس) فريسة لخداع الحواس
يتكشف له مجدداً وضع (الساكن) ، الذي هو في الأصل صورة الحيوانات التي أصبحت مجزرة
أمام عينيه ، وبذلك فانه ينتقل من الوجود إلى العدم . الوجود الطارئ الذي شكلته
الأوهام البصرية ، والعدم الذي هو انقشاع لتلكالصورة السابقة التي لم يعد لها وجود
في الأصل .
والمُلاحظ ، أن هذه الإزاحة المتبادلة بين الحسي والعقلي، وما يتولد عنهما
من مركبات (الوجود_ العدم) ،(السكون _ التغير) ،(الوحدة – التعدد)، تعطي انطباعاً
يشكل علامة ارتباط بالخاصية التأملية الميتامسرحية . والتي يتضح بروزها في نص
مسرحيتي (آياس) و(أوديب ملكاً) لـ (سوفوكليس).
وبالإمكان رصد طرح فكري آخر لدى (بارمنيدس) يؤسس إلى ثنائية تأملية أخرى
قوامها (الصورة) و(الفكر) ، من باب أن الأولى معطى خارجي ، وان الثاني
معطى داخلي ، فالثاني - ( الفكر) - لدى (بارمنيدس) يتوجه إلى الأول (الصورة –
الشئ) بقصد الاكتشاف والتعرف ، ومن ثم يكون امتلاك الأول لمشروعية وجوده
معتمداً على الثاني ، وإلا سيظل في عداد الوهم المرتبط بالإدراك الحسي ، يقول
(بارمنيدس) بصدد ذلك (( انك حين تفكر أو تتكلم ، فأنت تفكر
أو تتكلم عن شئ ما ويترتب على ذلك ضرورة وجود أشياء خارجية مستقلة تفكر
فيها وتتكلم عنها . وهذا أمر يمكنك أن تقوم به في مناسبات مختلفة عديدة ، ومن ثم
فإن موضوعات الفكر أو الكلام ينبغي أن توجد دائماً ))(4) .
بهذا يؤسس (بارمنيدس) علاقة تبادلية وتفاعلية تلفت الانتباه إلى الفكر بوصفه
مترجماً إلى مرجعياته الشيئية أو الصورية ، ومن خلال العلاقة المتبادلة
بين الفكر والشيء يتحقق الوجود الداعم الذي يساند الحقيقة ويزيح الوهم ، وفي ضوء
ذلك يضع (بارمنيدس) قانونه (( القائل إن اللاوجود المطلق
الخالي لا يمكن التفكير فيه على الإطلاق ))(5).
في ضوء ذلك يكون الانفصام بين الصورة والفكر ، علامة تأمل لهما، من حيث أن
وجودهما على هذا النحو يكون عاملا جدلياً يسترعي الانتباه والتركيز ، والمُلاحظ أن
في المثال السابق لمسرحية (آياس) يتركز هذا الانفصام بشدة في العلاقة المتضادة
الجامعة بين (الصورة – الفكر) وهو في الوقت نفسه يساند فكرة (الوجود – العدم )،
وفكرة (الساكن – المتغير) . فالفكر لا يقيم علاقته مع الصورة التي يُفترضُ
أن يكون لها محل من الوجود ، وبالتالي فانه علاقته تكون مع صورة استبدالية هي ليست
الصورة التي يتوجه إليها ، وبالتالي تدخل علاقة الارتباط الفكرية بهذه الصورة في
مسار (المتغير والعدم)
وقد تضامنت من زاوية أخرى أفكار الفيلسوف (ديمقريطس) مع بعض ما جاء به
(بارمنيدس)
من أفكار ، بصدد تمييزه بين (الوهمي والحقيقي) - الذي قدم له البحث أمثلة
درامية - ، فقد كانت (( من أهم آرائه التمييز بين الأشياء
كما هي عليه في حقيقتها ، والأشياء كما تبدو لنا ))(6). وأكد
(ديمقرطيس) عبر مقولته هذه على التشكيك بالإمكانات البشرية في التوصل إلى فهم
الحقائق ، وهذه الاستحالة في التوصل إلى الحقائق تعود إلى المجهود البشري الذي
ينصب على رؤية سطوح الأشياء في حين أن الحقيقة تغور في الأعماق ، وهي ليست من
اليسر أن يدركها احد ، من هذا الباب يأتي قول (ديمقرطيس) (( نحن
لا نعلم شيئاً على انه حقيقي ، لان الحقيقة تختبئ في الأعماق ))(7).
وعلى صعيد آخر وفي المضمار نفسه الداعم للخاصية التأملية الميتامسرحية ،
هناك فكرة فلسفية لا تنشغل بتحديد المقاييس المتعلقة بالحقيقي والوهمي بل تسعى إلى
رصد الأثر الفاعل الذي يتحدد من خلاله التمييز بين ثنائية المرئي واللامرئي ، فالمرئي
يدل على نفسه بنفسه ، واللامرئي أثره من يدل عليه. هذه الفكرة لها تقريب وفهم خاص
لدى الفيلسوف (لوكريتيس) الذي يثبت (( إن أول الأشياء كلها
هي قوة الرياح فهي عندما تثور تنقض على الموانئ وتقلب السفن الهائلة وتبعثر
السحب (...) أن الرياح تزمجر بوحشية وهي تعوي بصوت أجش ،
وتغضب بزئير يهدد بالهول . فالريح إذن وهي قطعاً أجسام لا يمكن رؤيتها ... طالما
نافست الأنهار الكبيرة التي هي أجسام يمكن رؤيتها ، في أعمالها وأساليبها ))(8).
وعبر ما يسوقه (لوكريتيس) من البراهين الدالة على تفوق اللامرئي وتمكنه من
المرئي من خلال القرائن المثبتة للأثر الفاعل للامرئي – أي الاستدلال القائم على
معاينة صورة الفعل التي هي علامة إحالة على منظومة الفاعل واستحضار له، وبرهنته
على نفسه وتصريحه بحضوره وتمكنه ، فيكون الأثر مزدوجاً - (اثر ملموس) قائم على
سلطان الفعل (المُصَوّر) ، و(اثر محسوس ) يلمح ويلوح إلى جبروت الغائب (صورة
الفاعل) – (غير المرئية) ، ومن خلال الخاصية التأملية الناتجة عن هذه الثنائية ،
ومدى ما يمكنها تحقيقه من ارتباط مع الخاصية ذاتها التي يقوم عليها الميتامسرح ،
بوصف أن اللامرئي بحسب الممارسة الميتامسرحية يتخذ له بديلاً نيابياً عنه ، وغالبا
ما يلوح المرئي (النائب) إلى اللامرئي الذي يؤكد حضوره من خلاله .
ففي مسرحية (انتيجونا) لـ (سوفوكليس) تمثل الآلهة قوة
(اللامرئي) ، ولكن اثر فعلها يدلل عليها ويشير إلى تحديها للقوة الكامنة في المرئي
- (كريون) وحاشيته . في ضوء ذلك تكون الرياح في مسرحية (انتيجونا) فعل من أفعال
اللامرئي (الإلهي) الذي يُخضعُ المرئي لجبروته ، - كما يتبدى ذلك في الوصف المروع
الذي تقدمه شخصية (الحارس) لـ (كريون) مرتكب الآثم : (( الحارس:
ها أنا ذا أشرح لك . لما رجعت ، وتحت طائلة تهديداتك المروّعة ، كنسنا تماماً
التراب الذي يُغطي الميّت ، مسحنا قدر المستطاع الجثة التي تتحلل ، ثم جلسنا على
قمة الصخور ، في مهب الريح ، حتى لاتصل إلينا الرائحة الخبيثة التي تنبعث منها ،
وكل واحد منّا حرص على أن يكون جاره مستيقظاً ، وانطلقت كلمات عالية ضد أولئك
الذين يتأففون من هذه المهمة ، وذلك حتى الساعة التي فيها يبلغ قرص ُ
الشمس كبد السماء ويشعل الجو . وفي هذه اللحظة هبت ريح عاتية فجاة فأثارت من الأرض
خرطوماً من التراب ، بليّة سماوية حقيقية غزت السهل وتخللت طُرق الغابة ، وملأت
السماء الشاسعة ببقاياها . وعانينا – وعيوننا مغلقة- المحنة التي أرسلتها
الآلهة ))(9).
كذلك يتجلى اثر اللامرئي باعتماده لبديل نيابي عنه
، فينتج عن ذلك علامة تحيل إليه ، والى علاقته بالمرئي ، مما ينتج الخاصية
التأملية ، ويتضح هذا الأمر في (الغربان) التي تشكل انبعاثاً جديداً ،
ضمن رؤية جديدة ، تؤيد حضور وسريان اللامرئي ، فيصبح وجودها
الدلالي متجاوزاً لذاتها متجهاً لاستحضار الآخر
المختفي:
(( تريسياس : (..) لقد كنت جالساً على مقعد العيافة القديم حيث استطيع أن
ألاحظ كل فأل . فإذا اسمع اصواتاً مختلطة تصدر عن الطير التي كانت تصيح في نشاط
مشئوم صيحات غامضة كأنها صيحات البرابرة (...) والمدينة تشقى بهذا
الشؤم ))(10).
كذلك الحال نفسه يتضح في مسرحية (ميديا) لـ (يوربيدس) حيث يتخذ
اللامرئي (الإله) وسيطا له يتمظهر من خلاله ، كما يتبدى في شخصية (ميديا) التي
تكون كل أفعالها هي انعكاس لإرادة اللامرئي ، والذي لا تكشف عن صورته إلا الخاتمة
في هذه المسرحية ، اي تلك اللحظة التي تكشف فيها القوى اللامرئية عن تدخلاتها جهرة
عبر إرسالها لتلك العربة التي يسحبها التنين لتنقذ (ميديا) وتناصرها وهي في حالة الجرم
الفادح .
وهذه الخاتمة تتضمن الخاصية النقدية الميتامسرحية ، إذ يستغني
(يوربيدس) عن الخطاب اللغوي الناقد ليستعيض عنه بالخطاب الصوري،الذي يمثل عمق
الإشارة المُدينة للإله وارتباطه بالجريمة.
الهوامش
(1) سوفوكليس
، تراجيديات سوفقليس : مسرحية آياس ، ترجمة وتقديم وتعليق
: د. عبد الرحمن بدوي ، ط1 ( بيروت : المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، 1996)
، ص 47- 48 .
(2) بنيامين فارنتن
، العلم الاغريقي ، ترجمة : احمد شكري سالم ، مراجعة : حسين كامل
أبو الليف ، تقديم : مصطفى لبيب ، ج1، ط1 ، ( القاهرة : المركز القومي
للترجمة ، 2011) ، ص 66.
(3) غنار سيكربك و
نِلز غيلجي ، تاريخ الفكر الغربي من اليونان القديمة الى القرن العشرين ،
ترجمة : د. حيدر حاج اسماعيل ، ط1 ، ( بيروت : المنظمة العربية للترجمة ،
2012) ، ص 55.
(4) برتراند رسل ، حكمة
الغرب : عرض تاريخي للفلسفة الغربية في اطارها الاجتماعي والسياسي ،
ترجمة : د. فؤاد زكريا ، ج1 ، ط2 ، ( الكويت : المجلس الوطني للثقافة والفنون
والاداب ، 2009)، ص 56 .
(5) أ.هـ . آرمسترونغ ، مدخل الى الفلسفة القديمة ،ترجمة
: سعيد الغانمي ، ط1 ( بيروت : المركز الثقافي العربي ، 2009
) ، ص 41.
(6) برتراند رسل ،
مصدر سابق ، ص 85.
(7) د.
محمد حسين النجم ، السوفسطائية في الفكر اليوناني اطروحتها ونقدها ،
ط1 ( بغداد : بيت الحكمة ، سلسلة عالم الحكمة رقم (3) ، 2008 ) ، ص 80 .
(8) بنيامين فارنتن ، ، مصدر سابق ،
ص 71 .
(9) سوفوكليس ، تراجيديات
سوفوقليس: مسرحية انتيجونا ، مصدر سابق ، ص 174.
(10) سوفوكليس ، من الادب
التمثيلي اليوناني : مسرحية انتيجونا ، ترجمة : طه حسين ، ط2 ، ( بيروت :
دار العلم للملاين ، 1978 ) ، ص 171.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق