تقديم:
كثيرا
ما يتم الخلط بين كلمتي "الوباء" و"الجائحة" من طرف معظم الناس،
بالرغم من اختلاف دلالتهما. ولئن اشترك
"الوباء" مع "الجائحة"، عموما، في خصائص العدوى (الانتقال) بين الناس، (سرعة) التفشي
على نطاق واسع، إمكانية الاستمرار لمدة من الزمن (لأسابيع وشهور أو حتى لسنوات) واستعجالية التدابير
لاحتواء خطورته، فإن كل واحد منهما يفيد معنى مختلفا عن الآخر، مما يجعل الخلط بينهما أمرا مسببا للارتباك والغموض. عموما، يحدث الوباء عندما يظهر
مرض معدي وسريع الانتشار في مدينة أو إقليم ما، أو في عدة مناطق متقاربة أو ممتدة. أما
الجائحة فهو حالة يتجاوز فيها الوباء حالة "المحلية"،
"الإقليمية" و"البؤرية" ، ليجتاح دولا كثيرة ونطاقات جغرافية وسكانية أوسع، أو يصيب
قارات بأكملها ( وباء "جائح" أو عابر للقارات )،
مخلفا بذلك نسب وفيات مرتفعة مقارنة مع الوباء، علاوة على الاضطرابات الاجتماعية
والخسائر الاقتصادية والمتاعب العامة للدول التي شملها المرض.
يؤدي ظهور الجائحة إلى وضع الأنظمة الوطنية
(اقتصادية، صحية، اجتماعية)، مستوى وعي الأفراد، نجاعة التدابير/التدخلات المعتمدة
والمخططات الاستباقية وقت الطوارئ لغالبية دول العالم "على المحك". ذلك أن سرعة وسهولة تفشي الوباء (المرض) بين
السكان و(احتمالية) خروجه عن السيطرة، مع غياب لقاحات/علاجات فورية، سرعان ما يربك
السير العادي لمختلف القطاعات الحيوية، مما يضطر الدول المتخلفة والمتقدمة على حد السواء، إلى اتخاذ جملة من
التدابير الوقائية والعلاجية للتصدي
للجائحة. ويعتبر شل الحركية الاقتصادية، خاصة المبادلات التجارية وتنقلات الأفراد
بين الدول، أبرز هذه الإجراءات المتخذة للحد، ما أمكن، من وفود (دخول) المرض
(الوباء)، وتطويق مجالات انتشاره، وللحيلولة دون ظهور بؤر محلية لخطورتها الكبيرة لكونها مرحلة متقدمة من
الجائحة (مرحلة البؤرية أو التوطين).
وبمجرد تطبيق الإجراءات المتعلقة بشل
الاقتصادات الوطنية للدول بسبب الجائحة،
يبرز نمط جديد من الاقتصاد، يمكن تسميته ب"الاقتصاد السباتي" hibernal
economy. ويعد
إحداث قطيعة اقتصادية مع دول العالم الخارجي أهم التدابير التي تفرز هذا النمط
الجديد من الاقتصاد، حيث تتوقف كل أشكال المبادلات التجارية بين الدول وتتوقف
عمليات التصدير والاستيراد بين دول العالم. مما يفرز وضعا جديدا يتسم بانكماش كل
دولة على نفسها، وتوقف المعاملات الاقتصادية العابرة للدول والقارات. إنه وضع جديد
يفرض على كل دولة الدخول في نمط "اقتصاد سباتي"، وذلك الاعتماد الكلي على
أنظمتها وقطاعاتها الداخلية للبقاء على قيد الحياة، في ظل تفشي الجائحة والخسائر المرتبطة
بها على جميع الأصعدة. كما أنه وضع كفيل بمسائلة، بشكل واقعي، موضوعي وشفاف، لعمل
الحكومات والأنظمة الوطنية بخصوص متانة ونجاعة أداء كافة القطاعات الحيوية، كالصحة
والفلاحة والتعليم والأمن والإعلام.
يستمد "الاقتصاد السباتي" مرجعيته
(فكرته) من الطبيعة بشكل خاص. فكما أن
مجموعة من الطيور والحيوانات والنباتات والزواحف يمكنها الدخول في سبات مرتبط
بظرفية ومواسم محددة (الظروف الطبيعية)، فكذلك يمكن للاقتصادات الوطنية أن تنتهج
وتتبع نفس ال(م)نهج في كل مد جائحي أو وبائي فتاك (الأزمات والطوارئ)، حتى تمر
الظروف غير الملائمة المستجدة وتعود الحرك(ي)ة الاقتصادية إلى وضعها الطبيعي
المعتاد. فالدب مثلا كأحد الحيوانات السباتية، يلجأ إلى السبات/النوم كتكتيك طبيعي
(الحجر الجحري) في فصل الشتاء، للبقاء على قيد الحياة عن طريق التعايش مع ندرة
الطعام وصعوبة الطقس (البرد). لكن وقبل الدخول في هذا السبات، يعمل الدب في أواخر
الصيف وفي أوائل الخريف (فترة ما قبل الأزمة/الجائحة في سياقنا الحالي) على تكثيف
عمليات الصيد (تعبئة الموارد المحلية) والأكل (البناء والاستثمار) لتخزين الدهون (خلق الثروة
الوطنية) لتزويد جسمه بالطاقة الكافية، ولاجتياز مرحلة السبات أو "الحجر الوجودي"
بأمان (ما بعد الجائحة/الأزمة).
إلى جانب الدببة، تدخل الخفافيش في سبات
عميق عندما يأتي موسم تغيب فيه الإمدادات الغذائية (المعاملات التجارية والمساعدات
الدولية)، وتشح فيه فرص صيد الفرائس (الاقتصادية) في البيئة الخارجية. وهي أيضا لا
تدخل في هذا السبات إلا عندما تكون قد خزنت ما يكفيها من الدهون (الثروة) التي
ستبقيها على قيد الحياة طوال تلك الفترة. أيضا، تدخل السناجيب، القنافذ والزواحف
في سبات قد يمتد لشهور، لكن بعد أن التهمت الكثير من الطعام لخلق طبقات
من الشحوم (بنيات تدبير الجائحة
الاستباقية) تتغذى منها طوال تلك المدة (الأزمة). فلولا خططها الغذائية الاستباقية
وقوة نظام الخلايا (القطاعات الداخلية الحيوية) عندها ما استطاعت البقاء على قيد الحياة،
طوال الشتاء البارد المتسم بشح الغذاء وارتباك نمط الحياة (اختلال الموازين
الدولية والارتباك العام).
ما إن تدخل دولة ما في وضع "اقتصاد سباتي"
حتى تجد نفسها مرغمة على تدبير ما لديها من إمكانات وموارد غذائية وصحية ومالية
ذاتية. والرهان الأكبر هو تخطي ظروف وافرازات الجائحة، حيث تنخفض درجة المعاملات
التجارية الداخلية إلى أدنى المستويات، ويقل معدل دقات الاقتصاد بشكل عام، ويرتفع
معدل وعي ويقظة الحكومة والأفراد بخطورة الوضع الناتج عن الجائحة، وإن اختلفت
تجليات ذلك الوعي من دولة لأخرى... إنه "وضع جائحي" مثير ومربك في آن
واحد، لأنه لا يسمح حتى لخبراء الاقتصاد العالمي بالتكهن بما سيكون عليه العالم
اقتصاديا، جيو-سياسيا، ثقافيا وقيميا في حقبة ما بعد الجائحة. لكن الشيء المتيقن
منه في حقبة ما بعد الجائحة، هي أن الدول الوطنية الحقيقية، ستضاعف جهودها من أجل
تقوية اقتصاداتها، مختبراتها البحثية، بنايتها الصحية والخدماتية، مدارسها
وجامعاتها، مع (زيادة) الاستثمار الفكري، العلمي والثقافي في أفراد مجتمعها قبل كل
شيء. في حين سترزح الدول التي تستمتع ب"اللسع/اللدغ المتعدد" دون اكتراث، تحت وطأة "الصدمة المزدوجة"
(صدمة الاستعمار والجائحة) بحلول أي وباء أو بتجدد أي جائحة في المستقبل، لأنها
ستنصرف، كما العادة، نحو صناعة التفاهة الفادحة، الاستثمار في الجهل وتبخيس
المعرفة والمعلم.
خلاصة: الدول المتخلفة كعادتها لن تلتقط الرسائل
البليغة للجائحة، ولن يمنعها من العودة إلى حياة الغناء والرقص والتفاهة سوى
انحصار المرض أو زواله المرحلي. والدول الوطنية الحقيقية ستستغل كل امكاناتها
البشرية والاقتصادية والعلمية لوضع برامج/مخططات خاصة ب"اقتصادات سباتية"
تستعين بها وقت تفشي الجائحات والأزمات للبقاء على قيد الحضارة. وهذا لن يتأتى إلا
بتقوية جهازها المناعي الداخلي المتمثل في قطاعات صحية، تعليمية، أمنية، اجتماعية،
زراعية وقيمية/أخلاقية قوية، مع هجرة مقاربة الاعتماد
الأعمى والكلي على غيرها من الدول مهما ربطتها بها روابط لغوية-ثقافية،
جيو-بوليتيكية، تاريخية-استعمارية، معاهداتية-اقتصادية ... والعزلة التي تعيشها
دول العالم حاليا، وانكماشها على نفسها، وحتمية تدبير والإقتيات مما قدمته لشعوبها
في حقبة ما قبل الجائحة (الأزمة)، درس بليغ لمشهد يجب أن يكون المنطلق لمسيرة
البناء الداخلي لأوطان ما بعد الجائحة...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق